الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر الاختلاف في الطلاق بالرجال

قال أبو بكر - رحمه الله -: اتفق السلف؛ ومن بعدهم من فقهاء الأمصار؛ على أن الزوجين المملوكين خارجان من قوله (تعالى): الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ؛ واتفقوا على أن الرق يوجب نقصان الطلاق؛ فقال علي ؛ وعبد الله: "الطلاق بالنساء"؛ يعني أن المرأة إن كانت حرة فطلاقها ثلاث؛ حرا كان زوجها؛ أو عبدا؛ وأنها إن كانت أمة فطلاقها اثنتان؛ حرا كان زوجها؛ أو عبدا؛ وهو قول أبي حنيفة ؛ وأبي يوسف؛ وزفر؛ ومحمد؛ والثوري ؛ والحسن بن صالح ؛ وقال عثمان ؛ وزيد بن ثابت ؛ وابن عباس : "الطلاق بالرجال"؛ يعنون أن الزوج إن كان عبدا فطلاقه اثنتان؛ سواء كانت الزوجة حرة؛ أو أمة؛ وإن كان حرا فطلاقه ثلاث؛ حرة كانت الزوجة؛ أو أمة؛ وهو قول مالك ؛ والشافعي ؛ وقال ابن عمر : أيهما رق نقص الطلاق برقه؛ وهو قول عثمان البتي .

وقد روى هشيم عن منصور بن زادان؛ عن عطاء ؛ عن ابن عباس قال: الأمر إلى المولى في الطلاق؛ أذن له العبد؛ أو لم يأذن؛ ويتلو هذه الآية: ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء .

روى هشام عن أبي الزبير ؛ عن أبي معبد؛ مولى ابن عباس ؛ أن غلاما كان لابن عباس طلق امرأته تطليقتين؛ فقال له ابن عباس : ارجعها؛ لا أم لك؛ فإنه ليس لك من الأمر شيء؛ فأبى؛ فقال: هي لك؛ فاتخذها؛ فهذا يدل على أنه رأى طلاقه واقعا؛ لولاه لم يقل له: ارجعها؛ وقوله: هي لك؛ يدل على أنها كانت أمة؛ وجائز أن يكون الغلام حرا؛ لأنهما إذا كانا مملوكين؛ فلا خلاف أن رقهما ينقص الطلاق؛ وقد روي في ذلك حديث يدل على أنه كان لا يرى طلاق العبد شيئا؛ ويرويه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا زهير بن حرب قال: حدثنا يحيى بن سعيد قال: حدثنا علي بن المبارك قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير ؛ أن عمر بن معتب أخبره أن أبا حسن؛ مولى بني نوفل أخبره أنه استفتى ابن عباس في مملوك تحته مملوكة فطلقها تطليقتين؛ ثم أعتقها بعد [ ص: 83 ] ذلك؛ هل يصلح له أن يخطبها بعد ذلك؛ قال: نعم؛ قضى بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

قال أبو داود : وقد سمعت أحمد بن حنبل قال: قال عبد الرزاق : قال ابن المبارك لعمر : من أبو حسن هذا؟ لقد تحمل صخرة عظيمة؛ قال أبو داود : وأبو حسن هذا روى عنه الزهري ؛ وكان من الفقهاء.

قال أبو بكر : وهذا الحديث يرده الإجماع; لأنه لا خلاف بين الصدر الأول؛ ومن بعدهم من الفقهاء؛ أنهما إذا كانا مملوكين أنها تحرم بالاثنتين؛ ولا تحل له إلا بعد زوج ؛ والذي يدل على أن الطلاق بالنساء حديث ابن عمر ؛ وعائشة ؛ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "طلاق الأمة تطليقتان؛ وعدتها حيضتان"؛ وقد تقدم ذكر سنده؛ وقد استعملت الأمة هذين الحديثين في نقصان العدة؛ وإن كان وروده من طريق الآحاد؛ فصار في حيز التواتر; لأن ما تلقاه الناس بالقبول من أخبار الآحاد فهو عندنا في معنى المتواتر؛ لما بيناه في مواضع؛ ولم يفرق الشارع في قوله: " وعدتها حيضتان "؛ بين من كان زوجها حرا؛ أو عبدا؛ فثبت بذلك اعتبار الطلاق بها دون الزوج؛ ودليل آخر؛ وهو أنه لما اتفق الجميع على أن الرق يوجب نقص الطلاق؛ كما يوجب نقص الحد؛ ثم كان الاعتبار في نقصان الحد برق من يقع به دون من يوقعه؛ وجب أن يعتبر نقصان الطلاق برق من يقع به؛ دون من يوقعه؛ وهو المرأة؛ ويدل عليه أنه لا يملك تفريق الثلاث عليها؛ على الوجه المسنون؛ وإن كان حرا؛ إذا كانت الزوجة أمة؛ ألا ترى أنه إذا أراد تفريق الثلاث عليها في أطهار متفرقة لم يمكنه إيقاع الثالثة بحال؟ فلو كان مالكا للجميع لملك التفريق على الوجه المسنون؛ كما لو كانت حرة؛ وفي ذلك دليل على أنه غير مالك للثلاث إذا كانت الزوجة أمة. والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية