الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب لزوم صوم التطوع بالدخول فيه قوله عز وجل : ثم أتموا الصيام إلى الليل يدل على أن من دخل في صوم التطوع لزمه إتمامه ؛ وذلك لأن قوله : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم عام في سائر الليالي التي يريد الناس الصوم في صبيحتها ، وغير جائز الاقتصار به على ليالي صيام رمضان دون [ ص: 291 ] غيره لما فيه من تخصيص العموم بلا دلالة ، ولما كان حكم اللفظ مستعملا في إباحة الأكل والشرب في ليالي صوم التطوع ثبت أنها مرادة باللفظ ، فإذا كان كذلك ثم عطف عليه قوله : ثم أتموا الصيام إلى الليل اقتضى ذلك لزوم إتمام الصوم الذي صح له الدخول فيه تطوعا كان ذلك الصوم أو فرضا ، وأمر الله تعالى على الوجوب فغير جائز لأحد دخل في صوم التطوع أو الفرض الخروج منه بغير عذر ؛ وإذا لزم المضي فيه وإتمامه بظاهر الآية فقد صح عليه وجوبه ، ومتى أفسده لزمه قضاؤه كسائر الواجبات .

فإن قيل : قد روي أن الآية نزلت في صوم الفرض ، فوجب أن يكون مقصور الحكم عليه ، قيل له : نزول الآية على سبب لا يمنع عندنا اعتبار عموم اللفظ ؛ لأن الحكم عندنا للفظ لا للسبب ، ولو كان الحكم في ذلك مقصورا على السبب لوجب أن يكون خاصا في الذين اختانوا أنفسهم منهم ، فلما اتفق الجميع على عموم الحكم فيهم وفي غيرهم ممن ليس في مثل حالهم ، دل ذلك على أن الحكم غير مقصور على السبب وأنه عام في سائر الصيام كهو في سائر الناس في صوم رمضان .

فصح بما وصفنا وجه الاستدلال بقوله تعالى : ثم أتموا الصيام إلى الليل على لزوم الصوم بالدخول فيه ، وقد اختلف الفقهاء في ذلك ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر : " من دخل في صيام التطوع أو صلاة التطوع فأفسده أو عرض له فيه ما يفسده فعليه القضاء " وهو قول الأوزاعي إذا أفسده وقال الحسن بن صالح : " إذا دخل في صلاة التطوع فأقل ما يلزمه ركعتان " .

وقال مالك : " إن أفسده هو فعليه القضاء " ولو طرأ عليه ما أخرجه منه فلا قضاء عليه " وقال الشافعي رحمه الله : " إن أفسده ما دخل فيه تطوع فلا قضاء عليه " وروي عن ابن عباس وابن عمر مثل قولنا ، حدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا بشر بن موسى قال : حدثنا سعيد بن منصور قال : حدثنا هشيم قال : حدثنا عثمان البتي عن أنس بن سيرين قال صمت يوما فأجهدت فأفطرت فسألت ابن عباس وابن عمر فأمراني أن أصوم يوما مكانه .

وروى طلحة بن يحيى عن مجاهد قال : " هو بمنزلة الصدقة يخرجها الرجل من ماله فإن شاء أمضاها وإن شاء أمسكها " ولم يختلفوا في الحج والعمرة إذا أحرم بهما تطوعا ثم أفسدهما أن عليه قضاءهما ، وإن أحصر فيهما فقد اختلف الناس فيه أيضا ، فقال أصحابنا ومن تابعهم : " عليه القضاء " وقال مالك والشافعي : " لا قضاء عليه " وما قدمنا من دلالة قوله : ثم أتموا الصيام إلى الليل يوجب القضاء ، سواء خرج منه بعذر أو بغير [ ص: 292 ] عذر ؛ لأن الآية قد اقتضت الإيجاب بالدخول ، وإذا وجب لم يختلف حكمه في إيجاب القضاء إذا كان خروجه بعذر أو بغير عذر كسائر ما أوجبه الله عليه من صيام أو صلاة أو غيرهما كالنذور ، ونظير هذه الآية في إيجاب القرب بالدخول فيها قوله تعالى : وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها والابتداع قد يكون بالفعل وقد يكون بالقول .

