الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر الاختلاف في ذلك

اختلف الفقهاء في عقد المرأة على نفسها بغير ولي؛ فقال أبو حنيفة : لها أن تزوج نفسها كفؤا؛ وتستوفي المهر؛ ولا اعتراض للولي عليها؛ وهو قول زفر؛ وإن زوجت نفسها غير كفؤ فالنكاح جائز أيضا؛ وللأولياء أن يفرقوا بينهما؛ وروي عن عائشة أنها زوجت حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر من المنذر بن الزبير ؛ وعبد الرحمن غائب؛ فهذا يدل على أن من مذهبهما جواز النكاح بغير ولي ؛ وهو قول محمد بن سيرين ؛ والشعبي ؛ والزهري ؛ وقتادة ؛ وقال أبو يوسف: لا يجوز النكاح بغير ولي ؛ فإن سلم الولي جاز؛ وإن أبى أن يسلم؛ والزوج كفؤ؛ أجازه القاضي؛ وإنما يتم النكاح عنده حين يجيزه القاضي؛ وهو قول محمد؛ وقد روي عن أبي يوسف غير ذلك؛ والمشهور عنه ما ذكرناه؛ قال الأوزاعي : إذا ولت أمرها رجلا فزوجها كفؤا فالنكاح جائز؛ وليس للولي أن يفرق بينهما.

وقال ابن أبي ليلى ؛ والثوري ؛ والحسن بن [ ص: 102 ] صالح؛ والشافعي : لا نكاح إلا بولي ؛ وقال ابن شبرمة: لا يجوز النكاح إلا بولي؛ وليس الوالدة بولي؛ ولا أن تجعل المرأة وليها رجلا إلا قاض من قضاة المسلمين؛ وقال ابن القاسم ؛ عن مالك : إذا كانت امرأة معتقة؛ أو مسكينة؛ أو دنية؛ لا خطر لها؛ فلا بأس أن تستخلف رجلا ويزوجها؛ ويجوز؛ وقال مالك : وكل امرأة لها مال؛ وغنى؛ وقدر؛ فإن تلك لا ينبغي أن يزوجها إلا الأولياء؛ أو السلطان؛ قال: وأجاز مالك للرجل أن يزوج المرأة؛ وهو من فخذها؛ وإن كان غيره أقرب منه إليها؛ وقال الليث في المرأة تزوج بغير ولي: إن غيره أحسن منه يرفع أمرها إلى السلطان؛ فإن كان كفؤا أجازه؛ ولم يفسخه؛ وذلك في الثيب؛ وقال في السوداء تزوج بغير ولي: إنه جائز؛ قال: والبكر إذا زوجها غير ولي؛ والولي قريب؛ حاضر؛ فهذا الذي أمره إلى الولي؛ يفسخه له السلطان إن رأى لذلك وجها؛ والولي من قبل هذا أولى من الذي أنكحها.

قال أبو بكر : وجميع ما قدمنا من دلائل الآي الموجبة لجواز عقدها تقضي بصحة قول أبي حنيفة في هذه المسألة؛ ومن جهة السنة حديث ابن عباس : حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا الحسن بن علي قال: حدثنا عبد الرزاق قال: حدثنا معمر ؛ عن صالح بن كيسان؛ عن نافع بن جبير بن مطعم ؛ عن ابن عباس ؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس للولي مع الثيب أمر"؛ قال أبو داود : وحدثنا أحمد بن يونس؛ وعبد الله بن مسلمة؛ قالا: حدثنا مالك ؛ عن عبد الله بن الفضل؛ عن نافع بن جبير ؛ عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الأيم أحق بنفسها من وليها"؛ فقوله: "ليس للولي مع الثيب أمر"؛ يسقط اعتبار الولي في العقد؛ وقوله: "الأيم أحق بنفسها من وليها"؛ يمنع أن يكون له حق في منعها العقد على نفسها؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الجار أحق بصقبه"؛ وقوله لأم الصغير: "أنت أحق به ما لم تنكحي"؛ فنفى بذلك كله أن يكون له معها حق؛ ويدل عليه حديث الزهري ؛ عن سهل بن سعد ؛ في المرأة التي وهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ما لي في النساء من أرب"؛ فقام رجل فسأله أن يزوجها له؛ فزوجها له؛ ولم يسألها هل لها ولي؛ أم لا؛ ولم يشترط الولي في جواز عقدها؛ وخطب النبي - صلى الله عليه وسلم - أم سلمة فقالت: ما أحد من أوليائي شاهد؛ فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما أحد من أوليائك؛ شاهد ولا غائب؛ يكرهني"؛ فقالت لابنها - وهو غلام صغير -: قم فزوج أمك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فتزوجها - صلى الله عليه وسلم - بغير ولي؛ فإن قيل: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان وليها؛ وولي المرأة التي وهبت نفسها له؛ لقوله (تعالى): النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؛ قيل له: هو أولى بهم فيما يلزمه من اتباعه؛ وطاعته فيما يأمرهم به؛ فأما أن يتصرف عليهم في [ ص: 103 ] أنفسهم وأموالهم فلا؛ ألا ترى أنه لم يقل لها - حين قالت له: ليس أحد من أوليائي شاهد -: "وما عليك من أوليائك؟ وأنا أولى بك منهم"؛ بل قال: "ما أحد منهم يكرهني"؟ وفي هذا دلالة على أنه لم يكن وليا لهن في النكاح؛ ويدل عليه؛ من جهة النظر؛ اتفاق الجميع على جواز نكاح الرجل إذا كان جائز التصرف في ماله؛ كذلك المرأة؛ لما كانت جائزة التصرف في مالها وجب جواز عقد نكاحها؛ والدليل على أن العلة في جواز نكاح الرجل ما وصفنا؛ أن الرجل إذا كان مجنونا؛ غير جائز التصرف في ماله؛ لم يجز نكاحه؛ فدل على صحة ما وصفنا.

