الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا إلى قوله : حرم لما قال تعالى في مواضع أخر : الحج أشهر معلومات وقال : يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج فعلق بالشهور كثيرا من مصالح الدنيا والدين ، وبين في هذه الآية هذه الشهور ، وإنما تجرى على منهاج واحد لا يقدم المؤخر منها ، ولا يؤخر المقدم ، وقال : إن عدة الشهور عند الله وذلك يحتمل وجهين :

أحدهما : أن الله وضع هذه الشهور ، وسماها بأسمائها على ما رتبها عليه يوم خلق السموات والأرض ، وأنزل ذلك على أنبيائه في كتبه المنزلة ، وهو معنى قوله : إن عدة الشهور عند الله وحكمها باق على ما كانت عليه لم يزلها عن ترتيبها تغيير المشركين لأسمائها وتقديم المؤخر وتأخير المقدم في الأسماء منها ، وذكر ذلك لنا لنتبع أمر الله فيها ، ونرفض ما كان عليه أمر الجاهلية من تأخير أسماء الشهور وتقديمها وتعليق الأحكام على الأسماء التي رتبوها عليها ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 306 ] في حجة الوداع ما رواه ابن عمر وأبو بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته بالعقبة : يا أيها الناس إن الزمان قد استدار قال ابن عمر : فهو اليوم كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وقال أبو بكرة : قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان ، وإن النسيء زيادة في الكفر الآية . قال ابن عمر : وذلك أنهم كانوا يجعلون صفر عاما حراما وعاما حلالا ، ويجعلون المحرم عاما حلالا وعاما حراما ، وكان النسيء من الشيطان ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الزمان يعني زمان الشهور قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، وأن كل شهر قد عاد إلى الموضع الذي وضعه الله به على ترتيبه ونظامه . وقد ذكر لي بعض أولاد بني المنجم أن جده وهو أحسب محمد بن موسى المنجم الذي ينتمون إليه حسب شهور الأهلة منذ ابتداء خلق الله السموات والأرض فوجدها قد عادت في موقع الشمس والقمر إلى الوقت الذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد عاد إليه يوم النحر من حجة الوداع ؛ لأن خطبته هذه كانت بمنى يوم النحر عند العقبة ؛ وأنه حسب ذلك في ثماني سنين فكان ذلك اليوم العاشر من ذي الحجة على ما كان عليه يوم ابتداء الشهور ، والشمس والقمر في ذلك اليوم في الموضع الذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد عاد الزمان إليه مع النسيء بالذي قد كان أهل الجاهلية ينسئون ، وتغيير أسماء الشهور ، ولذلك لم تكن السنة التي حج فيها أبو بكر الصديق هي الوقت الذي وضع الحج فيه . وإنما قال { رجب مضر بين جمادى وشعبان } دون رمضان الذي يسميه ربيعة رجب .

وأما الوجه الآخر في معنى قوله : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله فهو أن الله قسم الزمان اثني عشر قسما ، فجعل نزول الشمس في كل برج من البروج الاثني عشر قسما منها ، فيكون قطعها للفلك في ثلثمائة وخمسة وستين يوما وربع يوم ، فيجيء نصيب كل قسم منها بالأيام ثلاثين يوما وكسر ، قسم الأزمنة أيضا على مسير القمر ، فصار القمر يقطع الفلك في تسعة وعشرين يوما ونصف يوم . وجعل السنة القمرية ثلثمائة وأربعة وخمسين يوما وربع يوم ، فكان قطع الشمس للبرج مقاربا لقطع القمر للفلك كله ، وهذا معنى قوله تعالى : الشمس والقمر بحسبان وقال تعالى : وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب ؛ فلما [ ص: 307 ] كانت السنة مقسومة على نزول الشمس في البروج الاثني عشر وكان شهورها اثني عشر ، واختلفت السنة الشمسية والقمرية في البروج الاثني عشر وكانت شهورها اثني عشر ، واختلفت السنة الشمسية والقمرية في الكسر الذي بينهما ، وهو أحد عشر يوما بالتقريب ، وكانت شهور القمر ثلاثين وتسعة وعشرين فيما يتعلق بها من أحكام الشرع ، ولم يكن لنصف اليوم الذي هو زيادة على تسعة وعشرين يوما حكم ، فكان ذلك هو القسمة التي قسم الله تعالى السنة في ابتداء وضع الخلق . ثم غيرت الأمم العادلة عن كثير من شرائع الأنبياء هذا الترتيب ، فكانت شهور الروم بعضها ثمانية وعشرين ، وبعضها ثمانية وعشرين ونصفا ، وبعضها واحدا وثلاثين .

وذلك على خلاف ما أمر الله تعالى من اعتبار الشهور في الأحكام التي تتعلق بها . ثم كانت الفرس شهورها ثلاثين إلا شهرا واحدا ، وهو { بادماه } فإنه خمسة وثلاثون ، ثم كانت تكبس في كل مائة وعشرين سنة شهرا كاملا فتصير السنة ثلاثة عشر أخبر الله تعالى أن عدة شهور السنة اثنا عشر شهرا لا زيادة فيها ولا نقصان ، وهي الشهور القمرية التي إما أن تكون تسعة وعشرين ، وإما أن تكون ثلاثين ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : الشهر تسع وعشرون ، والشهر ثلاثون ، وقال : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين ، فجعل الشهر برؤية الهلال ، فإن اشتبه لغمام أو قترة فثلاثون ؛ فأعلمنا الله بقوله : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض يعني أن عدة شهور السنة اثنا عشر شهرا لا زيادة عليها ، وأبطل به الكبيسة التي كانت تكبسها الفرس فتجعلها ثلاثة عشر شهرا في بعض السنة ، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن انقضاء الشهور برؤية الهلال ، فتارة تسعة وعشرون ، وتارة ثلاثون ؛ فأعلمنا الله في هذه الآية أنه كذلك وضع الشهور والسنين في ابتداء الخلق .

أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عود الزمان إلى ما كان عليه ، وأبطل ما غيره المشركون من ترتيب الشهور ونظامها ، وما زاد به في السنين والشهور ، وأن الأمر قد استقر على ما وضعه الله تعالى في الأصل لما علم تبارك وتعالى من تعلق مصالح الناس في عباداتهم وشرائعهم بكون الشهر والسنين على هذا الوجه ، فيكون الصوم تارة في الربيع ، وتارة في الصيف ، وأخرى في الخريف وأخرى في الشتاء ، وكذلك الحج ؛ لعلمه بالمصلحة في ذلك .

وقد روي في الخبر أن صوم النصارى كان كذلك ، فلما رأوه يدور في بعض السنين إلى الصيف اجتمعوا إلى أن نقلوه إلى زمان الربيع ، وزادوا في [ ص: 308 ] العدد وتركوا ما تعبدوا به من اعتبار شهور القمر مطلقة على ما يتفق من وقوعها في الأزمان ، وهذا ونحوه مما ذمهم الله تعالى به ، وأخبر أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله في اتباعهم أوامرهم واعتقادهم وجوبها دون أوامر الله تعالى فضلوا وأضلوا .

التالي السابق


الخدمات العلمية