الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب وجوب التيمم عند عدم الماء

قال الله تعالى : فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا قال أبو بكر : شرط الوجود مختلف فيه ، والجملة التي اتفق أصحابنا عليها أن الوجود إمكان استعمال الماء الذي يكفيه لطهارته من غير ضرر فلو كان معه ماء وهو يخاف العطش أو لم يجده إلا بثمن كثير تيمم ، وليس عليه أن يغالي فيه إلا أن يجده بثمن كما يباع بغير ضرورة فيشتريه ، وإن كان أكثر من ذلك فلا يشتريه . وجعل أصحابنا جميعا شرط الوجود أن يكفيه لجميع طهارته ، وأما العلم بكونه في رحله فمختلف فيه أنه من شرط الوجود ، وسنذكره إن شاء الله . واختلف أيضا في وجوب الطلب وهل يكون غير واجد قبل الطلب , وإنما قلنا إنه إذا خاف العطش باستعماله للطهارة فهو غير واجد للماء المفروض به الطهارة ؛ لأنه متى خاف الضرر في استعماله كان معذورا في تركه إلى التيمم كالمريض ، قال الله تعالى : ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم فنفى الحرج عنا ، وهو الضيق ، وفي الأمر باستعمال الماء الذي يخاف فيه العطش أعظم الضيق ، وقد نفاه الله تعالى نفيا مطلقا ؛ وقال تعالى : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ومن العسر استعمال الماء الذي يؤديه إلى الضرر وتلف النفس ، ألا ترى أنه لو اضطر إلى شرب الماء وحضرته الصلاة ولا ماء معه غيره أنه مأمور بشربه وترك استعماله للطهارة ، فكذلك إذا خاف العطش في المستأنف باستعماله ؟ وروي نحو هذا القول فيمن خاف العطش عن علي وابن عباس والحسن وعطاء .

وإنما شرطنا أن يجده بثمن مثل قيمته في غير الضرورة من قبل أن المقدار الفاضل عن قيمته غير مستحق عليه إتلافه لأجل الطهارة ؛ إذ لا يحصل بإزائه بدل ، فكان إضاعة للمال ؛ لأن من اشترى ما يساوي درهما بعشرة دراهم فهو مضيع للتسعة ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال . وأيضا لو كان على ثوبه نجاسة ولم يجد الماء لم يكن عليه قطع موضع النجاسة لأجل الصلاة ، بل عليه أن يصلي فيه لأجل ما يلحقه من الضرر بقطعه ، فكذلك شرى الماء بثمن غال ، وأما إذا وجده بثمن مثله فعليه أن يشتريه ويتوضأ [ ص: 11 ] ولا يجزيه التيمم ، من قبل أنه ليس فيه تضييع المال ؛ إذ كان يملك بإزاء ما أخرج من ماله مثله وهو الماء الذي أخذه فكان عليه شراؤه والوضوء به .

وقد اختلف الفقهاء فيمن وجد من الماء ما لا يكفيه لطهارته ، فقال أصحابنا جميعا : ( يتيمم وليس عليه استعماله ، وكذلك لو كان جنبا فوجد ما يكفيه لوضوئه ولا يكفيه لغسله يتيمم ) . وقال مالك والأوزاعي : ( لا يستعمل الجنب هذا الماء في الابتداء ويتيمم ، فإن أحدث بعد ذلك وعنده ما يكفيه لوضوئه يتيمم أيضا ) .

وقال أصحابنا في هذه المسألة الأخيرة : ( يتوضأ بهذا الماء ما لم يجد ما يكفيه لغسله ) .

وقال الشافعي : ( عليه غسل ما قدر على غسله ويتيمم ، لا يجزيه غير ذلك ) . قال أبو بكر : قال الله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم إلى قوله تعالى : فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا فاقتضى ذلك وجوب أحد شيئين : إما الماء عند وجوده أو التراب عند عدمه ؛ لأنه أوجبه بهذه الشريطة . ولا خلاف أن من فرض هذا الرجل التيمم وأن صلاته غير مجزية إلا به ، فعلمنا أن هذا الماء ليس هو الماء المفروض به الطهارة ؛ إذ لو كان الماء المفروض به الطهارة موجودا لم تكن صحة صلاته موقوفة على فعل التيمم منه .

فإن قيل : قال الله تعالى : فلم تجدوا ماء فأباح التيمم عند عدم ماء منكور ، وذلك يتناول كل جزء منه سواء كان كافيا لطهارته أو غير كاف ، فلا يجوز التيمم مع وجوده . قيل له : الدليل على فساد هذا التأويل اتفاق الجميع على أن من فرضه التيمم وإن استعمل الماء ، فلو كان هذا القدر من الماء مأمورا باستعماله بالآية لما لزمه التيمم معه ؛ لأن الله تعالى إنما أوجب عليه التيمم عند عدم الماء الذي تصح به صلاته .

