الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب وقوع الفرقة باختلاف الدارين

قال الله - تعالى - : فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن الآية . قال أبو بكر : في هذه الآية ضروب من الدلالة على وقوع الفرقة باختلاف الدارين بين الزوجين . واختلاف الدارين أن يكون أحد الزوجين من أهل دار الحرب والآخر من أهل دار الإسلام وذلك ؛ لأن المهاجرة إلى دار الإسلام قد صارت من أهل دار الإسلام وزوجها باق على كفره من أهل دار الحرب فقد اختلفت بهما الداران ، وحكم الله بوقوع الفرقة بينهما بقوله : فلا ترجعوهن إلى الكفار

[ ص: 329 ] ولو كانت الزوجية باقية لكان الزوج أولى بها بأن تكون معه حيث أراد ، ويدل عليه أيضا قوله : لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ؛ وقوله : وآتوهم ما أنفقوا يدل عليه أيضا ؛ لأنه أمر برد مهرها على الزوج ، ولو كانت الزوجية باقية لما استحق الزوج رد المهر ؛ لأنه لا يجوز أن يستحق البضع وبدله ، ويدل عليه قوله : ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولو كان النكاح الأول باقيا لما جاز لها أن تتزوج ويدل عليه قوله : ولا تمسكوا بعصم الكوافر والعصمة المنع ، فنهانا أن نمتنع من تزويجها لأجل زوجها الحربي .

واختلف أهل العلم في الحربية تخرج إلينا مسلمة ، فقال أبو حنيفة في الحربية تخرج إلينا مسلمة ولها زوج كافر في دار الحرب : " قد وقعت الفرقة فيما بينهم ولا عدة عليها " وقال أبو يوسف ومحمد : " عليها العدة ، وإن أسلم الزوج لم تحل له إلا بنكاح مستقبل " ، وهو قول الثوري وقال مالك والأوزاعي والليث والشافعي : " إن أسلم الزوج قبل أن تحيض ثلاث حيض فقد وقعت الفرقة " . ولا فرق عند الشافعي بين دار الحرب وبين دار الإسلام ، لا حكم للدار عنده . قال أبو بكر : روى قتادة عن سعيد بن المسيب عن علي قال : " إذا أسلمت اليهودية والنصرانية قبل زوجها فهو أحق بها ما داموا في دار الهجرة " .

وروى الشيباني عن السفاح بن مطر عن داود بن كردوس قال : " كان رجل من بني تغلب نصراني عنده امرأة من بني تميم نصرانية فأسلمت المرأة وأبى الزوج أن يسلم ، ففرق عمر بينهما " وروى ليث عن عطاء وطاوس ومجاهد في النصراني تسلم امرأته قالوا : " إن أسلم معها فهي امرأته ، وإن لم يسلم فرق بينهما " .

وروى قتادة عن مجاهد قال : " إذا أسلم وهي في عدتها فهي امرأته ، وإن لم تسلم فرق بينهما " ، وروى حجاج عن عطاء مثله ، وعن الحسن وابن المسيب مثله وقال إبراهيم : " إن أبى أن يسلم فرق بينهما " وروى عباد بن العوام عن خالد عن عكرمة عن ابن عباس قال : " إذا أسلمت النصرانية قبل زوجها فهي أملك لنفسها " قال أبو بكر : حصل اختلاف السلف في ذلك على ثلاثة أنحاء ؛ فقال علي رضي الله عنه : " هو أحق بها ما داموا في دار الهجرة " ، وهذا معناه عندنا إذا كانا في دار واحدة ، ومتى اختلفت بهما الدار فصار أحدهما في دار الحرب والآخر في دار الإسلام بانت ، وقال عمر رضي الله عنه : " إذا أسلمت وأبى الزوج الإسلام فرق بينهما " .

وهذا أيضا على أنهما في دار الإسلام وقال آخرون ممن ذكرنا قوله : " هي امرأته ما دامت في العدة فإذا انقضت العدة وقعت الفرقة " ، وقال ابن عباس : " تقع الفرقة بإسلامها " واتفق فقهاء الأمصار على أنها لا تبين [ ص: 330 ] منه بإسلامها إذا كانا في دار واحدة واختلفوا في وقت وقوع الفرقة إذا أسلمت ولم يسلم الزوج ، فقال أصحابنا : " إن كانا ذميين لم تقع الفرقة حتى يعرض الإسلام عليه ، فإن أسلم ، وإلا فرق بينهما " ، وهو معنى ما روي عن علي وعمر ، وقالوا : " إن كانا حربيين في دار الحرب فأسلمت فهي امرأته ما لم تحض ثلاث حيض ، فإذا حاضت ثلاث حيض قبل أن يسلم فرق بينهما " ويجوز أن يكون من روي عنه من السلف اعتبار الحيض إنما أرادوا به الحربيين في دار الحرب وقال أصحابنا : " إذا أسلم أحد الحربيين ، وخرج إلينا أيهما كان وبقي الآخر في دار الحرب فقد وقعت الفرقة باختلاف الدارين " وقد ذكرنا وجوه دلائل الآية على صحة هذا القول ومن الدليل على ذلك قوله : والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم قال أبو سعيد الخدري : " نزلت في سبايا أوطاس كان لهن أزواج في الشرك وأباحهن لهم بالسبي " وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله : والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم قال : " كل ذات زوج فإتيانها زنا إلا ما سبيت " وقال النبي صلى الله عليه وسلم في السبايا : لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة .

