الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : ومن قتله منكم متعمدا قال أبو بكر : اختلف الناس في ذلك على ثلاثة أوجه : فقال قائلون وهم الجمهور : ( سواء قتله عمدا أو خطأ فعليه الجزاء ) وجعلوا فائدة تخصيصه العمد بالذكر في نسق التلاوة من قوله تعالى : ومن عاد فينتقم الله منه وذلك يختص بالعمد دون الخطإ ؛ لأن المخطئ لا يجوز أن يلحقه الوعيد ، فخص العمد بالذكر وإن كان الخطأ والنسيان مثله ليصح رجوع الوعيد إليه ؛ وهو قول عمر وعثمان والحسن رواية وإبراهيم وفقهاء الأمصار . والقول الثاني : ما روى منصور عن قتادة عن رجل قد سماه عن ابن عباس : ( أنه كان لا يرى في الخطإ شيئا ) وهو قول طاوس وعطاء وسالم والقاسم وأحد قولي مجاهد في رواية الجعفي عنه .

والقول الثالث : ما روى سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : ومن قتله منكم متعمدا قال : ( إذا كان عامدا لقتله ناسيا لإحرامه فعليه الجزاء ، وإن كان ذاكرا لإحرامه عامدا لقتله فلا جزاء عليه ) وفي بعض الروايات : ( قد فسد حجه وعليه الهدي ) . وقد روي عن الحسن نحو قول مجاهد في أن الجزاء إنما يجب إذا كان عامدا لقتله ناسيا لإحرامه . والقول الأول هو الصحيح ؛ لأنه قد ثبت أن جنايات الإحرام لا يختلف فيها المعذور وغير المعذور في باب وجوب الفدية ، ألا ترى أن الله تعالى قد عذر المريض ومن به أذى من رأسه ولم يخلهما من إيجاب الكفارة ؟ وكذلك لا خلاف في فوات الحج لعذر أو غيره أنه غير مختلف الحكم ؛ ولما ثبت ذلك في جنايات الإحرام وكان الخطأ عذرا ؛ لم يكن مسقطا للجزاء .

فإن قال قائل : لا يجوز عندكم إثبات الكفارات قياسا ، وليس في المخطئ نص في إيجاب الجزاء . قيل له : ليس هذا عندنا قياسا ؛ لأن النص قد ورد بالنهي عن قتل الصيد في قوله : لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم وذلك عندنا يقتضي إيجاب البدل على متلفه ، كالنهي عن قتل صيد الآدمي أو إتلاف ماله يقتضي إيجاب البدل على متلفه ؛ فلما جرى الجزاء في هذا الوجه مجرى البدل وجعله الله مثلا للصيد ؛ اقتضى النهي عن قتله إيجاب بدله على متلفه ، ثم ذلك البدل يكون الجزاء بالاتفاق .

وأيضا فإنه لما ثبت استواء حال المعذور وغير المعذور في سائر جنايات الإحرام كان مفهوما من ظاهر النهي تساوي حال العامد والمخطئ ؛ وليس ذلك عندنا قياسا ، كما أن حكمنا في غير بريرة بما حكم النبي صلى الله عليه وسلم في بريرة ليس بقياس ، وكذلك حكمنا في العصفور بحكم الفأرة وحكمنا في الزيت بحكم السمن إذا مات فيه ليس [ ص: 134 ] هو قياسا على الفأرة وعلى السمن ؛ لأنه قد ثبت تساوي ذلك قبل ورود الحكم بما وصفنا ، فإذا ورد في شيء منه كان حكما في جميعه ، ولذلك قال أصحابنا : إن حكم النبي صلى الله عليه وسلم ببقاء صوم الآكل ناسيا هو حكم فيه ببقاء صوم المجامع ناسيا ؛ لأنهما غير مختلفين فيما يتعلق بهما من الأحكام في حال الصوم وكذلك قالوا فيمن سبقه الحدث في الصلاة من بول أو غائط إنه بمنزلة الرعاف والقيء اللذين جاء فيهما الأثر في جواز البناء عليهما ؛ لأن ذلك غير مختلف فيما يتعلق بهما من أحكام الطهارة والصلاة ، فلما ورد الأثر في بعض ذلك كان ذلك حكما في جميعه وليس ذلك بقياس .

كذلك حكم قاتل الصيد خطأ . وأما مجاهد فإنه تارك لظاهر الآية لأن الله تعالى قال : ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم فمن كان ذاكرا لإحرامه عامدا لقتل الصيد فقد شمله الاسم ، فواجب عليه الجزاء ، ولا معنى لاعتبار كونه ناسيا لإحرامه عامدا لقتله .

فإن قال قائل نص الله تعالى على كفارة قاتل الخطإ فلم تردوا عليه قاتل العمد ، كذلك لما نص الله تعالى على قاتل العمد بإيجاب الجزاء لم يجز إيجابها على قاتل الخطإ . قيل له : الجواب عن هذا من وجوه :

أحدها : أن الله تعالى لما نص على حكم كل واحد من القتلين وجب استعمالهما ولم يجز قياس أحدهما على الآخر ؛ لأنه غير جائز عندنا قياس المنصوصات بعضها على بعض . ومن جهة أخرى أن قتل العمد لم يخل من إيجاب القود الذي هو أعظم من الكفارة والدية ، ومتى أخلينا قاتل الصيد خطأ من إيجاب الجزاء لم يجب عليه شيء آخر فيكون لغوا عاريا من حكم ، وذلك غير جائز . وأيضا فإن أحكام القتل في الأصول مختلفة في العمد والخطإ والمباح والمحظور ، ولم يختلف ذلك في الصيد ، فلذلك استوى حكم العمد والخطإ فيه واختلف في قتل الآدمي .

التالي السابق


الخدمات العلمية