الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى: واعلموا أنما غنمتم من شيء ، الآية: 41. وقال في آية أخرى: فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا . قال ابن عباس ومجاهد: إن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى: قل الأنفال لله والرسول وذلك أنه عليه الصلاة والسلام جعل ينفل ما أحرزوه بالقتال لمن شاء، ولم يكن لأحد فيه حق، إلا من جعله الرسول له، وذلك كان في يوم بدر، وقد روينا حديث سعد في قصة السيف الذي استوهبه من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر وقال: إنك سألتني هذا السيف، وليس هو لي ولا لك، ثم نزل: قل الأنفال لله والرسول ، فدعاه فقال: إنك سألتني هذا السيف، وما كان لي ولا لك، وإن الله تعالى جعله لي وجعلته لك .

وروى أبو صالح عن أبي هريرة قال: لما كان يوم بدر تعجل ناس من المسلمين، فأصابوا من الغنائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم تبح الغنائم لقوم سود الرؤوس من قبلكم" ، كان النبي إذا غنم هو [ ص: 156 ] وأصحابه جمعوا غنائمهم، فتنزل نار من السماء فتأكلها، فأنزل الله تعالى: لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم، فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا .

وقوله: فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا يقتضي بظاهره أن تكون الغنيمة للغانم فقط، وأن يكونوا مشتركين فيها على سواء، إلا أن قوله تعالى: واعلموا أنما غنمتم من شيء بين وجوب إخراج الخمس منه وصرفه إلى الوجوه المذكورة، ثم بعده يخلص للقائمين بعد الصفي والسلب والعطايا المتقدمة، ولولا الأخبار المأثورة لكان الفارس كالراجل، والعبد كالحر، والصبي كالبالغ.

واعلم أن الاتفاق حاصل على أن المراد بقوله: غنمتم من شيء : مال الكفار، إذا ظهر به المسلمون على وجه الغلبة، ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص، ولكن عرف الشرع قيد اللفظ بهذا النوع: وسمى الشرع الواصل إلينا من الكفار من الأقوال باسمين: أحدهما: الفيء، وهو الذي يصل إلينا من الكفار من غير حرب، كالجزية والخراج الحق. ثم إن الله تعالى كما أضاف الغنيمة إلى الغانمين، أضاف الفيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى . فاقتضى ظاهر الآية، أن يجعل بعد إخراج الخمس أربعة أخماس، [ ص: 157 ] والفيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يختص الغانمون بأربعة أخماس الغنيمة، فإنه تعالى قال: ( إنما غنمتم من شيء ) . وقال: فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا . فاقتضى ظاهره أن يكون كله له، خص منه البعض، وبقي الثاني على مقتضى الإضافة، وهذا حسن بين.

ومن جملة الفيء: مال المرتد إذا قتل على الردة. ومال الكافر غنيمة، إن كان وصوله إلينا بقهره وقتله، فإن مات من غير قتال، فوجدنا ماله فهو فيء. وإذا ثبت القول في أربعة أخماس الفيء والغنيمة فنقول: أما الخمس، فإن الذي لا خلاف فيه أن لليتامى والمساكين وابن السبيل حقا باقيا في خمس الغنيمة. واختلف الناس بعد الثلاثة في قوله: فلله وللرسول ولذي القربى . فأما قوله: فأن لله خمسه ، فأكثر العلماء على أنه استفتاح كلام، وأن لله تعالى الدنيا والآخرة.

وروى الطحاوي عن أبي العالية أن سهم الله تعالى مصروف في نفقات الكعبة، والذي ذكره بعيد، فإنا إن أقررنا سهما لله تعالى، أدى ذلك إلى أن يكون الخمس مقسوما على ستة، فعلى هذا يجب أن نقول: فأن لله سدسه، ولأنه ليس بأن يجب صرفه إلى بيت الله تعالى بأولى من صرفه إلى أولياء الله. نعم; قد قال تعالى: فأن لله خمسه ، يعني: كل ذلك الخمس يصرفه [ ص: 158 ] فيما شاء، وأراد لا أن له البعض دون البعض، ولا يجوز أن يعتقد من الإطلاق، كون مال الفيء مشتركا بين الله وبين غيره. وأما سهم الرسول; فقد كان له الخمس من خمس الغنيمة، فيصرفه في كفاية أولاده ونسائه، ويدخر من ذلك قوت سنة، وما يفضل يصرفه إلى الكراع والسلاح وغير ذلك من المصالح.

وقال الشعبي: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب من الغنائم لنفسه شيئا قط إلا الصفي من المغنم، وهو ما كان يتناوله من عبد أو أمة أو فرس. حكى الطحاوي ذلك عن الشعبي، وذكر عنه أن سهمه من الغنيمة كان كسهم رجل من المسلمين وراء ما خص به من الصفي. والظاهر يدل على أن الخمس مشترك بين رسول الله وبينهم، ولا يمكن أن يقال إن الصفي من جملة ذلك، فإن الصفي كان يتناوله من جملة الغنيمة قبل القسمة، فهو حق، سوى هذا الخمس المذكور. ولرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حضر الوقعة ما لسائر من حضرها من أربعة أخماس الغنيمة. واختلفوا في سهمه، فقال الطحاوي: إن طائفة قالت: هو للخليفة بعده. وقالت أخرى: يصرف في الحمل والعدة في سبيل الله. وطائفة قالت: بل زال بموته. ولا يدل الظاهر على أكثر من استحقاقه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يدل على مصرف من هذه المصارف بعده. وقد دل الدليل على أن ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم المستقر في حالة حياته، لا يورث عنه، فلأن لا يورث عنه ما يتجدد من الغنيمة، ولا يوجد سبب ملكه أولى.

[ ص: 159 ] ولا دليل على قيام الإمام مقامه بعده، لأنه اختص به لمنصب النبوة، كما اختص بالصفي من المغنم، وأقرب شيء يتخيل فيه صرفه في الكراع والسلاح، بدلالة أنه عليه السلام كان يصرف الفاضل من الخمس في هذا الوجه.

والجواب: أنه كان يصرفه اختيارا لا استحقاقا، ولو ثبت أنه كان يصرفه إلى هذا الوجه استحقاقا، لقرب أن يقال: إن الأولى بهذا السهم هذا الوجه، فعلى هذا الأقرب، أنه يصرف خمس الخمس إلى الباقين، قياسا على الصدقة الواجب صرفها إلى الأصناف، إذا تعذر صنف وجب صرفه إلى الباقين.

فعلى هذا قال الشافعي : يقسم الخمس بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أربعة، وهذا مذهب الشافعي ، فإنه قال: إن لبني هاشم وبني عبد المطلب سهما من الخمس. وقال أبو حنيفة : يقسم الخمس على ثلاثة أسهم; على اليتامى والمساكين وابن السبيل. وخالفه أبو يوسف. وقال قائلون: هو لفقرائهم عوضا عما حرموا من الصدقة. وقال آخرون: هو للفقراء والأغنياء منهم. ثم إن الذين أثبتوا لهم الاستحقاق اختلفوا: فمنهم من قال: يقسم قسمة الغنيمة على التساوي. ومنهم من قال: يقسم كقسمة المواريث، فإنه مال مستحق بالقرابة.

والظاهر تعلق الاستحقاق بالقرابة، إلا أن القرآن ورد بذكر ذي القربى، وقد صار بعض السلف لأجله إلى أنه لجميع قريش، وثبت أنه عليه الصلاة والسلام لم يعط من ذلك من انتمى إليه بأقرابه مطلقا، والمراد [ ص: 160 ] به الخصوص، وليس يتأتى تعليله بالقرابة المطلقة، لأن سعيد بن المسيب روى عن جبير بن مطعم أنه وعثمان جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمانه فيما قسمه من خمس الخمس بين بني هاشم وبني المطلب، فقالا: يا رسول الله، قسمت لإخواننا بني المطلب وقرابتنا وقرابتهم واحدة، فقال: "إنما أرى هاشما والمطلب شيئا واحدا" .

وروى أنه قال: "إن بني المطلب لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام" . فلم يعط لبني أمية ولا لبني نوفل شيئا، وقرابتهم كقرابة بني المطلب، وهذا يدل على التخصيص. فعلى هذا; رأى أبو حنيفة استحقاقهم بالنصرة في حياة رسول الله. وقال آخرون: لا بل لا استحقاق لهم إلا بالفقر، إلا أن ذكر ذوي القربى مع أن الفقر مستقل، كذكر اليتامى، ولا يصرف إلى اليتامى إلا إذا كانوا فقراء، ولا فرق ... ولا معنى لقول من يقول: إن اليتم عبارة عن الحاجة، فإن اليتم عبارة عن الحاجة إلى الكافل لا إلى المال، وليس في اسم اليتم ما يدل على عدم المال، ولعلهم يقولون: إنما ذكر ذوي القربى مع أن الفقر شرط حتى لا يتوهم متوهم، أنهم كما فارقوا الفقراء من المسلمين في أن لا تصرف الصدقات إليهم مع الفقر، فكذلك الخمس، فقطع الشرع هذا الاحتمال، وهذا محتمل، ويصرف إلى اليتامى مع أن الفقر شرط، والمقصود من ذكره أن الخمس يقسم على أربعة أسهم عند الشافعي ، وعلى ثلاثة عند أبي حنيفة، ولا بد من الصرف إلى هذه الأجناس. [ ص: 161 ] والمقصود من ذكرها مع اشتراط الفقر فيها: تعديد جهات الحاجات واستيعابها، فأما الأربعة أخماس، فظاهر القرآن يقتضي أنها لمن غنمه.

وقوله: أنما غنمتم : يشتمل الرقاب والعقار، إلا أن الرقاب الخيرة فيها إلى الإمام بلا خلاف، وفي الديار اختلف العلماء فيها. وليس في كتاب الله تعالى تفضيل للفارس على الراجل، بل فيه أنهما على سواء. وفي المأخوذ على جهة التلصص; اتفق العلماء على أنه لا تخميس، وظاهر القرآن يقتضي تخميس كل مغنوم، وذلك يستوي فيه هذا وما سواه.

وظاهر اللفظ أيضا يقتضي التسوية فيه بين الصبي والبالغ، إلا أن الدليل قام على أن الصبي يرضخ له. واعلم أن ظاهر قوله: واعلموا أنما غنمتم من شيء ربما لا يظهر عند الناس في تعارف اللغة أن من استولى على مثله فقد غنمه، وأنه يصرف خمسه إلى كذا وكذا في أن الحرية تسلب عن المسترق، وإنما ظهر ذلك بعرف الشرع، وعرف الشرع دل على أن الغنيمة اسم للمأخوذ من الكفار بطريق القهر، ولا يدل على أخذ أنفسهم من حيث عرف اللغة، وفي الشرع: الإمام على التخيير بين الخلال التي بينها الفقهاء.

التالي السابق


الخدمات العلمية