الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب وجوب خطبة الجمعة قال الله تعالى : فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع فاقتضى ذلك وجوب السعي إلى الذكر ، ودل على أن هناك ذكرا واجبا يجب السعي إليه وقال ابن المسيب : فاسعوا إلى ذكر الله موعظة الإمام " وقال عمر في الحديث الذي قدمنا : " إنما قصرت الجمعة لأجل الخطبة " وروى الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناس الأول فالأول فإذا خرج الإمام طويت الصحف واستمعوا الخطبة ، فالمهجر إلى الجمعة كالذي يهدي بدنة ثم الذي يليه كالمهدي بقرة ثم الذي يليه كالمهدي شاة ثم الذي يليه كالمهدي دجاجة ثم الذي يليه كالمهدي بيضة ويدل على أن المراد بالذكر ههنا هو الخطبة ؛ لأن الخطبة هي التي [ ص: 339 ] تلي النداء ، وقد أمر بالسعي إليه ، فدل على أن المراد الخطبة وقد روي عن جماعة من السلف أنه إذا لم يخطب صلى أربعا ، منهم الحسن وابن سيرين وطاوس وابن جبير وغيرهم ، وهو قول فقهاء الأمصار واختلف أهل العلم فيمن لم يدرك الخطبة وأدرك الصلاة أو بعضها ، فروي عن عطاء بن أبي رباح في الرجل تفوته الخطبة يوم الجمعة : أنه يصلي الظهر أربعا " وروى سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وعطاء وطاوس قالوا : من لم يدرك الخطبة يوم الجمعة صلى أربعا " وقال ابن عون : ذكر لمحمد بن سيرين قول أهل مكة إذا لم يدرك الخطبة يوم الجمعة صلى أربعا ، قال : ليس هذا بشيء .

قال أبو بكر : ولا خلاف بين فقهاء الأمصار والسلف ما خلا عطاء ومن ذكرنا قوله أن من أدرك ركعة من الجمعة أضاف إليها أخرى ، ولم يخالفهم عطاء وغيره أنه لو شهد الخطبة فذهب يتوضأ ثم جاء فأدرك مع الإمام ركعة أنه يصلي ركعتين ، فلما لم يمنعه فوات الركعة من فعل الجمعة كانت الخطبة أولى وأحرى بذلك .

وروى الأوزاعي عن عطاء أن من أدرك ركعة من الجمعة أضاف إليها ثلاثا ، وهذا يدل على أنه فاتته الخطبة وركعة منها وروي عن عبد الله بن مسعود وابن عمر وأنس والحسن وابن المسيب والنخعي والشعبي : " إذا أدرك ركعة من الجمعة أضاف إليها أخرى " وروى الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أدرك ركعة من الجمعة فليصل إليها أخرى ، ومن فاتته الركعتان يصلي أربعا واختلف السلف وفقهاء الأمصار فيمن أدرك الإمام في التشهد ، فروى أبو وائل عن عبد الله بن مسعود قال : " من أدرك التشهد فقد أدرك الصلاة " وروى ابن جريج عن عبد الكريم عن معاذ بن جبل قال : " إذا دخل في صلاة الجمعة قبل التسليم وهو جالس فقد أدرك الجمعة " وروي عن الحسن وإبراهيم والشعبي قالوا : " من لم يدرك الركوع يوم الجمعة صلى أربعا " وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : " إذا أدركهم في التشهد صلى ركعتين " وقال زفر ومحمد : " يصلي أربعا " وذكر الطحاوي عن ابن أبي عمران عن محمد بن سماعة عن محمد أنه قال : " يصلي أربعا ، يقعد في الثنتين الأوليين قدر التشهد فإن لم يقعد قدر التشهد أمرته أن يصلي الظهر أربعا " .

