الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ، وإنما يسمى هلالا في أول ما يرى وما قرب منه لظهوره في ذلك الوقت بعد خفائه ؛ ومنه الإهلال بالحج ، وهو إظهار التلبية ، واستهلال الصبي : ظهور حياته بصوت أو حركة ، ومن الناس من يقول : إن الإهلال هو رفع الصوت ، وإن إهلال الهلال من ذلك لرفع الصوت بذكره عند رؤيته ، والأول أبين وأظهر . ألا ترى أنهم يقولون : تهلل وجهه : إذا ظهر منه البشر والسرور ، وليس هناك صوت مرفوع ؟ وقال تأبط شرا :

وإذا نظرت إلى أسرة وجهه برقت كبرق العارض المتهلل

يعني الظاهر .

وقد اختلف أهل اللغة في الوقت الذي يسمى هلالا ، فمنهم من قال : يسمى هلالا لليلتين من الشهر ، ومنهم من قال : يسمى لثلاث ليال ثم يسمى قمرا ، وقال الأصمعي : يسمى هلالا حتى يحجر ، وتحجيره أن يستدير بخطة دقيقة ، ومنهم من يقول : يسمى هلالا حتى يبهر ضوؤه سواد الليل ، فإذا غلب ضوؤه سمي قمرا .

قالوا : وهذا لا يكون إلا في الليلة السابعة ، وقال الزجاج : الأكثر يسمونه هلالا لابن ليلتين ، وقيل : إن سؤالهم وقع عن وجه الحكمة في زيادة الأهلة ونقصانها ، فأجابهم : إنها مقادير لما يحتاج إليه الناس في صومهم وحجهم وعدد نسائهم ومحل الديون وغير ذلك من الأمور ، فكانت هذه منافع عامة لجميعهم وبها عرفوا الشهور والسنين وما لا يحصيه من المنافع والمصالح غير الله تعالى .

وفي هذه الآية دلالة على جواز الإحرام بالحج في سائر السنة ، لعموم اللفظ في سائر [ ص: 317 ] الأهلة أنها مواقيت للحج ، ومعلوم أنه لم يرد به أفعال الحج ، فوجب أن يكون المراد الإحرام ، وقوله تعالى : الحج أشهر معلومات لا ينفي ما قلنا ؛ لأن قوله : الحج أشهر معلومات فيه ضمير لا يستغني عنه الكلام ، وذلك لاستحالة كون الحج أشهرا ؛ لأن الحج هو فعل الحاج ، وفعل الحاج لا يكون أشهرا ؛ لأن الأشهر إنما هي مرور الأوقات ، ومرور الأوقات هو فعل الله ليس بفعل للحاج ، والحج فعل الحاج ؛ فثبت أن في الكلام ضميرا لا يستغنى عنه ؛ ثم لا يخلو ذلك الضمير من أن يكون فعل الحج أو الإحرام بالحج .

وليس لأحد صرفه إلى أحد المعنيين دون الآخر إلا بدلالة ، فلما كان في اللفظ هذا الاحتمال لم يجز تخصيص قوله تعالى : قل هي مواقيت للناس والحج به ؛ إذ غير جائز لنا تخصيص العموم بالاحتمال ، والوجه الآخر : أنه إن كان المراد إحرام الحج فليس فيه نفي لصحة الإحرام في غيرها ، وإنما فيها إثبات الإحرام فيها ؛ وكذلك نقول : إن الإحرام جائز فيها بهذه الآية وجائز في غيرها بالآية الأخرى ؛ إذ ليس في إحداهما ما يوجب تخصيص الأخرى ؛ والذي يقتضيه ظاهر اللفظ أن يكون المراد أفعال الحج لا إحرامه ، إلا أن فيه ضمير حرف الظرف وهو " في " فمعناه حينئذ : " الحج في أشهر معلومات " وفيه تخصيص أفعال الحج في هذه الأشهر دون غيرها ، وكذلك قال أصحابنا فيمن أحرم بالحج قبل أشهر الحج فطاف له وسعى بين الصفا والمروة قبل أشهر الحج " إن سعيه ذلك لا يجزيه وعليه أن يعيده ؛ لأن أفعال الحج لا تجزي قبل أشهر الحج " فعلى هذا يكون معنى قوله : الحج أشهر معلومات أن أفعاله في أشهر الحج معلومات ، وقوله تعالى : يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج عموم في إحرام الحج لا في أفعال الحج الموجبة ، وغير جائز أن يكون مراده في قوله : قل هي مواقيت للناس والحج أهلة مخصوصة بأشهر الحج .

كما لا يجوز أن تكون هذه الأهلة في مواقيت الناس وآجال ديونهم وصومهم وفطرهم مخصوصة بأشهر الحج دون غيرها ؛ فلما ثبت عموم المراد في سائر الأهلة فيما تضمنه اللفظ من مواقيت الناس ، وجب أن يكون ذلك حكمه في الحج ؛ لأن الأهلة المذكورة لمواقيت الناس هي بعينها الأهلة المذكورة للحج ، وعلى أنا لو حملناه على أفعال الحج وجعلناها مقصورة المعنى على المذكور في الآية في قوله تعالى : الحج أشهر معلومات لأدى ذلك إلى إسقاط فائدته وإزالة حكمه وتخصيص لفظه بغير دلالة توجب الاقتصار به على معنى قوله : الحج أشهر معلومات [ ص: 318 ] فلما وجب أن يوفى كل لفظ حقه مما اقتضاه من الحكم والفائدة ؛ وجب أن يكون محمولا على سائر الأهلة وأنها مواقيت لإحرام الحج وسنتكلم في المسألة عند بلوغنا إليها إن شاء الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية