الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب من صام في السفر ثم أفطر وقد اختلف في من صام في السفر ثم أفطر من غير عذر ، فقال أصحابنا : " عليه القضاء ولا كفارة " وكذلك لو أصبح صائما ثم سافر فأفطر ، أو كان مسافرا فصام وقدم فأفطر ، فعليه القضاء في هذه الوجوه ولا كفارة عليه وذكر ابن وهب عن مالك في الصائم في السفر إذا أفطر : " عليه القضاء والكفارة " وقال مرة : " لا كفارة " . وروى ابن القاسم عن مالك أن عليه الكفارة وقال : " لو أصبح صائما في حضره ثم سافر فأفطر فليس عليه إلا القضاء " وقال الأوزاعي : " لا كفارة على المسافر في الإفطار " . وقال الليث : " عليه الكفارة " .

قال أبو بكر : الأصل في ذلك أن كفارة رمضان تسقطها الشبهة ، فهي بمنزلة الحد ؛ والدليل على ذلك أنها لا تستحق إلا بمأثم مخصوص كالحدود ، فلما كانت الحدود تسقطها الشبهة كانت كفارة رمضان بمثابتها ، فإذا ثبت ذلك قلنا : إنه متى أفطر في حال السفر فإن وجود هذه الحال مانع من وجوب الكفارة ؛ لأن السفر يبيح الإفطار فأشبه عقد النكاح وملك اليمين في إباحتهما الوطء وإن كانا غير مبيحين لوطء الحائض ، إلا أنهم متفقون على أن وجود السبب المبيح للوطء في الأصل مانع من وجوب الحد .

وإن لم يبح هذا الوطء بعينه ، كذلك السفر وإن لم يبح الإفطار بعد الدخول في الصوم فإنه يمنع وجوب الكفارة ؛ إذ كان في الأصل قد جعل سببا لإباحة الإفطار ؛ فلذلك قلنا : إذا أفطر وهو مسافر فلا كفارة عليه وقد روى ابن عباس وأنس بن مالك وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر في السفر بعدما دخل في الصوم وذلك لتعليم الناس جواز الإفطار فيه ، فغير جائز فيما كان هذا وصفه إيجاب الكفارة على المفطر فيه .

ووجه آخر : وهو أنه لما لم يكن فعل الصوم مستحقا عليه في السفر أشبه الصائم في قضاء رمضان أو في صوم نذر أو كفارة ، فلا تجب عليه الكفارة بإفطاره فيه ؛ إذ كان له بديا أن لا يصومه ، ولم يكن لزوم إتمامه بالدخول فيه موجبا عليه [ ص: 269 ] الكفارة عند الإفطار ، فكذلك المسافر إذا صام ثم أفطر ، وأما إذا أصبح مقيما ثم سافر فأفطر فهو كما وصفنا من وجود الحال المبيحة للإفطار وهي حال السفر ، كوجود النكاح وملك اليمين في إباحة الوطء وإن لم يبح وطء الحائض

فإن قيل : فهذا لم يكن له في ابتداء النهار ترك الصوم لكونه مقيما فينبغي أن يوجب عليه الكفارة ؛ إذ كان فعل الصوم مستحقا عليه في ابتداء النهار .

قيل له : لا يجب ذلك ؛ لأنه قد طرأ من الحال ما يمنع وجوب الكفارة وهو ما وصفنا ، وأما إذا كان مسافرا فقدم ثم أفطر فلا كفارة عليه ؛ لأنه قد كان له أن لا يصوم مبدئا فأشبه الصائم في قضاء رمضان وكفارة اليمين ونحوها .

واختلف في المسافر يفطر ثم يقدم من يومه والحائض تتطهر في بعض النهار ، فقال أصحابنا والحسن بن صالح والأوزاعي : " عليهما القضاء ويمسكان بقية يومهما عما يمسك عنه الصائم " وهو قول عبيد الله بن الحسن ، وقال ابن شبرمة في المسافر إذا قدم ولم يأكل شيئا : " إنه يصوم بقية يومه ويقضي ، ولو طهرت المرأة من حيضها فإنها تأكل ولا تصوم " .

وقال ابن القاسم عن مالك في المرأة تطهر والمسافر يقدم وقد أفطر في السفر : " إنه يأكل ولا يمسك " وهو قول الشافعي ؛ وروي عن جابر بن زيد مثله ، وروى الثوري عن عبد الله أنه قال : " من أكل أول النهار فليأكل آخره " ولم يذكر سفيان عن نفسه خلاف ذلك وقال ابن القاسم عن مالك : " لو أصبح ينوي الإفطار وهو لا يعلم أنه من رمضان فإنه يكف عن الأكل والشرب ويقضي ، فإن أكل أو شرب بعد أن علم في يومه ذلك فلا كفارة عليه إلا أن يكون أكل جرأة على ما ذكرت لك ، فتجب عليه الكفارة " .

قال أبو بكر : لما اتفقوا على أن من غم عليه هلال رمضان فأكل ثم علم به يمسك عما يمسك عنه الصائم ، كذلك الحائض والمسافر ، والمعنى الجامع بينهما أن الحال الطارئة عليهم بعد الإفطار لو كانت موجودة في أول النهار كانوا مأمورين بالصيام ، فكذلك إذا طرأت عليهم وهم مفطرون أمروا بالإمساك .

ويدل على صحة ذلك أيضا أمر النبي صلى الله عليه وسلم الآكلين يوم عاشوراء بالإمساك مع إيجاب القضاء عليهم ، فصار ذلك أصلا في نظائره مما وصفناه ، وأما قول مالك في إيجابه الكفارة عليه إذا أكل جرأة على ذلك فلا معنى له ؛ لأن هذه كفارة يختص وجوبها بإفساد الصوم على وصف ، وهذا الآكل لم يفسد صوما بأكله فلا تجب عليه فيه كفارة ؛ والله تعالى أعلم بالصواب .

[ ص: 270 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية