الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد قال أبو بكر : هذه الآية تدل على فرض ستر العورة في الصلاة . وقد اختلف الفقهاء في ذلك ، فقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد : { هي فرض في الصلاة إن تركه مع الإمكان فسدت صلاته } ، وهو قول الشافعي . وقال مالك والليث : " الصلاة مجزية مع كشف العورة ويوجبان الإعادة في الوقت والإعادة في الوقت عندهما استحباب . ودلالة هذه الآية على فرض ستر العورة في الصلاة من وجوه :

أحدها : أنه لما قال : خذوا زينتكم عند كل مسجد فعلق الأمر بالمسجد ، علمنا أن المراد الستر للصلاة لولا ذلك لم يكن لذكر المسجد فائدة ، فصار تقديرها : خذوا زينتكم في الصلاة ، ولو كان المراد سترها عن الناس لما خص المسجد بالذكر ؛ إذ كان الناس في الأسواق أكثر منهم في المساجد ، فأفاد بذكر المسجد وجوبه في الصلاة إذ كانت المساجد مخصوصة بالصلاة . وأيضا لما أوجبه في المسجد وجب بظاهر الآية فرض الستر في الصلاة إذا فعلها في المسجد ، وإذا وجب في الصلاة المفعولة في المسجد وجب في غيرها من الصلوات حيث فعلت ؛ لأن أحدا لم يفرق بينهما .

وأيضا فإن المسجد يجوز أن يكون عبارة عن السجود نفسه كما قال الله تعالى : وأن المساجد لله والمراد السجود ، وإذا كان كذلك اقتضت الآية لزوم الستر عند السجود ، وإذا لزم ذلك في السجود لزم في سائر أفعال الصلاة ؛ إذ لم يفرق أحد بينهما ؛ روي عن ابن عباس وإبراهيم ومجاهد وطاوس والزهري : أن المشركين كانوا يطوفون بالبيت عراة ، فأنزل الله تعالى : خذوا زينتكم عند كل مسجد قال أبو بكر : وقيل إنهم إنما كانوا يطوفون بالبيت عراة ؛ لأن الثياب قد دنستها المعاصي في زعمهم فيتجردون منها . وقيل إنهم كانوا يفعلون ذلك تفاؤلا بالتعري من الذنوب . وقال بعض من يحتج لمالك ابن أنس : إن هؤلاء السلف لما ذكروا سبب نزول الآية وهو طواف العريان وجب أن يكون حكمها مقصورا عليه .

وليس هذا عندنا كذلك ؛ لأن نزول الآية عندنا على سبب لا يوجب الاقتصار بحكمها عليه لأن الحكم عندنا لعموم اللفظ لا للسبب . وعلى أنه لو كان كما ذكر لا يمنع ذلك وجوبه في الصلاة ؛ لأنه إذا وجب الستر في الطواف فهو في الصلاة أوجب ؛ إذ لم يفرق أحد بينهما .

فإن قال قائل : فينبغي أن لا يمنع ترك الستر صحة الصلاة كما لم يمنع صحة الطواف الذي فيه نزلت الآية وإن وقع ناقصا . قيل له : ظاهره يقتضي بطلان [ ص: 206 ] الجميع عند عدم الستر ، ولكن الدلالة قد قامت على جواز الطواف مع النهي كما يجوز الإحرام مع الستر وإن كان منهيا عنه ، ولم تقم الدلالة على جواز الصلاة عريانا ؛ ولأن ترك بعض فروض الصلاة يفسدها مثل الطهارة واستقبال القبلة ، وترك بعض فروض الإحرام لا يفسده ؛ لأنه لو ترك الإحرام في الوقت ثم أحرم صح إحرامه ، وكذلك لو أحرم وهو مجامع لامرأته وقع إحرامه ، فصار الإحرام آكدا في بقائه من الصلاة والطواف من موجبات الإحرام فوجب أن لا يفسده ترك الستر ولا يمنع وقوعه . وتدل على أن حكم الآية غير مقصور على الطواف وأن المراد بها الصلاة قوله تعالى : خذوا زينتكم عند كل مسجد والطواف مخصوص بمسجد واحد ولا يفعل في غيره ، فدل على أن مراده الصلاة التي تصح في كل مسجد . ويدل عليه من جهة السنة حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يصل أحدكم في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء .

وروى محمد بن سيرين عن صفية بنت الحارث عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار فنفى قبولها لمن بلغت الحيض فصلتها مكشوفة الرأس ، كما نفى قبولها مع عدم الطهارة بقوله صلى الله عليه وسلم : لا يقبل الله صلاة بغير طهور فثبت بذلك أن ستر العورة من فروضها . وأيضا قد اتفق الجميع على أنه مأمور بستر العورة في الصلاة ؛ ولذلك يأمره مخالفنا بإعادتها في الوقت ، فإذا كان مأمورا بالستر ومنهيا عن تركه وجب أن يكون من فروض الصلاة من وجهين :

أحدهما : أن هذا الحكم مأخوذ عن الآية وأن الآية قد أريد بها الستر في الصلاة ، والثاني : أن النهي يقتضي فساد الفعل إلا أن تقوم الدلالة على الجواز .

فإن قال قائل : لو كان الستر من فروض الصلاة لما جازت الصلاة مع عدمه عند الضرورة إلا ببدل يقوم مقامه مثل الطهارة ، فلما جازت صلاة العريان إذا لم يجد ثوبا من غير بدل على الستر دل على أنه ليس من فرضه .

قيل له : هذا سؤال ساقط لاتفاق الجميع على جواز صلاة الأمي والأخرس مع عدم القراءة من غير بدل عنها ، ولم يخرجها ذلك من أن يكون فرضا . وزعم بعض من يحتج لمالك أنه لو كان الثوب من عمل الصلاة ومن فرضها لوجب على الإنسان أن ينوي بلبس الثوب أنه للصلاة كما ينوي بالافتتاح أنه لتلك الصلاة . وهذا كلام واه جدا فاسد العبارة مع ضعف المعنى وذلك لأن الثوب لا يكون من عمل الصلاة ولا من فروضها ولكن ستر العورة من شروطها التي [ ص: 207 ] لا تصح إلا به كالطهارة ، كما أن استقبال القبلة من شروطها ، ولا يحتاج الاستقبال إلى نية ، والطهارة من شروطها ولا تحتاج عندنا إلى نية ، والقيام في حال الافتتاح من فروضها لمن قدر عليه ولا يحتاج إلى نية ، والقيام والقراءة والركوع والسجود بعد الافتتاح من فروضها ولا يحتاج لشيء من ذلك إلى نية .

فإن قيل : لأن نية الصلاة قد أغنت عن تجديد النية لهذه الأفعال . قيل له : وكذلك نية الصلاة قد أغنت عن تجديد نية للستر . وقوله تعالى : خذوا زينتكم عند كل مسجد يدل على أنه مندوب في حضور المسجد إلى أخذ ثوب نظيف مما يتزين به ؛ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ندب إلى ذلك في الجمع والأعياد ، كما أمر بالاغتسال للعيدين والجمعة وأن يمس من طيب أهله .

التالي السابق


الخدمات العلمية