فإن قيل : فنحن لا نجيز تيممه إلا بعد عدم هذا الماء باستعماله إياه فحينئذ يتيمم . قيل له : لو كان هذا على ما ذكرت لاستغنى عن التيمم باستعمال الماء الذي معه ، فلما اتفقوا على أن عليه التيمم بعد استعماله ثبت أن هذا الماء ليس هو المفروض به الطهارة ولا ما أبيح التيمم بعدمه . وأيضا لما كان وجود هذا الماء بمنزلة عدمه في باب استباحة الصلاة به صار بمنزلة ما ليس بموجود ، فجاز له التيمم . وأيضا لما لم يجز الجمع بين غسل إحدى الرجلين والمسح على الخف في الرجل الأخرى ، لكون المسح بدلا من الغسل فلم يجز الجمع بينهما ، وجب أن لا يلزمه الجمع بين غسل الأعضاء والتيمم لهذه العلة . وأيضا فإن التيمم لا يرفع الحدث كالمسح لا يرفع الحدث عن الرجل ، فلم يجز الجمع بين ما يرفع الحدث وبين ما لا يرفعه في المسح ؛ كذلك لا يجوز الجمع بين التيمم والغسل في بعض الأعضاء على أن يكونا [ ص: 12 ] من فرضه .

وأيضا فإن التيمم بدل من غسل جميع الأعضاء وغير جائز وقوعه عن بعض الأعضاء دون بعض ، ألا ترى أنه ينوب عن الغسل تارة وعن الوضوء أخرى على أنه قام مقام جميع الأعضاء التي أوجب الحدث غسلها ؟ فلو أوجبنا عليه غسل ما يمكنه غسله مع التيمم لم يخل التيمم من أن يقوم مقام غسل بعض أعضائه أو جميعه ، فإن قام مقام ما لم يغسل منه فقد صار التيمم إنما يقع طهارة عن بعض الأعضاء ، وذلك مستحيل ؛ لأنه لا يتبعض ، فلما بطل ذلك لم يبق إلا أن يقوم مقام جميعها فيصير حينئذ متوضئا متيمما في الأعضاء المغسولة ، وذلك محال لأن الحدث زائل عن العضو المغسول فلا ينوب عنه التيمم ؛ فثبت أنه لا يجوز اجتماعهما في الوجوب . وعلى أن الشافعي يوجب عليه غسل الوجه والذراعين بذلك الماء ويتيمم مع ذلك لهذين العضوين ، فيكون تيممه في هذين العضوين قائما مقامهما ومقام العضوين الآخرين ، فيكون قد ألزمه طهارتين في هذين العضوين ، فكيف يجوز أن يكون طهارة في العضوين المغسولين وهو إذا حصل طهارة لم يرفع الحدث ويكون حكم الحدث باقيا مع وجوده ؟ فكيف يجوز وقوعه مع عدم رفع الحدث عما وقع فيه ؟ .

فإن قيل : يلزمك مثله إذا قلت مثله فيما إذا غسل بعض أعضائه ؛ لأنه ملزم التيمم ويكون ذلك طهارة لجميعه . قيل له : لا يلزمنا ذلك لأنا لا نوجب عليه استعماله فسقط حكمه إن استعمله ، وأنت توجب استعماله كما نوجبه لو وجد ما يكفيه لجميع أعضائه فكان بمنزلة من توضأ وأكمل وضوءه ، فلا يجوز أن يقوم التيمم مقام شيء منه .

فإن قال فقد يجوز عندكم الجمع بين التيمم والوضوء ولا ينافي أحدهما الآخر ، وهو الذي يجد سؤر الحمار ولا يجد غيره . قيل له : إن طهارته أحد هذين لا جميعهما ، ولذلك أجزنا له أن يبدأ بأيهما شاء ؛ لأنه مشكوك فيه عندنا فلم يسقط عنه فرض الطهارة بالشك ، فإذا جمع بينهما فالمفروض أحدهما ، كما قالوا جميعا فيمن نسي إحدى الصلوات الخمس ولا يدري أيها هي يصلي خمس صلوات حتى يصلي على اليقين ، وإنما الذي عليه واحدة لا جميعها ، كذلك هاهنا ، وأنت تزعم أن المفروض هما جميعا في مسألتنا . وأيضا لما كان التيمم بدلا من الماء كالصوم بدلا من الرقبة ولم يجز اجتماع بعض الرقبة والصوم ، وجب مثله في التيمم والماء .

فإن قيل : الصغيرة قد تجب عدتها بالشهور فإن حاضت قبل انقضائها وجب الحيض ، وكذلك ذات الحيض لو اعتدت بحيضة ثم يئست وجبت الشهور مع الحيضة المتقدمة . [ ص: 13 ] قيل له : إذا طرأ عليها ما ذكرت قبل انقضاء العدة خرج ما تقدم من أن يكون عدة معتدا به ، وأنت لا تخرج ما غسل من أن يكون طهارة ، وكذلك التيمم ودليل آخر في المسألة ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء ، والدلالة من هذا قوله : ما لم يجد الماء فأدخل عليها الألف واللام ، وذلك لأحد وجهين : إما أن تكون لاستغراق الجنس أو المعهود ، فإن كان أراد به استغراق الجنس صار في التقدير كأنه قال : التراب طهور ما لم يجد مياه الدنيا ، وإن كان أراد به المعهود فهو قولنا أيضا ؛ لأنه ليس هاهنا ماء معهود يجوز أن ينصرف الكلام إليه غير الماء الذي يقع به كمال الطهارة ، وذلك لم يوجد في مسألتنا ، فجاز تيممه بظاهر الخبر .

التالي السابق


الخدمات العلمية