ثم ذم تاركي رعايتها بعد الابتداع ، فدل ذلك على أن من ابتدع قربة بالدخول فيها أو بإيجابها بالقول أن عليه إتمامها ؛ لأنه متى قطعها قبل إتمامها فلم يرعها حق رعايتها ، والذم لا يستحق إلا بترك الواجبات فدل ذلك على أن لزومها بالدخول كهو بالنذر والإيجاب بالقول ، ويحتج في مثله أيضا بقوله : ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا جعله الله مثلا لمن عهد لله عهدا أو حلف بالله ثم لم يف به ويقضيه ؛ وهو عموم في كل من دخل في قربة ، فيكون منهيا عن نقضها قبل إتمامها ؛ لأنه متى نقضها فقد أفسد ما مضى منها بعد تضمن تصحيحها بالدخول فيها ، ويصير بمنزلة ناقضة غزلها بعد فتلها بقواها ، وهذا يوجب أن كل من ابتدأ في حق الله وإن كان متطوعا بديا فعليه إتمامه والوفاء به لئلا يكون بمنزلة ناقضة غزلها .

فإن قيل : إنما هذه الآية فيمن نقض العهد والأيمان بعد توكيدها ؛ لأنه قال تعالى : وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ثم عطف عليه قوله : ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة

قيل له : نزولها على سبب لا يمنع اعتبار عموم لفظها ، وقد بينا ذلك في مواضع ، ويدل عليه أيضا قوله تعالى : ولا تبطلوا أعمالكم وقد علمنا أن أقل ما يصح في الفرض من الصوم يوم كامل ، وفي الصلاة ركعتان ، ولا تصح النوافل ولا تكون قربة إلا حسب موضوعها في الفروض ، بدلالة أنه يحتاج إلى استيفاء شروطها ؛ ألا ترى أن صوم النفل مثل صوم الفرض في لزوم الإمساك عن الجماع والأكل والشرب ؟ وكذلك صلاة التطوع تحتاج من القراءة والطهارة والستر إلى مثل ما شرط في الفروض ، ولما لم يكن في أصل الفرض ركعة واحدة ولا صوم بعض يوم ، وجب أن يكون كذلك حكم النفل ، فمتى دخل في شيء منه ثم أفسده قبل إتمامه فقد أبطله وأبطل ثواب ما فعله منه ؛ وقوله تعالى : ولا تبطلوا أعمالكم يمنع الخروج منه قبل إتمامه لنهي الله تعالى إياه عن إبطاله ؛ وإذ ألزمه إتمامه فقد وجب عليه قضاؤه إذا خرج منه قبل إتمامه معذورا كان في خروجه أو غير معذور ، [ ص: 293 ] ويدل عليه من جهة السنة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أنه نهى عن البتيراء " وهو أن يوتر الرجل بركعة فاقتضى هذا اللفظ إيجاب إتمامه ، وإذا وجب إتمامها فقد لزمته ، فمتى أفسدها أو فسدت عليه بغير اختياره لزمه قضاؤها كسائر الواجبات .

ويدل عليه حديث الحجاج بن عمرو الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل قال عكرمة : فذكرت ذلك لابن عباس وأبي هريرة فقالا : صدق فصارت رواته عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة ، وذلك يدل على معنيين :

أحدهما : إلزامه بالدخول فيه ؛ لأنه لم يفرق بين الفرض والنفل .

والثاني : أنه وإن خرج منه بغير اختيار منه فإن القضاء واجب عليه ، ويدل عليه أيضا ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن صالح قال : حدثنا عبد الله بن وهب قال : أخبرني حيوة بن شريح عن ابن الهاد عن زميل مولى عروة عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت : أهدي لي ولحفصة طعام ، وكنا صائمتين فأفطرنا ، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا : يا رسول الله أهديت لنا هدية فاشتهيناها فأفطرنا ، فقال : لا عليكما صوما مكانه يوما آخر وهذا يدل على وجوب القضاء في التطوع ؛ لأنه لم يسألهما عن جهة صومهما ، وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال : حدثنا القعنبي قال : حدثنا عبد الله بن عمر عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أنها قالت : أصبحت أنا وحفصة صائمتين متطوعتين ، فأهدي لنا طعام فأفطرنا ، فسألت حفصة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اقضيا يوما مكانه .

قال عبد الباقي : وحدثنا عبد الله بن أسيد الأصبهاني الأكبر قال : حدثنا أزهر بن جميل قال : حدثنا أبو همام محمد بن الزبرقان ، عن عبد الله بن عمر ، عن الزهري عن عروة ، عن عائشة نحوه قال عبد الباقي : وحدثنا إسحاق قال : حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن الزهري : أن حفصة وعائشة ؛ وذكر نحوه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقضيا مكانه يوما ، وأصحاب الحديث يتكلمون في إسناد هذا الحديث بأشياء يطعنون بها فيه .

