الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى: ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات الآية (25) :

اعلم أن التعرض لإحدى الصفتين المتضادتين، والنزول عن كلام مطلق، يدل قطعا على أن التقيد المذكور مقصود، لتعلق الحكم عليه، وأنه لا يجوز إلغاؤه، نعم قد يجوز أن يذكر إحدى الحالتين، والمسكوت عنه أولى بالحكم المذكور من المنطوق به، فيتعرض لإحدى الحالتين تنبيها على ما هو أول بالحكم من المذكور، ولو أطلق الحكم لأمكن استثناء المذكور: بيانه أنه تعالى، قال:

ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق إلى قوله: إن قتلهم كان خطئا كبيرا .

[ ص: 416 ] والقتل محرم عند زوال هذه الحالة لأنه لو قال: ولا تقتلوا أولادكم" مطلقا، أو قال: "ولا تقتلوا أولادكم حال غناكم، لأمكن أن يتوهم جواز ذلك حالة الشقاق والإملاق، لئلا يشقى المولود له في تربيته فقال: " لا تقتلوهن خشية إملاق " لعذر الإملاق، نحن نرزقهم وإياكم ، فهذا يسمى التنبيه.

ومثله قوله تعالى: لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ، فحرم الربا، وإن كان له فيه النفع الكثير، فإذا لم يجوز لغرض عظيم، فتحريمه لما دونه أولى.

وقال: ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به ، ليس أنه يتصور أن يقوم عليه برهان، ولكن المشركين قالوا لا نترك ديننا ودين آبائنا، فذم التقليد واتباع السلف وترك البرهان والإعراض عن الدليل.

ففي أمثال ذلك يجوز تخصيص إحدى الحالتين، تنبيها على ما هو الأولى بالحكم المذكور من الحالة الأخرى.

أما ها هنا فإنما تعرض لحالة الضرورة في جواز النكاح، فلا يقال حال عدم الحاجة أولى بجواز نكاح الأمة، والأمة في هذا المعنى أوفى من الحرة، فإذا تبين ذلك، فذكر حالة الحاجة تنبيه على جعل الحاجة علة الإباحة، فإذا لم توجد الحاجة تحرم، فإن الذي يفهم من ثبوت الحاجة، وأن ثبوته كان لأجلها، يعلم انتفاؤه عند عدم الحاجة، وهذا مقطوع به.

وإنما ذكرنا هذه الأمثلة، وأجبنا عليها لأن الرازي لم ير لهذه [ ص: 417 ] الآية دلالة على ضد المذكور عند عدم الحاجة، ورأى أن ذكر الحاجة في إباحة النكاح، تنزل منزلة ذكر الإملاق والحاجة في تحريم القتل، ولم يجعل لهما مفهوما ، وقد غلط من وجهين:

أحدهما: أن كل ما استشهد به له مفهوم وفحوى، ولكنه من قبيل مفهوم الموافقة والتنبيه بالمذكور على مثله في غير المذكور، والقسم الآخر مفهوم المخالفة، وهو التنبيه بالمذكور على خلافه الذي لم يذكر، وهذان قسمان يعرفان لمحال الخطاب، ومواضع الكلام، ومواقع العلل والمعاني.

والرازي ظن أن الأدلة في القسمين على ما عدا المذكور، فأبان من نفسه جهله بنوعي المفهوم وقال: وبينا ذلك في أصول الفقه، فظلم نفسه بالتصدي للتصنيف في الأصول، قبل معرفة هذه الأمور الجلية، كما ظلم نفسه بالتصنيف في معاني القرآن وأحكامه، قبل إحكام معانيه.

فإذا ثبت ذلك، فيبقى ها هنا نظر، وهو أنه إن قال قائل: قد وردت ألفاظ عامة في النكاح مثل قوله تعالى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء إلى قوله: أو ما ملكت أيمانكم ، وادعى هذا المحتج به أن معناه: أو نكاح ما ملكت أيمانكم، وهذا غلط، فإن معناه: فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ، لا يخشى فيه الجور، أو ما ملكت [ ص: 418 ] أيمانكم، فإن العدل في العدد فيه غير واجب أصلا، بل يبقى لهم التعلق بالعموم.

وتعلق أيضا بقوله: والمحصنات من المؤمنات، والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وقوله: وأنكحوا الأيامى منكم .

فزاد أن الاحتجاج بالعموم يقاوم الاحتجاج بالمفهوم، وهذا ركيك من القول، فإن ما احتجوا به من العمومات سيق للحرائر، ودل عليه سياق الآيات: وآتوا النساء صدقاتهن نحلة .

وقوله: والمحصنات من النساء ، عنى به الحرائر، فإنه تعالى قال بعده بكلمات وتخلل فاصل:

ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات .

فدل أن المراد بالمحصنة في الآية الحرة، فإن الإحصان يطلق بمعنى الإسلام، ولا يحتمل ها هنا مع قوله: والمحصنات من المؤمنات ، مع قوله: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم .

فذكروا أن المراد به التزويج، ولا يحتمل ها هنا، فإن المحصنات من [ ص: 419 ] النساء يعني المتزوجات في أقسام المحرمات، فإذا بطل ذلك، فلا يحتمل إلا معنى الحرة.

وقد أجمع المفسرون هنا على أن المراد بالمحصنات ها هنا الحرائر، ودل السياق عليه في ذكر نكاح الأمة ، نعم قال تعالى:

ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات ولم يقل: "واللواتي أوتين الكتاب من قبلكم"، فوقع الشرط في المؤمنات دون الكتابيات، فلا جرم، قال قائلون من أصحابنا: لو قدر على نكاح الكتابية دون نكاح المسلمة، فجائز له نكاح الأمة.

ويلزم عليه على مذهب الشافعي رضي الله عنه جواز إدخال الأمة على الحرة الكتابية.

وفيه خلل من وجه آخر، وهو استواء نكاح الكتابية والمسلمة في الأحكام كلها، وإذا كانت القدرة على نكاح المسلمة مانعة نكاح الأمة، فإذا لم يمتنع نكاح الأمة بالقدرة على نكاح الحرة الكتابية، فالقدرة على نكاح المسلمة كذلك، فإن القدرة على مثل الشيء كالقدرة على الشيء.

وفيه أيضا بطلان فهم معنى إرقاق الولد، وأن ذلك مانع، وأن هذا موجود في نكاح الحرة الكتابية، فهذا تمام هذا النوع.

والأصح أنه لا فرق بينهما، وأن القدرة على مثل الشيء كالقدرة على الشيء.

الوجه الآخر في الجواب: أن هذه العمومات ما قصد بها تفصيل [ ص: 420 ] شرائط النكاح، من الشهادة والولاية، والخلو عن العدة، وإنما قصد بها الندب إلى أصل النكاح، فأما الشرائط فلا ذكر لها، والذي يطلق القول العام، لا يخطر له الشرط في نكاح الأمة.

فأما إذا قال: ومن لم يستطع منكم الآية. مع قوله: ذلك لمن خشي العنت منكم ، فلا بد وأن يكون قاصدا إبانة شرط، ولم يقصد به نزولا عن كلام عام، وإبانة وجه خاص، كان قوله هجرا ركيكا، فقصد التفرقة بين الحالتين ضروري في هذا الكلام، والتعرض للشرائط لا يظهر في العمومات التي ذكروها.

فليفهم الفاهم هذا، فإنه مقطوع به، ولا يهتدي إليه إلا الموفقون المتعمقون في العلم.

ومما يعارضون به ما قلناه، أنه تعالى قال: ولأمة مؤمنة خير من مشركة ... قالوا:

وذلك يجوز نكاح الأمة مع القدرة على مهر المشركة، والقادر على مهر المشركة، قادر على مثله في حق المسلمة، وهذا ركيك جدا.

فإن المراد به: أنهم كانوا لا يعافون عن نكاح المشركات، ويعافون من نكاح الإماء خيفة إرقاق الولد، فأبان الله تعالى أن الأمة مع إفضاء نكاحها إلى رق الولد، خير من المشركة التي لا يجوز نكاحها قط، والأمة يجوز نكاحها في بعض الأحوال، فهذا تمام الرد على هؤلاء في محاولة المعارضة.

وحكى القاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي عن السلف مذاهبهم في هذه الآية وفق مذهبنا ثم قال: [ ص: 421 ] وحكي عن أبي حنيفة وأصحابه أنهم قالوا: لا بأس أن يتزوج الحر المسلم الأمة، مع وجود الطول إلى حرة، من غير خشية العنت، ثم قال:

هذا قول تجاوز فساده فساد ما يحتمل التأويل، لأنه لا محظور في كتاب الله تعالى إلا على الجهة التي أبيحت، ثم وجه على نفسه سؤالا فقال:

يمكن أن يقول ذلك على الاختيار لا على التحريم.

فأجاب أنه قد بين موضع الاختيار لهم من موضع الحظر بقوله تعالى: وأن تصبروا خير لكم ، فكان هذا موضع الاختيار، ولو كان الأول على الاختيار لهم لم يحتاجوا إلى اختيار ثان، فحيث جاز، وهو عند خوف العنت ذكر موضع الاختيار، فعند عدم الخوف، يستحيل أن يبقى الأمر على ذلك الاختيار.

والذي ذكره كلام صحيح.

وحكى الرازي هذا من كلامه أول كلامه، في أنه لا يحتمل التأويل ثم قال:

وقد اختلف السلف فيه ولو كان فيه نص ما اختلفوا، نقل عن علي مثل ذلك، ولم يثبت ذلك الذي صح.

ونقل إسماعيل القاضي عن علي أنه قال: [ ص: 422 ] لا ينبغي للحر أن يتزوج الأمة وهو يجد طولا ينكح به الحرة، فإن فعل فرق بينهما وعزر.

وعن ابن عباس أنه قال:

من ملك ثلاثمائة درهم وجب عليه الحج وحرم عليه نكاح الأمة.

ثم الاحتجاج بالنص على وجهين:

منه ما يستوي في درك معناه الخاص والعام، ويعلم ذلك بأوائل الأفهام، فهذا لا يختلف فيه، وما لا يعلم إلا بالارتياء والبحث، فهذا يجوز أن يختلف فيه، وما نحن فيه من هذا القبيل، فإذا ثبت ذلك.

ثم حكى عن داود الأصبهاني في حق إسماعيل شيئا، وذكر ما يدل على تهجينهما وسوء اعتقاده فيهما، وليس ذلك ببعيد منه، فإنه كان مكفرهما، لمخالفتهما له في الاعتزال ومذهب أهل البدعة والقدر، وقد شحن كتابه المصنف في أحكام القرآن بالرد على أهل السنة، وتسميتهم مرجئة ومجبرة، ويتجمل بالاعتزال ويتظاهر به، عليه وعليهم ما يستحقون.

وذكر وجها آخر فقال: إن خوف العنت وعدم الطول ليسا بضرورة، لأن الضرورة ما يخاف فيها فساد النفس أو فساد عضو، وليس في عدم الطول ذلك، ولذلك لم يجز هذا العذر نكاح الأمة الكتابية عند الشافعي رضي الله عنه، ولا نكاح المشركة بالاتفاق، فإذا ثبت ذلك، استوى وجود هذا العذر وعدمه.

وهذا يدل على جهله بأوضاع الأصول وقواعد الأحكام، فإن الذي [ ص: 423 ] جوز لمكان الحاجة، ينقسم أقساما ويترتب على أبحاث مختلفة.

فمنها ما يعتبر فيه غاية الحاجة.

ومنها ما يعتبر فيه دون ذلك، كالتيمم عند عدم الماء.

ومنها ما يعتبر فيه مظنة الحاجة لا صورتها.

ومنها ما يعتبر فيه ضرر ظاهر، وإن لم يفض إلى هلاك نفس أو فساد عضو، كالقيام في الصلاة، والصيام في المرض، والجمع بين الصلاتين، فيجوز أن يجعل خوف العنت داخلا في أقسام الحاجات، وإن كان الأمر في الكتابية الأمة والمجوسية أعظم من ذلك، فلا يحل بهذا النسب.

ثم مراتب تلك الحاجات مختلفة تعلم بالأدلة الشرعية، فليس فيما ذكره ما يرفع التعلق بالعموم من هذه الآية.

وحكى عن أبي يوسف القاضي أنه قال:

تأويل الآية: ومن لم يستطع منكم طولا ، لعدم الحرة في ملكه، وقال: وجود الطول هو كون الحرة تحته.

فلزمه على هذا، أن من ليس عنده حرة، فهو غير مستطيع للطول إليها، فالطول عنده هو وطء الحرة.

وهذا التأويل في غاية الضعف فإنه لما قال: ومن لم يستطع ، فيقتضي أن يكون غير مستطيع أمرا، والذي لا حرة تحته، قادر على نكاح الحرة ووطئها إذا نكح.

فإن قال: هو عاجز في الحال قبل النكاح، فلا يخفى أن في مثل ذلك لا يقال هو غير مستطيع للوطء، وإنما الطول الفضل والغنى، قال الله تعالى:

[ ص: 424 ] استأذنك أولو الطول منهم .

وعلى أن الذي الحرة عنده لا ينكح الأمة.

وإن كان عاجزا عن وطئها كالغائبة والصغيرة والرتقاء، فلا حاصل لهذا التأويل بوجه، فكيف يتوهم ذلك وقد قال تعالى: ذلك لمن خشي العنت منكم .

والقادر على نكاح الحرة، كيف يخشى العنت إذا عشقها وصار مفتتنا بها؟ فيقال في الجواب عنه:

فإن عندك لا يعتبر الخوف من هذا الوجه، فلا وجه لاعتباره.

نعم ها هنا دقيقة، وهي: أن الحرة إذا كانت في نكاح الحر عندنا، فلا تحل له الأمة، سواء خاف العنت أو لم يخف، وسواء قدر على الحرة أم لم يقدر، كغيبتها أو رتقها، فليس يحرم نكاح الأمة ها هنا لوجود الطول، أو لأمن العنت، بل لعين نكاح الحرة.

وكان الشافعي رضي الله عنه يقول: الظاهر من وجود النكاح الطول والأمن، فلا مبالاة بنكاح نادر لا يفضي إلى ذلك، بل يحسم الباب.

نعم، الغيبة عن ماله جعلت عدما شرعا في أصل آخر، وهو جواز أخذ الصدقة، فيلقى ذلك من ذلك الأصل، فلم يمكن اعتبار غيبة المال بالنادر الذي لا ينظر إليه.

وها هنا مذهب لمالك وهو أنه يقول: إذا كانت الحرة معه وهو غير [ ص: 425 ] واجد للطول في حق أخرى، ويخشى لعشقه أن يزني بالأمة، فله التزوج بالأمة والحرة في حيازته.

فقيل لهم: فإذا قلتم مع وجود الحرة يتزوج بالأمة، فقدرته على طول أخرى لا يزيد على هذه الحرة، فوجود هذه الحرة إذا لم يمنع، فالقدرة على مثلها في الابتداء لم يمنع، وكيف ينتظم ذلك وأبو حنيفة لما قال: وجود الحرة يمنع والقدرة لا تمنع، كان ذلك أمثل من قول مالك في هذا.

وقد حكى ابن وهب عن مالك، أنه لا بأس أن يتزوج الرجل الأمة على الحرة، والحرة على الأمة، والحرة بالخيار .

وقال ابن القاسم في الأمة تنكح على الحرة، أرى أن يفرق بينهما، ثم رجع فقال:

تخير الحرة إن شاءت أقامت وإن شاءت فارقت.

فوجه إسماعيل المالكي على نفسه هذا السؤال، وأراد أن يفصل بين حرة موجودة معه، وبين القدرة على حرة، فإن الوجود لا يمنع، والقدرة تمنع فقال:

إن الذي عنده حرة قد تزوجها، فليس له بعد الامتحان أنه يخاف العنت، وإن عشق الجارية لا يندفع بنكاح الحرة، والذي يريد أن يتزوج وهو يجد الطول فهو شاك، فلعله إذا تزوج حرة زال خوف العنت وأنس بها، فنحن اعتبرنا عدم الطول عند خوف العنت، فما لم يقع الأمن، فهو شاك لا يدري أيخاف أم لا، فإذا وقع وهو متيقن أنه قد خاف، فهو الموضع الذي قد أبيح؟

[ ص: 426 ] وهذا في غاية الركاكة، وحاصله أن القدرة مانعة للنكاح الذي اعتبرت مانعة لأجله، وإن نكح حرة وهو قادر فلا ينكح، وإن نكح حرة وخرج عن كونه قادرا فله نكاح الأمة، وجعل القدرة مانعة، من غير أن يكون المنع لأجل المقدور عليه وهو النكاح، وهذا في غاية البعد.

قوله تعالى: من فتياتكم المؤمنات .

يدل على اعتبار الإيمان على الوجه الذي تقدم ذكره في أول الآية، وكيفية الاستدلال بها.

ومن الجهالات العظيمة قول الرازي: إن قوله تعالى: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ، يتناول الإماء والكتابيات، مع أنه تعالى ذكر ذلك ثم قال: ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات .

فأبان أن إطلاق المحصنة ما تناول الأمة المؤمنة، أفتراها متناولة للكافرة؟ وذلك في غاية الركاكة.

[ ص: 427 ] نعم ها هنا شيء، وهو أنه إن قال قائل: قد أبان الله تعالى أقسام المحرمات بالرضاع وبالنسب ثم قال: وأحل لكم ما وراء ذلكم : فأشبه أن يكون ما بعده تعرض لبيان ما يكره من الأنكحة وما لا يكره، مع الإجزاء، ليكون كتاب الله تعالى مستوعبا للقسمين، فأبان بعد قوله:

وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين .

وقال بعده:

ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات لإبانة المكروه من النكاح.

ولذلك قال:

محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان .

وقال: المحصنات المؤمنات .

ولو نكح غير مؤمنة يجوز، لأن القصد بيان المكروه لا بيان المحرم.

والجواب عنه، أن المقصود بالأول بيان حكم المحرمات اللواتي لا تحل بحال، وذكر بعده ما يجوز أن يباح في بعض الأحوال، وذكر بعده ما يحرم لفقد شرط في العقد، لا لتحريم في المحل، فلم يقل المحل محرم، ولكنه أبان عن شرط العقد.

ودل على بطلان هذا التأويل قوله تعالى:

وأن تصبروا خير لكم .

ودل عليه أيضا قوله:

[ ص: 428 ] والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ، مع أن نكاحها مكروه، فهذا يدل على بطلان التأويل قطعا.

إذا تمهد هذا الأصل، فيبقى بعده النظر في أن الشافعي رضي الله عنه يجوز للعبد نكاح الأمة مع الحرة، وقوله تعالى: ومن لم يستطع منكم طولا ، عام في الجميع.

فقال الشافعي رضي الله عنه: لا طول للعبد.

فقيل له، إذا كانت الحرة تحته فهو مستطيع؟

فقال: النكاح لا يسمى طولا، فإنما جعلنا نكاح الحرة في حق الحرة مانعا لا بحكم الآية ، لا سيما ومساق الآية يدل على الاختصاص، فإنه تعالى قال: فانكحوهن بإذن أهلهن فاعتبر إذن أهلهن ولم يتعرض لإذن المولى في حق المتزوج، فدل أن الآية للأحرار.

فكأنا نتعلق بالعموم في قوله: وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم الآية. إلا فيما استثنى، والاستثناء بالشرط وقع في حق الحرة، فبقي العبد على الأصل في العموم، وهذا واضح فاعلمه.

ولما لم يكن اللفظ متناولا لنكاح الأمة عند إدخال الحرة على الأمة، لا جرم قال الشافعي رضي الله عنه:

إن الله تعالى جوز نكاح الأمة لخوف العنت، ولم يكن هذا الخوف [ ص: 429 ] نسخا محرما من الإبضاع في شيء من أصول الشرع، فكان هذا خاصا في هذا الحكم، فلم يكن لنا أن نتوسع في الاعتبار، فإذا صار هذا المعنى مانعا ابتداء النكاح، فلا يمكن أن يجعل على خصوصه، وخروجه عن أصول الشرع، قاطعا دوام النكاح الذي هو أثبت من الابتداء، بل يقتصر على ما ورد ، ولا يتعدى، كما اقتصرنا على الحر ولم نتعده، وليس يتبين لنا أن العبد مثل الحر في هذا المعنى الدقيق المتعلق بالتفصيل، ويترقى الكلام في هذا التفصيل والتصرف في غوامض هذه المراتب إلى أعلى الغايات في الدقة، والمتأمل يعرف به بعد غور الشافعي، ولطف نظره في مغمضات الأصول ومآخذ الأحكام، والله تعالى يوفقنا للوقوف على معاني كلامه.

قوله تعالى: فانكحوهن بإذن أهلهن : دليل على اشتراط الإذن في نكاحها، والرازي يسلم ذلك.

واحتج بأن جعله شرطا، وترك لأجله العمومات في نكاح العبد والحر، وما أسرع ما نسي سابق قوله: فإن تخصيص الإباحة بحال وشرط لا يدل على نفي ما عداه، ثم قال: ما نعلم أحدا استدل به قبل الشافعي، ثم قال: ولو كان هذا دليلا لكانت الصحابة أولى بالسبق إلى الاستدلال به في هذه المسألة ونظائرها من المسائل، مع كثرة ما اختلفوا فيه، ثم على قرب العهد بهذا الكلام استدل بمثله، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في عموم الأحوال أنه قال:

[ ص: 430 ] إذا تزوج العبد بغير إذن سيده فهو عاهر.

فإن احتج من يجوز التزويج بها بإذن سيده بقوله تعالى: فانكحوهن بإذن أهلهن وأن اللفظ بعمومه يدل عليه، والشافعي رضي الله عنه يقول بموجب الآية، فإنه لا يجوز نكاحها إلا بإذنها، وليس فيه أن الإذن المجرد كفى عما ليس فيه بإسقاط سائر الشرائط عند وجود الإذن.

قوله تعالى: وآتوهن أجورهن بالمعروف .

يدل على وجوب المهر لها في عموم الأحوال.

وقوله: "بالمعروف"، يمنع الغلو في المهر والتقصير.

فأضاف الأجور إليهن لوجوبه بسبب نكاحهن، وتقديره: فانكحوهن بإذن أهلهن، وآتوهن أجورهن بإذن أهلهن، فإنه كلام مفيد بنفسه لا حاجة إلى تعليقه على غيره، فتم الكلام بنفسه.

وروى عن مالك أن الأمة تستحق المهر، وهذا بعيد، فإنها لو كانت قابضة للمهر إلى نفسها، لكانت مستحقة للأجرة إذا أجرها السيد.

وربما قال: النكاح حقها، ولذلك لا يجوز تزويجها من مجبوب، [ ص: 431 ] وإذا زوجت فلها الخيار إذا علمت. وربما يقال: لا ينعقد العقد.

وليس نكاح الأمة نقل الملك إلى غيره، بل هو إثبات الحق في منافع بضعها للزوج على وجه لم يكن، فلذلك لم يجز النكاح بلفظ التمليك عند أكثر العلماء وهذا كلام له وجه.

إلا أن المهر لا تملكه المرأة ، لأجل أنها لا تملك شيئا والعبد إذا خالع زوجته فلا يملك البدل عندنا وإنما ذلك للسيد، لأن للسيد حقا في منافع بضع العبد; ولكنه لما لم يملكه العبد، كان السيد أحق به.

ولعل مالكا يقول أيضا في الأمة إذا وطئت بالشبهة، أن المهر يكون لها، وهذا مبني على أن العبد هل يتصور أن يكون له ملك مستقل به، والمسألة فرع ذلك الأصل.

ثم إن إسماعيل بن إسحاق المالكي قال: زعم بعض العراقيين أنه إذا زوج أمته من عبده فلا مهر، وهذا خلاف الكتاب والسنة، وأطنب فيه.

وأجاب الرازي عن ذلك: بأنا نوجب المهر، ولكنه يسقط بعد الوجوب لئلا يكون استباحة البضع بغير بدل، ثم يسقط في الثاني حتى يستحقه المولى، لأنها لا تملك والمولى هو الذي يملك مالها، ولا يثبت للمولى على عبده دينا، وهو مثل قول بعض أصحاب الشافعي رضي الله عنه في وجوب القصاص على الأب ثم سقوطه.

[ ص: 432 ] والذي ذكره الرازي لا يقطع تشغيب إسماعيل، فإنه إنما شنع بأمر فقال:

أفيجوز أن يكون الصداق فرضا من فرض الله تعالى لحرمة البضع حتى لا يتبذل دون الصداق ثم يغشى النساء من غير مهر؟

والرازي إن قال له: يجب بنفس العقد فلا يقول: إنه يجب عندنا لغشيان شيء.

ولا شك أن الوطء يعرى عن المهر في حق الأمة المزوجة، وفيه بشاعة، فإن الغشيان كيف خلا عن وجوب المهر، وعلى أن إيجاب المهر في هذا العقد فيه إشكال، فإن المهر لو وجب لوجب لشخص على شخص، فمن الذي أوجب له وعلى من وجب؟

فإن قلت: وجب للسيد على العبد، فهذا محال أن يثبت له دين على عبده.

وإن قلت: وجب لا على أحد، فمحال.

وكما أن العقد يقتضي الإيجاب، فالملك يقتضي الإسقاط، وليس له إيجابه ضرورة الإسقاط، كما يقال: إن إثبات الملك للابن ضرورة العتق، فإن العتق لا يتصور بدون الملك، فأما إسقاط المهر فلا يقتضي إثباته، بل يمكن أن يقال: لا يجب المهر أصلا بوجه من الوجوه، فإنه لو وجب لوجب للسيد، وهذا بين في نفسه، وهو الصحيح من مذهبنا.

وأما استبعاد إسماعيل بن إسحاق، فلا وجه له، لأن الله تعالى أوجب المهر إذا أمكن إيجابه، وقد دل الدليل على أن العبد لا يملك بالتمليك أصلا، وإذا لم يملك ولا بد من مالك، والسيد استحال أن [ ص: 433 ] يكون مالكا، فامتنع لذلك، فيكون الكلام عائدا إلى أصل آخر، وهو أن العبد هل يملك أم لا؟ ويخرج عن مقصودنا.

قوله تعالى: محصنات غير مسافحات .

قد مضى بشرحه، وبينا أن معناه أن يكون العقد عليها بنكاح صحيح، وأن لا يكون الوطء على وجه الزنا: لأن الإحصان هو النكاح، والسفاح هو الزنا.

ولا متخذات أخدان : يعني لا يكون وطؤها على حسب ما كان عليه عادة الجاهلية في اتخاذ الأخدان.

قال ابن عباس: كان قوم منهم يحرمون ما ظهر من الزنا ويستحلون ما بطن وخفي منه.

والخدن هو الصديق للمرأة زنا بها سرا، فنهى الله عز وجل عن الفواحش ما ظهر منها ومن بطن، وحرم الوطء إلا على ملك نكاح أو ملك يمين، ويقرب منه نهي النبي عليه السلام: عن مهر البغي، فإنه يرجع إلى أنه أوجب المهر لحرمة الوطء وحرمة سبب الوطء; وأما البغي فلا مهر لها.

[ ص: 434 ] قوله تعالى: فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب .

فقال قوم: "فإذا أحصن" بالضم يدل على التزويج، ويفهم منه أن الأمة لا يجب عليها الحد وإن أسلمت حتى تتزوج، وهو قول ابن عباس.

