الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج اختلف السلف في تأويل الرفث ، فقال ابن عمر : " هو الجماع " وروي عن ابن عباس مثله .

وروي عنه أنه التعريض بالنساء ، وكذلك عن ابن الزبير . وروي عن ابن عباس أنه أنشد في إحرامه :

وهن يمشين بنا هميسا إن يصدق الطير ننك لميسا

فقيل له في ذلك ، فقال : " إنما الرفث مراجعة النساء بذكر الجماع " .

قال عطاء : " الرفث الجماع فما دونه من قول الفحش " . وقال عمرو بن دينار : " هو الجماع فما دونه من شأن النساء " . قال أبو بكر : قد قيل : إن أصل الرفث في اللغة هو الإفحاش في القول ، وبالفرج الجماع ، وباليد الغمز للجماع . وإذا كان كذلك فقد تضمن نهيه عن الرفث في الحج هذه الوجوه كلها وحصل من اتفاق جميع من روي عنه تأويله أن الجماع مراد به في هذه الآية .

ويدل على أن الرفث الفحش في المنطق قوله صلى الله عليه وسلم : إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل ، فإن جهل عليه فليقل إني صائم ، والمراد فحش القول . وإن كان المراد بالرفث هو التعريض بذكر النساء في الإحرام ، فاللمس ، والجماع أولى أن يكون محظورا ، كما قال تعالى فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما عقل منه النهي عن السب ، والضرب .

وقد ذكر الله تعالى الرفث في شأن الصوم فقال : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ولا خلاف أنه أريد به الجماع ، وعقل منه إباحة ما دونه ، كما أن حظره الرفث في الحج وهو التعريض ، واللمس قد عقل به حظر ما فوقه من الجماع ؛ لأن حظر القليل يدل على الكثير من جنسه . وإباحة الكثير تدل على إباحة القليل من جنسه ، [ ص: 384 ] وقد روي عن محمد بن راشد قال : خرجنا حجاجا فمررنا بالرويثة فإذا بها شيخ يقال له أبو هرم قال : سمعت أبا هريرة يقول : " للمحرم من امرأته كل شيء إلا الجماع " قال : فأهوى رجل منا إلى امرأته فقبلها ؛ فقدمنا مكة فذكرنا ذلك لعطاء فقال : قاتله الله قعد على طريق من طرق المسلمين يفتنهم بالضلالة ؛ ثم قال للذي قبل امرأته : أهرق دما . وهذا شيخ مجهول . وما ذكره قد اتفقت الأمة على خلافه ، وعلى أن من قبل امرأته في إحرامه بشهوة فعليه دم . وروي ذلك عن علي وابن عباس وابن عمر والحسن وعطاء وعكرمة وإبراهيم وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ذلك وهو قول فقهاء الأمصار .

ولما ثبت بما ذكرنا حظر مراجعة النساء بذكر الجماع في حال الإحرام ، والتعريض به ، واللمس وذلك كله من دواعي الجماع ، دل ذلك على أن الجماع ودواعيه محظورة على المحرم ، وذلك دليل على حظر التطيب لهذا المعنى بعينه ، ولما ورد فيه من السنة . وأما الفسوق فروي عن ابن عمر قال : " الفسوق السباب " والجدال : المراء . وقال ابن عباس : " الجدال أن تجادل صاحبك حتى تغيظه ، والفسوق المعاصي " وروي عن مجاهد ولا جدال في الحج قال : قد أعلم الله تعالى أشهر الحج فليس فيها شك ولا خلاف . قال أبو بكر : جميع ما ذكر من هذه المعاني عن المتقدمين جائز أن يكون مراد الله تعالى ، فيكون المحرم منهيا عن السباب ، والمماراة في أشهر الحج وفي غير ذلك وعن الفسوق وسائر المعاصي ، فتضمنت الآية الأمر بحفظ اللسان ، والفرج عن كل ما هو محظور من الفسوق ، والمعاصي .

والمعاصي ، والفسوق وإن كانت محظورة قبل الإحرام فإن الله نص على حظرها في الإحرام تعظيما لحرمة الإحرام ؛ ولأن المعاصي في حال الإحرام أعظم وأكبر عقابا منها في غيرها ، كما قال صلى الله عليه وسلم : إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل ، فإن جهل عليه فليقل إني امرؤ صائم . وقد روي أن الفضل بن العباس كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم من المزدلفة إلى منى ، فكان يلاحظ النساء وينظر إليهن ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجهه بيده من خلفه وقال :إن هذا يوم من ملك سمعه وبصره غفر له ومعلوم حظر ذلك في غير ذلك اليوم ، ولكنه خص اليوم تعظيما لحرمته ، فكذلك المعاصي ، والفسوق ، والجدال ، والرفث كل ذلك محظور ومراد بالآية ، سواء كان مما حظره الإحرام ، أو كان محظورا فيه وفي غيره بعموم اللفظ ؛ ويكون تخصيصه إياها بحال الإحرام تعظيما للإحرام ، وإن كانت محظورة في غيره . وقد روى مسعود عن منصور عن أبي حازم عن أبي هريرة عن النبي [ ص: 385 ] صلى الله عليه وسلم قال : من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه وهذا موافق لدلالة الآية ؛ وذلك لأن الله تعالى لما نهى عن المعاصي ، والفسوق في الحج فقد تضمن ذلك الأمر بالتوبة منها ؛ لأن الإصرار على ذلك هو من الفسوق ، والمعاصي ، فأراد الله تعالى أن يحدث الحاج توبة من الفسوق ، والمعاصي حتى يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه على ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وقوله تعالى : ولا جدال في الحج قد تضمن النهي عن مماراة صاحبه ورفيقه وإغضابه وحظر الجدال في وقت الحج على ما كان عليه أمر الجاهلية ؛ لأنه قد استقر على وقت واحد وأبطل به النسيء الذي كان أهل الجاهلية عليه ؛ وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات الأرض يعني عود الحج إلى الوقت الذي جعله الله له ، واتفق ذلك في حجة النبي صلى الله عليه وسلم .

وقوله : فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وإن كان ظاهره الخبر ، فهو نهي عن هذه الأفعال ، وعبر بلفظ النفي عنها ؛ لأن المنهي عنه سبيله أن يكون منفيا غير مفعول وهو كقوله في الأمر : والوالدات يرضعن أولادهن و يتربصن بأنفسهن وما جرى مجراه صيغته صيغة الخبر ومعناه الأمر .

التالي السابق


الخدمات العلمية