أحدها : ما حدثنا به عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا بشر بن موسى قال : حدثنا الحميدي قال : سمعت سفيان يحدثه عن الزهري فقيل للزهري : هو من حديث عروة ؟ فقال الزهري : ليس هو من حديث عروة قال الحميدي : وأخبرني غير واحد عن معمر أنه قال : لو كان من حديث الزهري ما نسيته .

وهذا الذي ذكروه لا يبطله عندنا ؛ لأنه جائز أن يريد الزهري بذلك أنه لم يسمعه من عروة وسمعه من غير عروة ؛ وأكثر أحواله أن يكون مرسلا عن [ ص: 294 ] عروة .

وإرساله لا يفسده عندنا ، وأما قول معمر " لو كان من حديث الزهري ما نسيته " فليس بشيء ؛ لأن النسيان جائز عليه في حديث الزهري كجوازه في حديث غيره ، وأكثر أحواله أن لا يكون معمر قد سمعه من الزهري ، وغير معمر قد سمعه من الزهري ورواه عنه ، فلا يفسده أن لا يكون معمر قد رواه عنه .

وقد رواه زميل مولى عروة عن عروة ، ويطعنون فيه أيضا بما ذكره ابن جريج أنه قال للزهري في هذا الحديث : أسمعته من عروة ؟ قال : إنما أخبرنا به رجل بباب عبد الملك ، وروي في غير هذا الحديث أن الرجل سليمان بن أرقم ، وكيفما تصرفت به الحال فليس فيه ما يفسده على مذهب الفقهاء ؛ وما يعترض به أصحاب الحديث من مثل هذا لا يفسد الحديث ولا يقدح فيه عندهم ، وقد روى أيضا خصيف عن عكرمة عن ابن عباس : أن حفصة وعائشة أصبحتا صائمتين ، فأهدي لهم طعام ، فأفطرتا ، فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم أن تقضيا يوما مكانه . وحدثنا عبد الباقي قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : حدثنا محمد بن عباد قال : حدثنا حاتم بن إسماعيل عن أبي حمزة عن الحسن عن أبي سعيد الخدري : أن عائشة وحفصة أصبحتا صائمتين ، فأهدي لهما طعام ، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وهما تأكلان فقال : ألم تصبحا صائمتين ؟ قالتا : بلى قال : اقضيا يوما مكانه ولا تعودا .

وقد روي من طريق آخر ، وهو ما حدثنا عبد الباقي قال : حدثنا إسماعيل بن الفضل بن موسى قال : حدثنا حرملة قال : حدثنا ابن وهب قال : حدثنا جرير بن حازم عن يحيى بن سعيد عن عروة عن عائشة قالت : أصبحت أنا وحفصة صائمتين متطوعتين ، فأهدي إلينا طعام ، فأعجبنا فأفطرنا ، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بدرتني حفصة فسألته وهي ابنة أبيها فقال صلى الله عليه وسلم : صوما يوما مكانه وروى الحجاج بن أرطاة عن الزهري عن عروة عن عائشة مثل ذلك . وقد روى عبيد الله بن عمر عن نافع عن عبد الله بن عمر هذه القصة وذكر نحوها إلا أنه لم يذكر تطوعا ، فهذه آثار مستفيضة قد رويت من طرق ، في بعضها أنهما أصبحتا صائمتين متطوعتين ، وفي بعضها لم يذكر التطوع

، وفي كلها الأمر بالقضاء ، ويدل على وجوب القضاء ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا عيسى بن يونس قال : حدثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من ذرعه قيء وهو صائم فليس عليه قضاء وإن استقاء فليقض وفي هذا الحديث ما يوجب القضاء على الصائم إذا استقاء عمدا ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين المتنفل وبين من يصوم فرضا .

[ ص: 295 ] ويدل عليه من جهة النظر اتفاق الجميع على أن المتصدق بصدقة تطوعا إذا قبضها من تصدق بها عليه لا يرجع فيها ؛ لما فيه من إبطال القربة التي حصلت له بها ، فكذلك الداخل في صلاة أو صوم تطوعا غير جائز له الخروج منها قبل إتمامها ، لما فيه من إبطال ما تقدم منه ، فهو بمنزلة الصدقة المقبوضة .