ومن قرأ بالفتح حمله على الإسلام، وأن عليها الحد إذا أسلمت، وهو قول أكثر العلماء في معنى الآية، ولا عبرة بالمعنيين في إيجاب الحد، فإن الحد واجب على الأمة الكافرة إذا زنت، ودلت الأخبار عليه، وعلى التسوية بين الحرة والأمة في هذا المعنى.

فإذا ثبت ذلك فإن قال قائل: فما فائدة ذكر الإحصان بمعنى الإسلام والنكاح ولا أثر لهما؟

قيل: أما الإسلام، فإنما ذكر على أحد المعنيين، لأنهن كن يحسبن البغاء مباحا، واتخاذ الخدن مباحا، وإذا جرى ذلك على اعتقاد الإباحة فلا حد.

وقوله: إذا أسلمن، يعني أن بالإسلام كن يعرفن تحريم ذلك، وقبل الإسلام ما كن يعرفن ذلك.

الوجه الآخر إن حمل قوله: "أحصن" على النكاح، فإنما ذكر النكاح حتى لا يتوهم متوهم أنه يريد عقوبتها بالنكاح، كما أراد في حق الحرة إذا تزوجت، فأبان الله تعالى أنها وإن تزوجت وهي مسلمة، فعليها مثل ما كان من قبل. ثم ذكر الله تعالى الإحصان في حق الإماء وقال:

[ ص: 435 ] فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ، ولم يرد به الرجم، إذ لا نصف له فإذا لم يرد الرجم، فلا يمكن أن يكون الإحصان في الحرة بمعنى النكاح; لأن الحرة إذا أحصنت بالنكاح فعليها الرجم، فيكون المراد بالمحصنة ها هنا الحرة، فالإحصان في حق الأمة بمعنى النكاح، وفي حق الحرة بمعنى الحرية، فاختلف معنى الإحصان باختلاف محاله.

إذا ثبت ذلك فالله تعالى يقول: فإذا أحصن الآية. ذكر حكم الأمة والحرة، وفهمت الأمة منه أن العبد والحر مثلهما في معناهما، كما قال:

إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات .

والأحرار المؤمنون الغافلون كمثلهن، لأن المعنى في الكل واحد، وهذا من أجلى مراتب الأقيسة.

والشافعي رضي الله عنه أورد هذا المثال في باب القياس، عند ذكر مراتب الأقيسة.

ومثله قوله عليه السلام:

"من أعتق شركا له في عبد عتق عليه الباقي".

وبالجملة: إذا ظهر مقصود الشرع في المسكوت عنه والمنطوق به، استوى الكل في الاعتبار.

[ ص: 436 ] قوله تعالى: فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن .

يدل على جواز عطف الواجب على الندب، لأن النكاح ندب وإيتاء المهر واجب.

وقال تعالى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء .

ثم قال: وآتوا النساء صدقاتهن نحلة .

ويصح عطف الندب على الواجب أيضا، كقوله تعالى:

إن الله يأمر بالعدل والإحسان ، فالعدل واجب والإحسان ندب.

وقال الشافعي رضي الله عنه في قوله: فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم الكتابة ندب والإيتاء واجب.

وقال أبو حنيفة في قوله تعالى: وأتموا الحج والعمرة لله ، الحج واجب، والعمرة ندب، إلى غيره من الأمثلة.

قوله تعالى: ذلك لمن خشي العنت منكم .

بينا معناه، وأنه حرم ذلك لئلا يكون إرقاقا للولد.

وهذا يصلح أن يفهم منه معنى التحريم، فيفهم مثل هذا الحكم في مثل هذا المحل، فمقتضاه أن لا يحرم على العبد ولا ينقطع الدوام، وهو [ ص: 437 ] نظر دقيق بينا وجهه من قبل، فإذا أراد أبو حنيفة حمله على معنى الاستحباب، كان متحكما، ونحن متعلقون بالأصل والظاهر.

التالي السابق


الخدمات العلمية