واحتج من خالف في ذلك بحديث شريك؛ عن سماك ؛ عن أبي؛ أخي معقل بن يسار ؛ عن معقل؛ أن أخت معقل كانت تحت رجل؛ فطلقها؛ ثم أراد أن يراجعها؛ فأبى عليها معقل؛ فنزلت هذه الآية: فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن ؛ وقد روي عن الحسن أيضا هذه القصة؛ وأن الآية نزلت فيها؛ وأنه - صلى الله عليه وسلم - دعا معقلا؛ وأمره بتزويجها؛ وهذا الحديث غير ثابت على مذهب أهل النقل؛ لما في سنده من الرجل المجهول؛ الذي روى عنه سماك ؛ وحديث الحسن مرسل؛ ولو ثبت لم ينف دلالة الآية على جواز عقدها من قبل أن معقلا فعل ذلك؛ فنهاه الله (تعالى) عنه؛ فبطل حقه في العضل؛ فظاهر الآية يقتضي أن يكون ذلك خطابا للأزواج; لأنه قال: وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن ؛ فقوله (تعالى): فلا تعضلوهن ؛ إنما هو خطاب لمن طلق؛ وإذا كان كذلك كان معناه عضلها عن الأزواج بتطويل العدة عليها؛ كما قال: ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ؛ وجائز أن يكون قوله (تعالى): ولا تعضلوهن ؛ خطابا للأولياء؛ وللأزواج؛ ولسائر الناس؛ والعموم يقتضي ذلك.

واحتجوا أيضا بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أيما امرأة نكحت بغير وليها فنكاحها باطل"؛ وبما روي من قوله: "لا نكاح إلا بولي"؛ وبحديث أبي هريرة ؛ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزوج المرأة المرأة؛ ولا تزوج المرأة نفسها؛ فإن الزانية هي التي تزوج نفسها"؛ فأما الحديث الأول فغير ثابت؛ وقد بينا علله في شرح الطحاوي ؛ وقد روي في بعض الألفاظ: "أيما امرأة تزوجت بغير إذن مواليها"؛ وهذا عندنا على الأمة؛ تزوج نفسها بغير إذن مولاها؛ وقوله: "لا نكاح إلا بولي"؛ لا يعترض على موضع الخلاف; لأن هذا عندنا نكاح بولي; لأن المرأة ولي نفسها؛ كما أن الرجل ولي نفسه; لأن الولي هو الذي يستحق الولاية على من يلي عليه؛ والمرأة تستحق الولاية؛ والتصرف على نفسها في مالها؛ فكذلك في بضعها؛ وأما حديث أبي هريرة فمحمول على وجه الكراهة لحضور المرأة مجلس الإملاك; لأنه [ ص: 104 ] مأمور بإعلان النكاح؛ ولذلك يجمع له الناس؛ فكره للمرأة حضور ذلك المجمع؛ وقد ذكر أن قوله: "الزانية هي التي تنكح نفسها"؛ من قول أبي هريرة ؛ وقد روي في حديث آخر؛ عن أبي هريرة هذا الحديث؛ وذكر فيه أن أبا هريرة قال: كان يقال: "الزانية هي التي تنكح نفسها"؛ وعلى أن هذا اللفظ خطأ بإجماع المسلمين; لأن تزويجها نفسها ليس بزنا عند أحد من المسلمين؛ والوطء غير مذكور فيه؛ فإن حملته على أنها زوجت نفسها؛ ووطئها الزوج؛ فهذا أيضا لا خلاف فيه أنه ليس بزنا; لأن من لا يجيزه إنما يجعله نكاحا فاسدا؛ يوجب المهر؛ والعدة؛ ويثبت به النسب إذا وطئ؛ وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة؛ في شرح الطحاوي .

وقوله - عز وجل -: ذلكم أزكى لكم وأطهر ؛ يعني: إذا لم تعضلوهن; لأن العضل ربما أدى إلى ارتكاب المحظور منهما على غير وجه العقد؛ وهو معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أتاكم من ترضون دينه؛ وخلقه؛ فزوجوه؛ إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير"؛ وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن شاذان قال: حدثنا معلى قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل قال: سمعت عبد الله بن هرمز قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جاءكم من ترضون دينه؛ وخلقه؛ فأنكحوه؛ إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض".

التالي السابق


الخدمات العلمية