فإن قيل : هو بمنزلة الصدقة التي لم تقبض ؛ لأنه إنما امتنع من فعل باقي أجزاء الصلاة والصوم بمنزلة الممتنع من تسليم الصدقة ، قيل له : لو لم يكن إلا كذلك لكان كما ذكرت ، لكنه لما كان في الخروج منه قبل إتمامه إبطال ما تقدم لم يكن له سبيل إلى ذلك ، ومتى فعله لزمه القضاء ؛ ألا ترى أنه لا يصح صوم بعض النهار دون بعض وأن من أكل في أول النهار لا يصح له صوم بقيته ؟ وكذلك من صام أوله ثم أفطر في باقيه فقد أخرج نفسه من حكم صوم ذلك اليوم رأسا وأبطل به حكم ما فعله كالراجع في الصدقة المقبوضة ، فصار كما إذا رجع في صدقة مقبوضة لزمه ردها إلى المتصدق بها عليه .

ويدل عليه أيضا اتفاق الجميع على أن المحرم بحج أو عمرة تطوعا متى أفسده لزمه القضاء وكان الدخول فيه بمنزلة الإيجاب بالقول ،

فإن قيل : إنما لزمه القضاء لأن فساده لا يخرجه منه ، وليس ذلك كسائر القرب من الصلاة والصوم ؛ إذ هو يخرج منهما بالإفساد ، قيل له : هذا الفرق لا يمنع تساويهما في جهة الإيجاب بالدخول ، ولا يخلو هذا المحرم من أن يكون قد لزمه الإحرام بالدخول ووجب عليه إتمامه أو لم يلزمه ، فإن كان قد لزمه إتمامه فالواجب عليه القضاء سواء أحصر أو أفسده بفعله ؛ لأن ما قد وجب لا يختلف حكمه في وقوع الفساد فيه بفعله أو غير فعله مثل النذر وحجة الإسلام .

فمتى اتفقنا على أنه متى أفسده لزمه قضاؤه وجب أن يكون ذلك حكمه إذا أحصر وتعذر فعله من غير جهته كسائر الواجبات ، وعلى أن السنة قد قضت ببطلان قول الخصم ، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم : من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل فأوجب عليه القضاء مع وقوع المنع من قبل غيره ، وإذا ثبت ذلك في الحج والعمرة وجب مثله في سائر القرب التي شرط صحتها إتمامها وكان بعضها منوطا ببعض ، وذلك مثل الصلاة والصيام ويجب أن لا يختلف في وجوب قضائه حكم خروجه منها بفعله أو غير فعله كما في سائر الواجبات ، واحتج من خالف في ذلك بحديث أم هانئ حين ناولها النبي صلى الله عليه وسلم سؤره فشربته ثم قالت : إني كنت صائمة وكرهت أن أرد سؤرك ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن كان من قضاء رمضان فاقضي يوما مكانه ، وإن كان تطوعا فإن شئت [ ص: 296 ] فاقضي وإن شئت فلا تقضي ، وهذا حديث مضطرب السند والمتن جميعا ، فأما اضطراب سنده فإن سماك بن حرب يرويه مرة عمن سمع أم هانئ ، ومرة يقول هارون ابن أم هانئ أو ابن ابنة أم هانئ ، ومرة يرويه عن ابني أم هانئ ، ومرة عن ابن أم هانئ قال : أخبرني أهلنا . ومثل هذا الاضطراب في الإسناد يدل على قلة ضبط رواته ، وأما اضطراب المتن فمن قبل ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال : حدثنا جرير بن عبد الحميد عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث عن أم هانئ قالت : لما كان يوم الفتح فتح مكة جاءت فاطمة فجلست عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم هانئ عن يمينه ، قال : فجاءت الوليدة بإناء فيه شراب فناولته ، فشرب منه ثم ناوله أم هانئ ، فشربت منه ثم قالت : يا رسول الله أفطرت وكنت صائمة فقال لها : " أكنت تقضين شيئا ؟ " قالت : لا قال : " فلا يضرك إن كان تطوعا " . فذكر في هذا الحديث أنه قال : " لا يضرك " وليس في ذلك نفي لوجوب القضاء ؛ لأنا كذلك نقول إنه لم يضرها ؛ لأنها لم تعلم أنه لا يجوز لها الإفطار ، أو علمت ذلك ورأت اتباع النبي صلى الله عليه وسلم بالشرب ، والإفطار أولى من المضي فيه

وحدثنا عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس قال : حدثنا يونس بن حبيب قال : حدثنا أبو داود الطيالسي قال : حدثنا شعبة قال : أخبرني جعدة رجل من قريش وهو ابن أم هانئ وكان سماك بن حرب يحدثه يقول : أخبرني ابنا أم هانئ قال شعبة : فلقيت أنا أفضلهما جعدة فحدثني عن أم هانئ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها ، فناولته شرابا فشرب ، ثم ناولها فشربت ، فقالت : يا رسول الله إني كنت صائمة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الصائم المتطوع أمين نفسه أو أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر فقلت لجعدة : سمعته أنت من أم هانئ ؟ فقال : أخبرني أهلنا وأبو صالح مولى أم هانئ عن أم هانئ ، ورواه سماك عمن سمع أم هانئ ، وذكر فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : المتطوع بالخيار إن شاء صام وإن شاء أفطر .

وروى سماك عن هارون ابن أم هانئ عن أم هانئ ، وقال فيه : إن كان من قضاء رمضان فصومي يوما مكانه ، وإن كان تطوعا فإن شئت فصومي وإن شئت فأفطري ، ولم يذكر في شيء من هذه الأخبار نفي القضاء ، وإنما ذكر فيه أن الصائم بالخيار وأنه أمين نفسه وأن له أن يفطر في التطوع ، ولم يقل : لا قضاء عليك ، وهذا الاختلاف في متنه يدل على أنه غير مضبوط ، ولو ثبتت هذه الألفاظ لم يكن فيها ما ينفي وجوب القضاء ؛ لأن أكثر ما فيها إباحة الإفطار ، وإباحة الإفطار [ ص: 297 ] لا تدل على سقوط القضاء .

وقوله : الصائم أمين نفسه ، والصائم بالخيار جائز أن يريد به من أصبح ممسكا عما يمسك عنه الصائم من غير نية للصوم أنه بالخيار في أن ينوي صوم التطوع أو يفطر ؛ والممسك عما يمسك عنه الصائم يسمى صائما كما قال صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء : من أكل فليصم بقية يومه ومراده الإمساك عما يمسك عنه الصائم ، كذلك قوله : الصائم بالخيار ، والصائم أمين نفسه هو على هذا المعنى .

فإن وجد في بعض ألفاظ هذا الحديث فإن شئت فاقضي وإن شئت فلا تقضي فإنما هو تأويل من الراوي لقوله : لا يضرك ، وإن شئت فأفطري ، والصائم بالخيار ، وإذا كان كذلك لم يثبت نفي القضاء بما ذكرت ، على أنه لو ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نفي إيجاب القضاء من غير احتمال التأويل مع صحة السند واتساق المتن ، لكانت الأخبار الموجبة للقضاء أولى من وجوه :

أحدها أنه متى ورد خبران أحدهما مبيح والآخر حاظر كان خبر الحظر أولى بالاستعمال ، وخبرنا حاظر لترك القضاء ، وخبرهم مبيح ، فكان خبرنا أولى من هذا الوجه ، ومن جهة أخرى أن الخبر النافي للقضاء وارد على الأصل ، والخبر الموجب له ناقل عنه ، والخبر الناقل أولى ؛ لأنه في المعنى وارد بعده كأنه قد علم تاريخه ، ومن جهة أخرى ، وهو أن ترك الواجب يستحق به العقاب وفعل المباح لا يستحق به العقاب ، فكان استعمال خبر الوجوب أولى من خبر النفي ، ومما يعارض خبر أم هانئ في إباحة الإفطار ، ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبد الله بن سعيد قال : حدثنا أبو خالد عن هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا دعي أحدكم فليجب ، فإن كان مفطرا فليطعم ، وإن كان صائما فليصل ، قال أبو داود رواه حفص بن غياث أيضا ، وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا دعي أحدكم إلى طعام وهو صائم فليقل إني صائم فهذان خبران يحظران على الصائم الإفطار من غير عذر ، ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الصائم تطوعا أو من فرض ، ألا ترى أنه قال في الخبر الأول : وإن كان صائما فليصل والصلاة تنافي الإفطار ؟ وفرق أيضا بين المفطر والصائم ؛ فلو جاز للصائم الإفطار لقال : فليأكل .