واتفق الفقهاء على جواز وطء المسبية بعد الاستبراء ، وإن كان لها زوج في دار الحرب إذا لم يسب زوجها معها ، فلا يخلو وقوع الفرقة من أن يتعلق بإسلامها أو باختلاف الدارين على الحد الذي بينا أو بحدوث الملك عليها ، وقد اتفق الجميع على أن إسلامها لا يوجب الفرقة في الحال ؛ وثبت أيضا أن حدوث الملك لا يرفع النكاح بدلالة أن الأمة التي لها زوج إذا بيعت لم تقع الفرقة .

وكذلك إذا مات رجل عن أمة لها زوج لم يكن انتقال الملك إلى الوارث رافعا للنكاح ، فلم يبق وجه لإيقاع الفرقة إلا اختلاف الدارين فإن قيل : اختلاف الدارين لا يوجب الفرقة ؛ لأن المسلم إذا دخل دار الحرب بأمان لم يبطل نكاح امرأته ، وكذلك لو دخل حربي إلينا بأمان لم تقع الفرقة بينه وبين زوجته ، وكذلك لو أسلم الزوجان في دار الحرب ثم خرج أحدهما إلى دار الإسلام لم تقع الفرقة ، فسلمنا أنه لا تأثير لاختلاف الدارين في إيجاب الفرقة قيل له : ليس معنى اختلاف الدارين ما ذهبت إليه ، وإنما معناه أن يكون أحدهما من أهل دار الإسلام إما بالإسلام أو بالذمة والآخر من أهل دار الحرب فيكون حربيا كافرا ، فأما إذا كانا مسلمين فهما من أهل دار واحدة ، وإن كان أحدهما مقيما في دار الحرب والآخر في دار الإسلام فإن احتج المخالف لنا بما روى يونس عن محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس [ ص: 331 ] قال : رد النبي صلى الله عليه وسلم ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول بعد ست سنين ، وقد كانت زينب هاجرت إلى المدينة وبقي زوجها بمكة مشركا ثم ردها عليه بالنكاح الأول ، وهذا يدل على أنه لا تأثير لاختلاف الدارين في إيقاع الفرقة فيقال : لا يصح الاحتجاج به للمخالف من وجوه . أحدها : أنه قال : " ردها بعد ست سنين بالنكاح الأول " ؛ لأنه لا خلاف بين الفقهاء أنها لا ترد إليه بالعقد الأول بعد انقضاء ثلاث حيض ، ومعلوم أنه ليس في العادة أنها لا تحيض ثلاث حيض في ست سنين ، فسقط احتجاج المخالف به من هذا الوجه .

ووجه آخر : وهو ما روى خالد عن عكرمة عن ابن عباس في اليهودية تسلم قبل زوجها أنها أملك لنفسها ؛ فكان من مذهبه أن الفرقة قد وقعت بإسلامها ، وغير جائز أن يخالف النبي صلى الله عليه وسلم فيما قد رواه عنه .

والوجه الثالث : أن عمرو بن شعيب روى عن أبيه عن جده : أن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على أبي العاص بنكاح ثان فهذا يعارض حديث داود بن الحصين ، وهو مع ذلك أولى ؛ لأن حديث ابن عباس إن صح فإنما هو إخبار عن كونها زوجة له بعدما أسلم ، ولم يعلم حدوث عقد ثان ، وفي حديث عمرو بن شعيب الإخبار عن حدوث عقد ثان بعد إسلامه ، فهو أولى ؛ لأن الأول إخبار عن ظاهر الحال ، والثاني إخبار عن معنى حادث قد علمه ، وهذا مثل ما تقوله في رواية ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم ، وحديث يزيد بن الأصم أنه تزوجها وهو حال .

فقلنا : حديث ابن عباس أولى ؛ لأنه أخبر عن حال حادثة وأخبر الآخر عن ظاهر الأمر الأول ، وكحديث زوج بريرة أنه كان حرا حين أعتقت ورواية من روى أنه كان عبدا ، فكان الأول أولى لإخباره عن حال حادثة علمها ، وأخبر الآخر عن ظاهر الأمر الأول ولم يعلم حدوث حال أخرى .

التالي السابق


الخدمات العلمية