وقال مالك والثوري والحسن بن صالح والشافعي : " يصلي أربعا " ، إلا أن مالكا قال : " إذا قام يكبر تكبيرة أخرى " وقال الثوري : " إذا أدرك الإمام جالسا لم يسلم صلى أربعا ينوي الظهر ، وأحب إلي أن يستفتح الصلاة " وقال عبد العزيز بن أبي سلمة : " إذا أدرك الإمام يوم الجمعة في التشهد قعد بغير تكبير ، فإذا سلم الإمام قام فكبر ودخل في الصلاة نفسه ، [ ص: 340 ] وإن قعد مع الإمام بتكبير سلم إذا فرغ الإمام ثم قام فكبر للظهر " وقال الليث : " إذا أدرك ركعة مع الإمام يوم الجمعة وعنده أن الإمام قد خطب فإنما يصلي إليها ركعة أخرى ثم يسلم ، فإن أخبره الناس أن الإمام لم يخطب وأنه صلى أربعا صلى ركعتين وسجد سجدتي السهو " .

قال أبو بكر : لما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا وجب على مدرك الإمام في تشهد الجمعة اتباعه فيه والقعود معه ، ولما كان مدركا لهذا الجزء من الصلاة وجب عليه قضاء الفائت منها بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم وما فاتكم فاقضوا " ، والفائت منها هي الجمعة ، فوجب أن يقضي ركعتين وأيضا لما كان مدرك المقيم في التشهد لزمه الإتمام إذا كان مسافرا وكان بمنزلة مدركه في التحريمة وجب مثله في الجمعة ؛ إذ الدخول في كل واحدة من الصلاتين بغير الفرض .

فإن قيل : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من أدرك ركعة من الجمعة فليصل إليها أخرى وفي بعض الأخبار : وإن أدركهم جلوسا صلى أربعا قيل له : أصل الحديث : من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك ، فقال الزهري وهو راوي الحديث : ما أرى الجمعة إلا من الصلاة ؛ فذكر الجمعة إنما هو من كلام الزهري ؛ والحديث إنما يدور على الزهري ، مرة يرويه عن سعيد بن المسيب ومرة عن أبي سلمة عن أبي هريرة ، وقد قال حين روى الحديث في صلاة مطلقة : أرى الجمعة من الصلاة ؛ فلو كان عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم نص في الجمعة لما قال : ما أرى الجمعة إلا من الصلاة وعلى أن قوله : من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك لا دلالة فيه أنه إذا لم يدرك ركعة صلى أربعا ، كذلك قوله : من أدرك ركعة من الجمعة فليضف إليها ركعة أخرى وأما ما روي : " وإن أدركهم جلوسا صلى أربعا " فإنه لم يثبت أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وجائز أن يكون من كلام بعض الرواة أدرجه في الحديث ، ولو صح عن النبي صلى الله عليه وسلم كان معناه : وإن أدركهم جلوسا وقد سلم الإمام .

ولم يختلف الفقهاء أن وجوب الجمعة مخصوص بالأحرار البالغين المقيمين دون النساء والعبيد والمسافرين والعاجزين ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أربعة لا جمعة عليهم : العبد والمرأة والمريض والمسافر وأما الأعمى فإن أبا حنيفة قال : " لا جمعة عليه " وجعله بمنزلة المقعد ؛ لأنه لا يقدر على الحضور بنفسه إلا بغيره ، وقال أبو يوسف ومحمد : " عليه الجمعة " وفرقا بينه وبين المقعد ؛ لأن الأعمى بمنزلة من لا يهتدي الطريق فإذا هدي سعى بنفسه ، والمقعد لا يمكنه السعي بنفسه ويحتاج إلى من يحمله وفرق أبو حنيفة بين الأعمى وبين من لا يعرف الطريق ؛ لأن الذي لا يعرف وهو بصير إذا أرشد اهتدى بنفسه والأعمى لا يهتدي بنفسه ولا يعرفه [ ص: 341 ] بالإرشاد والدلالة ، ويحتج لأبي يوسف ومحمد بحديث أبي رزين عن أبي هريرة أن ابن أم مكتوم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني ضرير شاسع الدار وليس لي قائد يلازمني أفلي رخصة أن لا آتي المسجد ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا وفي خبر حصين بن عبد الرحمن عن عبد الله بن شداد عن ابن أم مكتوم نحوه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أتسمع الإقامة قال : نعم ، قال : فأتها .

التالي السابق


الخدمات العلمية