الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 374 ] قوله تعالى: واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم الآية (15) :

الأكثرون على أن الآية منسوخة بما نزل في سورة النور: الزانية والزاني الآية.

والسبيل الذي جعله تعالى لهن: الرجم والجلد.

وقوله: واللذان يأتيانها منكم فآذوهما ، كانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت، وكان الرجل إذا زنا أوذي بالتعيير والضرب بالنعال، فنزلت: الزانية والزاني الآية.

واعلم أن الآية إن كانت ناسخة فليس فيها فرق بين الثيب والبكر، وذلك يدل على أنه كان حكما عاما في البكر والثيب.

وورد في الأخبار الصحيحة عن عبادة بن الصامت في هذه الآية:

واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم ، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل عليه الوحي، فكان إذا نزل عليه الوحي تربد لونه، وكرب له، وصرفنا أبصارنا عنه فلم ننظر إليه، فلما سري عنه قال: "خذوا عني".

قال: قلنا: نعم يا رسول الله، قال: قد جعل الله لهن سبيلا: الثيب بالثيب الرجم، والبكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة.


[ ص: 375 ] وقال الحسن: كان أول حدود النساء كن يحبسن في بيوت لهن حتى نزلت الآية التي في النور: الزانية والزاني .. الآية، قال عبادة: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم" فذكر مثل الحديث الأول.

وروي عن الحسن وعطاء أن المراد بقوله تعالى "فآذوهما" الرجل والمرأة.

وقال السدي: البكر من الرجال والنساء.

وعن مجاهد: أنه أراد الرجلين الزانيين، وأراد بالأول المرأتين الزانيتين.

وذكروا أن الظاهر يدل عليه، فإنه قال تعالى أولا:

واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم ، فاقتضى ذلك فاحشة مخصوصة من النساء.

وقال: واللذان يأتيانها منكم فاقتضى ذلك فاحشة مخصوصة بالرجال، فالأول فاحشة بين النساء، والثاني فاحشة بين الرجال.

فعلى هذا المذكور من سورة النور ليس نسخا للأول من الفاحشتين، إذ لا يتعلق الجلد بها، وفي تعلقه بالفاحشة الثانية اختلاف قول بين العلماء.

ولا شك أن موجب الفاحشة وهو الحبس في البيت، منسوخ كيفما قدر الأمر، فأما الفاحشة الثانية فموجبها الإيذاء، وذلك ثابت الحكم غير منسوخ على قول بعض العلماء، وتأويل السدي أقرب إلى الظاهر، وقول غيره يحتمل، فيمكن أن تكون الآيتان نزلتا معا، فأفردت المرأة بالحبس، [ ص: 376 ] وجمعا جميعا في الأذى، وتكون فائدة إفرادها بالذكر، إفرادها بالحبس إلى أن تموت، وذلك حكم لا يشاركها فيه الرجل، وقرنت المرأة بالرجل في ذكر الأذى لاشتراكهما.

ويجوز أن تكون المرأة من قبل مشاركة الرجل في الأذى، ثم زيد في حدها الإمساك في البيت.

واعلم أن قوله: يأتين الفاحشة من نسائكم ، الظاهر كونه مقدما على قوله: واللذان يأتيانها منكم .

فإن قوله: يأتيانها كناية لا بد له من مظهر متقدم مذكور في الخطاب، أو معهود معلوم عند المخاطب، فالظاهر رجوع الكناية إلى ما تقدم ذكره من الفاحشة، فيقتضي ذلك أن يكون حبس المرأة متقدما، ثم تعذر زيادة الأذى على الحبس إن كان المراد بقوله: واللذان يأتيانها الرجل والمرأة، مع أن إضافة الفاحشة إلى المرأة، يبعد إضافتها ثانية إليها، إلا بتقدير أمر جديد، والأذى يشتمل على الحبس وما سواه، وليس فيه دلالة مصرحة بالزيادة ليعتقد مضموما إلى ما تقدم.

والظاهر أن قوله: "واللذان" كناية عن الرجلين، لا عن الرجل والمرأة، لتقدم بيان فاحشة المرأة.

قيل لهؤلاء وقد قال الله تعالى ما ترك على ظهرها من دابة من غير أن يتقدم ذكر المكنى عنه بالهاء.

وقال: إنا أنزلناه في ليلة القدر فيجوز في قوله: واللذان يأتيانها منكم .

[ ص: 377 ] فأجابوا: إن المفهوم من ذكر الإنزال: القرآن، ومن قوله على ظهرها من دابة: الأرض، فاكتفى بقرينة الحال عن ذكرها صريحا.

وقال السدي: إن قوله فأمسكوهن في البيوت : في الثيبين، وقوله: واللذان يأتيانها منكم : في البكرين.

وكيفما قدر فلا بد من شيء منسوخ في الآية.

والصحيح أنه نسخ بقوله عليه السلام: "خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا" الحديث.

ويجب أن يكون قوله: الزانية والزاني نازلا بعد قوله عليه السلام: "جعل الله لهن سبيلا"، فإنه لو نزل قبل هذا الخبر، ما كان لقوله عليه السلام: "خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا" معنى، وذلك يدل على نسخ الكتاب بالسنة.

وعلى هذا إذا نزلت آية النور بعد خبر عبادة، فإنما يكون متضمنا بعض حكم زنا البكر، من غير تعرض لزنا الثيب، ومن غير تعرض لنفي سنة، وذلك في القلب منه شيء.

وكيف ترك الأمر العظيم الأهم من زنا الثيب ورجمه بقول: الزانية والزاني، فيأتي بالألف واللام الدالين على استغراق الجنس، ويقول بعد ذلك: ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ، وذلك لأجل المبالغة، فيتعرض لمزيد تغليظ عليهم ليس من جنس الحد، ويقول في تمام التغليظ: وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين .

فيظهر من مجموع هذه المبالغة في التغليظ أنه لو كان ثم حد آخر أوفى [ ص: 378 ] منه، لكان أولى بأن يتعرض له، فيظهر بذلك الاحتمال الآخر وهو أن قوله: فآذوهما ،و فأمسكوهن ، لم ينسخه خبر عبادة، وإنما نسخه الذي في النور، فكان ذلك شاملا للبكر والثيب جميعا على وجه واحد، فإن الثيب أكثر من يصدر منهم الزنا، فكيف لا يتعرض لهن.

يبقى أن يقال: فما معنى قوله عليه السلام: "خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا" والسبيل كان سابقا؟

فيقال: إن ذلك من أخبار الآحاد، فلا يعترض به على هذا الأمر المقطوع به الذي قلناه.

أو يقال: قوله: "قد جعل الله لهن سبيلا"، بيان حكم الله تعالى، وحكم الله تعالى يجوز أن يرد في دفعتين، فإذا ورد ثانيا، كان تتمة السبيل الذي أطلقه كتاب الله تعالى.

وفيه شيء آخر من الإشكال، وذلك أن الله تعالى يقول في الآية الأولى:

فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت الآية (15) .

ويقول في الآية الثانية: فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما الآية (16) .

فإن كان الذي وجب على الرجلين، أو على الرجل والمرأة على اختلاف المعنيين، عين الحبس، فإذا عزر المعزر منه، وجب الإعراض عنه، تاب أو لم يتب بقوله:

[ ص: 379 ] فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما ، فإنه يقتضي عقابا دائما يسقطه التوبة والصلاح والإخلاص، ويكون ذلك الحبس، فيقتضي ذلك أن يكون الإيذاء عبارة عن الحبس أيضا، كما كان في الأولى، إلا أن الله تعالى عبر عنهما بعبارتين مختلفتين.

فهذا تمام ما تيسر تقريره ها هنا، مع ما فيه من الإشكال.

وقد أنكرت الخوارج الرجم، لأجل أن الذي في سورة النور لا يحتمل أن يكون في وقت اختلاف حد البكر والثيب كما قررناه، وإذا كان كذلك فلا بد وأن يكون تمام الحد هو القدر المذكور في سورة النور في حق البكر والثيب جميعا، فإذا كان كذلك، فشرع الرجم نسخ لهذه الآية، ونسخ القرآن بأخبار لا يجوز بوجه.

التالي السابق


الخدمات العلمية