الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
واختلف في المدد يلحق الجيش في دار الحرب قبل إحراز الغنيمة ، [ ص: 238 ] فقال أصحابنا : { إذا غنموا في دار الحرب ثم لحقهم جيش آخر قبل إخراجها إلى دار الإسلام فهم شركاء فيها } . وقال مالك والثوري والليث والأوزاعي والشافعي : { لا يشاركونهم } .

قال أبو بكر : الأصل في ذلك عند أصحابنا أن الغنيمة إنما يثبت فيها الحق بالإحراز في دار الإسلام ولا يملك إلا بالقسمة ، وحصولها في أيديهم في دار الحرب لا يثبت لهم فيها حقا ؛ والدليل عليه أن الموضع الذي حصل فيه الجيش من دار الحرب لا يصير مغنوما إذا لم يفتتحوها ألا ترى أنهم لو خرجوا ثم دخل جيش آخر ففتحوها لم يصر الموضع الذي صار فيه الأولون ملكا لهم وكان حكمه حكم غيره من بقاع أرض الحرب ؟ والمعنى فيه أنهم لم يحرزوه في دار الإسلام ، فكذلك سائر ما يحصل في أيديهم قبل خروجهم إلى دار الإسلام لم يثبت لهم فيه حق إلا بالحيازة في دارنا ، فإذا لحقهم جيش آخر قبل الإحراز في دار الإسلام كان حكم ما أخذوه حكم ما في أيدي أهل الحرب فيشترك الجميع فيه .

وأيضا قوله تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء يقتضي أن يكون غنيمة لجميعهم ؛ إذ بهم صار محرزا في دار الإسلام ألا ترى أنهم ما داموا في دار الحرب فإنهم يحتاجون إلى معونة هؤلاء في إحرازها كما لو لحقوهم قبل أخذها شاركوهم ؟ ولو كان حصولها في أيديهم يثبت لهم فيها حقا قبل إحرازها في دار الإسلام لوجب أن يصير الموضع الذي وطئه الجيش من دار الإسلام ، كما لو افتتحوها لصارت دارا للإسلام ، وفي اتفاق الجميع على أن وطء الجيش لموضع في دار الحرب لا يجعله من دار الإسلام دليل على أن الحق لا يثبت فيه إلا بالحيازة .

واحتج من لم يقسم للمدد بما روى الزهري عن عنبسة بن سعيد عن أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبان بن سعيد على سرية قبل نجد ، فقدم أبان وأصحابه بخيبر بعدما فتحت وإن حزم خيلهم الليف ، قال أبان : اقسم لنا يا رسول الله قال أبو هريرة : فقلت : لا تقسم لهم شيئا يا نبي الله قال : قال أبان : أنت بهذا يا وتر نجد ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : اجلس يا أبان فلم يقسم لهم .

وهذا لا حجة فيه ؛ لأن خيبر صارت دار الإسلام بظهور النبي صلى الله عليه وسلم عليها ، وهذا لا خلاف فيه . وقد قيل فيه وجه آخر ، وهو ما روى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عمار بن أبي عمار عن أبي هريرة قال : ما شهدت لرسول الله مغنما إلا قسم لي إلا خيبر فإنها كانت لأهل الحديبية خاصة .

فأخبر في هذا الحديث أن خيبر كانت لأهل الحديبية خاصة شهدوها أو لم يشهدوها دون من سواهم ؛ لأن الله تعالى كان وعدهم إياها بقوله : [ ص: 239 ] وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها بعد قوله : وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وقد روى أبو بردة عن أبي موسى قال : قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر بثلاث ، فقسم لنا ولم يقسم لأحد لم يشهد الفتح غيرنا .

فذكر في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم لأبي موسى وأصحابه من غنائم خيبر ولم يشهدوا الوقعة ولم يقسم فيها لأحد لم يشهد الوقعة وهذا يحتمل أن يكون لأنهم كانوا من أهل الحديبية ، ويحتمل أن يكون بطيبة أنفس أهل الغنيمة ، كما روى خثيم بن عراك عن أبيه عن نفر من قومه أن أبا هريرة قدم المدينة هو ونفر من قومه ، قال : فقدمنا وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجنا من المدينة حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد افتتح خيبر ، فكلم الناس فأشركونا في سهامهم فليس في شيء من هذه الأخبار دلالة على أن المدد إذا لحق بالجيش وهم في دار الحرب أنهم لا يشركونهم في الغنيمة .

وقد روى قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب أن أهل البصرة غزوا نهاوند فأمدهم أهل الكوفة وظهروا ، فأراد أهل البصرة أن لا يقسموا لأهل الكوفة ، وكان عمار على أهل الكوفة ، فقال رجل من بني عطارد : أيها الأجدع تريد أن تشاركنا في غنائمنا فقال : جير إذ بي سبيت ؛ فكتب في ذلك إلى عمر ، فكتب عمر في ذلك : إن الغنيمة لمن شهد الوقعة وهذا أيضا لا دلالة فيه على خلاف قولنا ؛ لأن المسلمين ظهروا على نهاوند وصارت دار الإسلام ؛ إذ لم يبق للكفار هناك فئة ، فإنما قال : إن الغنيمة لمن شهد الوقعة منهم لأنهم لحقوهم بعد ما صارت دار الإسلام ، ومع ذلك فقد رأى عمار ومن معه أن يشركوهم ، ورأى عمر أن لا يشركوهم لأنهم لحقوه بعد حيازة الغنيمة في دار الإسلام لأن الأرض صارت من دار الإسلام .

التالي السابق


الخدمات العلمية