فإن قيل : إنما أراد بالصلاة الدعاء والدعاء لا ينافي الأكل ، قيل له : بل هو على الصلاة المعهودة عند الإطلاق ، وهي التي بركوع وسجود ، وصرفه إلى الدعاء غير جائز إلا بدلالة ، فلو كان المراد الدعاء [ ص: 298 ] لكانت دلالته قائمة على أنه لا يفطر حين فرق بين المفطر والصائم بما ذكرنا ، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث : فليقل : إني صائم يدل على أن الصوم يمنعه من الأكل .

وقد علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل إجابة الدعوة من حق المسلم كالسلام وعيادة المريض وشهود الجنازة ، فلما منعه الإجابة وقال : فليقل إني صائم دل ذلك على حظر الإفطار في سائر الصيام من غير عذر .

فإن قيل : قد روي عن أبي الدرداء وجابر " أنهما كانا لا يريان بالإفطار في صيام التطوع بأسا " وأن عمر بن الخطاب دخل المسجد فصلى ركعة ثم انصرف ، فتبعه رجل فقال : يا أمير المؤمنين صليت ركعة واحدة فقال : " هو التطوع ، فمن شاء زاد ومن شاء نقص " ، قيل له : قد روينا عن ابن عباس وابن عمر إيجاب القضاء على من أفطر في صيام التطوع ، وأما ما روي عن أبي الدرداء وجابر فليس فيه نفي القضاء وإنما فيه إباحة الإفطار .

وحديث عمر يحتمل أن يريد به من دخل في صلاة يظن أنها عليه ثم ذكر أنها ليست عليه أنها تكون تطوعا وجائز أن يقطعها ، ولم يجب عليه القضاء ، وقد روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : " ما أجزأت ركعة قط "

فإن قيل : قوله تعالى : فاقرءوا ما تيسر من القرآن يدل على جواز الاقتصار على ركعة ، قيل له : إنما ذلك تخييرا في القراءة لا في ركعات الصلاة ، والتخيير فيها لا يوجب تخييرا في سائر أركانها ، فلا دلالة في ذلك على حكم الركعات ؛ وقال الشافعي : " عليه في الأضحية البدل إذا استهلكها فيلزمه مثله في سائر القرب " .

ومن دلالات قوله تعالى : ثم أتموا الصيام إلى الليل على الأحكام : أن من أصبح مقيما صائما ثم سافر أنه لا يجوز له الإفطار في يومه ذلك ، بدلالة ظاهر قوله : ثم أتموا الصيام إلى الليل ولم يفرق بين من سافر بعد الدخول في الصوم وبين من أقام .

وفيه الدلالة على أن من أكل بعد طلوع الفجر وهو يظن أن عليه ليلا ، أو أكل قبل غروب الشمس وهو يرى أن الشمس قد غابت ، ثم تبين أن عليه القضاء ، لقوله : ثم أتموا الصيام إلى الليل وهذا لم يتم الصيام ؛ لأن الصيام هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع وهو لم يمسك ، فليس هو إذا صائم .

وقد اختلف السلف في ذلك ، فقال مجاهد وجابر بن زيد والحكم : " إن صومه تام ولا قضاء عليه " هذا في المتسحر الذي يظن أن عليه ليلا ، وقال مجاهد : " لو ظن أن الشمس قد غابت فأفطر ثم علم أنها لم تغب كان عليه القضاء " فرق بين المتسحر وبين من أكل قبل غروب الشمس على ظن منه ثم علم ؛ قال : لأن الله تعالى قال : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر فما لم يتبين فالأكل [ ص: 299 ] له مباح ، فلا قضاء عليه فيما أكل قبل أن يتبين له طلوع الفجر ، وأما الذي أفطر على ظن منه بغيبوبة الشمس فقد كان صومه يقينا ، فلم يكن جائزا له الإفطار حتى يتبين له غروب الشمس ، وقال محمد بن سيرين وسعيد بن جبير وأصحابنا جميعا ومالك والثوري والشافعي : " يقضي في الحالين " إلا أن مالكا قال في صوم التطوع : " يمضي فيه " وفي الفرض : " يقضي " .

وروى الأعمش عن زيد بن وهب ، أن عمر أفطر هو والناس في يوم غيم ثم طلعت الشمس فقال : " لا تجانفنا لإثم ، والله لا نقضيه " وروي عنه أنه قال : " الخطب يسير نقضي يوما " .

، وظاهر قوله : ثم أتموا الصيام إلى الليل يقضي ببطلان صيامه ؛ إذ لم يتممه ؛ ولم تفصل الآية بين من أكل جاهلا بالوقت أو عالما به . فإن قيل : قال الله تعالى : وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر

فما لم يتبين له ذلك فالأكل له مباح ، قيل له : لا يخلو هذا الأكل من أحد حالين : إما أن يكون ممن أمكنه استبانة طلوع الفجر والوصول إلى علمه من جهة اليقين بأن يكون عارفا به وليس بينه وبينه حائل ، فإن كان كذلك ثم لم يستبن فإن هذا لا يكون إلا من تفريطه في تأمله وترك مراعاته ، ومن كانت هذه حاله فغير جائز له الإقدام على الأكل ، فإذا أكل فقد فعل ما لم يكن له أن يفعله ؛ إذ قد كان في وسعه وإمكانه الوصول إلى اليقين والاستبانة ، ففرط فيه ولم يفعله ، وتفريطه غير مسقط عنه فرض الصوم ، وإن كان هذا الآكل ممن لا يعرف الفجر بصفته ، أو بينه وبينه حائل أو قمر أو ضعف بصر أو نحو ذلك ، فهذا أيضا ممن لا يجوز له العمل على الظن ، بل عليه أن يصير إلى اليقين ولا يأكل وهو شاك ، وإذا كان ذلك على ما وصفنا لم يسقط عنه القضاء بتركه الاحتياط للصوم .

وكذلك من أكل على ظن منه بغيبوبة الشمس في يوم غيم ، فهو بهذه المنزلة بمقتضى ظاهر قوله : ثم أتموا الصيام إلى الليل

فإن قيل : لم يكلف تبين الفجر عند الله تعالى وإنما كلف ما عنده ، قيل له : إذا أمكنه الوصول إلى معرفة طلوع الفجر الذي هو عند الله فعليه مراعاته ، فمتى لم يكن هناك حائل استحال أن لا يعلمه ، ومع ذلك فإنه إن غفل أبيح له الأكل في حال غفلته ، فإن إباحة الأكل غير مسقطة للقضاء كالمريض والمسافر وهما أصل في ذلك لأنهما معذوران ؛ والذي اشتبه عليه طلوع الفجر أو ظنه قد طلع معذور في الأكل ، والعذر يسقط القضاء بدلالة ما وصفنا .

ويدل عليه اتفاق الجميع أنه لو غم عليهم الهلال في أول ليلة من رمضان فأفطروا ثم علموا بعد ذلك أنه كان [ ص: 300 ] من رمضان كان عليهم القضاء ، فكذلك من وصفنا أمره ، وكذلك الأسير في دار الحرب إذا لم يعلم بشهر رمضان حتى مضى ثم علم به كان عليه القضاء ، ولم يكن مكلفا في حال الإفطار إلا علمه ، ثم لم يكن جهله بالوقت مسقطا للقضاء ؛ فكذلك من خفي عليه طلوع الفجر وغروب الشمس .

فإن قيل : هلا كان بمنزلة الناسي في سقوط القضاء ؛ لأنه لم يعلم في حال الأكل بوجوب الصوم عليه قيل له : هذا اعتلال فاسد لوجوده فيمن غم عليه هلال رمضان مع إيجاب الجميع عليه القضاء متى علم أنه من رمضان ، وكذلك الأسير في دار الحرب إذا لم يعلم بالشهر حتى مضى عليه القضاء عند الجميع مع جهله بوجوب الصوم عليه .

وقال أصحابنا في الآكل ناسيا : " القياس أنه يجب القضاء عليه " ولكنهم تركوا القياس للأثر ؛ ولو كان ظاهر الآية ينفي صحة صوم الناسي لأنه لم يتم صومه والله سبحانه قال : ثم أتموا الصيام إلى الليل والصوم هو الإمساك ولم يوجد منه ذلك ، ألا ترى أنه لو نسي الصوم رأسا أنه لا خلاف أن عليه القضاء ولم يكن نسيانه مسقطا القضاء عنه " ؟

وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا هارون بن عبد الله ومحمد بن العلاء المعنى قالا : حدثنا أبو أسامة قال : حدثنا هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر قالت : أفطرنا يوما في رمضان في غيم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طلعت الشمس قال أبو أسامة : قلت لهشام : أمروا بالقضاء ؟ قال : وبد من ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية