الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما قوله (تعالى): فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ؛ فإن معناه - والله أعلم - العدل في القسم بينهن؛ لما قال (تعالى) - في آية أخرى -: ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل ؛ والمراد ميل القلب؛ والعدل الذي يمكنه فعله ويخاف ألا يفعل إظهار الميل بالفعل؛ فأمره الله (تعالى) بالاقتصار على الواحدة إذا خاف إظهار الميل؛ والجور؛ ومجانبة العدل؛ وقوله - عطفا على ما تقدم من إباحة العدد المذكور بعقد النكاح -: أو ما ملكت أيمانكم ؛ يقتضي حقيقته وظاهره إيجاب التخيير بين أربع حرائر؛ وأربع إماء؛ بعقد النكاح؛ فيوجب ذلك تخييره بين تزويج الحرة والأمة؛ وذلك لأن قوله (تعالى): أو ما ملكت أيمانكم ؛ كلام مستقل بنفسه؛ بل هو مضمن بما قبله؛ وفيه ضمير لا يستغنى عنه؛ وضميره ما تقدم ذكره مظهرا في الخطاب؛ وغير جائز لنا إضمار معنى لم يتقدم له ذكر؛ إلا بدلالة من غيره؛ فلم يجز لنا أن نجعل الضمير في قوله (تعالى): أو ما ملكت أيمانكم ؛ الوطء؛ فيكون تقديره: "قد أبحت لكم وطء ملك اليمين"; لأنه ليس في الآية ذكر الوطء؛ وإنما الذي في أول الآية ذكر العقد; لأن قوله (تعالى): فانكحوا ما طاب لكم ؛ لا خلاف أن المراد به العقد؛ فوجب أن يكون قوله (تعالى): أو ما ملكت أيمانكم ؛ ضميره؛ أو فانكحوا ما ملكت أيمانكم؛ وذلك النكاح هو العقد؛ فالضمير الراجع إليه أيضا هو العقد؛ دون الوطء.

فإن قيل: لما صلح أن يكون النكاح اسما للوطء؛ ثم عطف عليه قوله (تعالى): أو ما ملكت أيمانكم ؛ صار كقوله: "فانكحوا ما ملكت أيمانكم"؛ فيكون معناه الوطء في هذا الموضع؛ وإن كان معناه العقد في أول الخطاب؛ قيل له: لا يجوز هذا; لأنه إذا كان ضميره ما تقدم ذكره بديا في أول الخطاب؛ وجب أن يكون بعينه؛ ومعناه المراد به؛ ضميرا فيه؛ فإذا كان النكاح المذكور هو العقد؛ فكأنه قيل: فاعقدوا عقدة النكاح فيما طاب لكم؛ فإذا أضمره في ملك اليمين كان الضمير هو العقد؛ إذ لم يجز للوطء ذكر من جهة المعنى؛ ولا من طريق اللفظ؛ [ ص: 349 ] فامتنع من أجل ذلك إضمار الوطء فيه؛ وإن كان اسم النكاح قد يتناوله؛ ومن جهة أخرى أنه لما لم يكن في الآية ذكر النكاح؛ إلا ما تقدم في أولها؛ وثبت أن المراد به العقد؛ لم يجز أن يكون ضمير ذلك اللفظ بعينه وطئا؛ لامتناع أن يكون لفظ واحد مجازا وحقيقة; لأن أحد المعنيين يتناوله اللفظ مجازا؛ والآخر حقيقة؛ ولا يجوز أن ينتظمهما لفظ واحد؛ فوجب أن يكون ضميره عقد النكاح المذكور بديا في الآية.

فإن قيل: الذي يدل على أن ضميره هو الوطء؛ دون العقد؛ إضافته لملك اليمين إلى المخاطبين؛ ومعلوم استحالة تزوجه بملك يمينه؛ ويجوز له وطء ملك يمينه؛ فعلمنا أن المراد الوطء؛ دون العقد؛ قيل له: لما أضاف ملك اليمين إلى الجماعة كان المراد نكاح ملك يمين الغير؛ كقوله (تعالى): ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ؛ فأضاف عقد النكاح على ملك أيمانهم إليهم؛ والخطاب متوجه إلى كل واحد؛ في إباحة تزويج ملك غيره؛ كذلك قوله (تعالى): أو ما ملكت أيمانكم ؛ محمول على هذا المعنى؛ فليس إذا فيما ذكرت دليل على وجوب إضمار لا ذكر له في الخطاب؛ فوجب أن يكون ضميره ما تقدم ذكره مظهرا؛ وهو عقد النكاح.

وفيما وصفنا دليل على اقتضاء الآية التخيير بين تزوج الأمة؛ والحرة؛ لمن يستطيع أن يتزوج حرة; لأن التخيير لا يصح إلا فيما يمكنه فعل كل واحد منهما على حاله؛ فقد حوت هذه الآية الدلالة من وجهين على جواز تزويج الأمة؛ مع وجود الطول إلى الحرة ؛ أحدهما عموم قوله (تعالى): فانكحوا ما طاب لكم من النساء ؛ وذلك شامل للحرائر؛ والإماء; لوقوع اسم النساء عليهن؛ والثاني قوله (تعالى): أو ما ملكت أيمانكم ؛ وذلك يقتضي التخيير بينهن وبين الحرائر في التزويج؛ وقد قدمنا دلالة قوله (تعالى): ولأمة مؤمنة خير من مشركة ؛ على ذلك؛ في سورة البقرة؛ ويدل عليه أيضا قوله (تعالى): وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم ؛ وذلك عموم شامل للحرائر؛ والإماء؛ وغير جائز تخصيصه إلا بدلالة؛

التالي السابق


الخدمات العلمية