الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما لانوا بهذا الخطاب، وأقبلوا على الملك التواب، أقبل عليهم فقال: وإذ أي: اذكروا هذا الذي ذكره الله لكم وقد كان حالكم فيه ما ذكره، ثم أفضى إلى سعادة عظيمة وعز لا يشبهه عز، واذكروا إذ: يعدكم الله أي: الجامع لصفات الكمال إحدى الطائفتين العير أو النفير، وأبدل من الإحدى - ليكون الوعد بها مكررا - قوله: أنها لكم أي: فتكرهون لقاء ذات الشوكة وتودون أي: والحال أنكم تحبون محبة عظيمة أن غير ذات الشوكة أي: السلاح والقتال والكفاح الذي به تعرف الأبطال ويميز بين الرجال من ذوات الحجال تكون لكم أي: العير لكونها لم يكن فيها إلا ناس قليل، يقال: إنهم أربعون رجلا، جهلا منكم بالعواقب، ثم تبين لكم أن ما فعله الله خير لكم بما لا يبلغ كنهه، فسلموا له الأمر في السر والجهر [ ص: 225 ] تنالوا الغنى والنصر، وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير العاصمي في مناسبة تعقيب الأعراف بهذه السورة ومناسبة آخر تلك لأول هذه ما نصه: لما قص سبحانه على نبيه صلى الله عليه وسلم في سورة الأعراف أخبار الأمم، وقطع المؤمنون من مجموع ذلك بأنه لا يكون الهدى إلا بسابقة السعادة، لافتتاح السورة من ذكر الأشقياء بقصة إبليس وختمها بقصة بلعام، وكلاهما كفر على علم ولم ينفعه ما قد كان حصل عليه، ونبه تعالى عباده على الباب الذي أتى منه على بلعام بقوله سبحانه: ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فأشار سبحانه إلى أن اتباع الأهواء أضل كل ضلال، نبهوا على ما فيه الحزم من ترك الأهواء جملة فقال تعالى: يسألونك عن الأنفال الآية. فكان قد قيل لهم: اتركوا ما ترون أنه حق واجب لكم، وفوضوا في أمره لله وللرسول، فذلك أسلم لكم وأحزم في ردع أغراضكم وقمع شهواتكم وترك أمور ربكم وقد ألف في هذه الشريعة السمحة البيضاء حسم الذرائع كثيرا وإقامة مظنة الشيء مقامه كتحريم الجرعة من الخمر والقطرة، والخطبة في العدة واعتداد النوم الثقيل ناقضا، فهذه مظان لم يقع الحكم فيها على ما هو لأنفسها ولا بما هي كذا، بل بما هي مظان ودواع لما منع لعينه [ ص: 226 ] أو استوجب حكما لعينه وعلته الخاصة به، ولما أمر المسلمون بحل أيديهم عن الأنفال يوم بدر إذ كان المقاتلة قد هموا بأخذها وحدثوا أنفسهم بالانفراد بها ورأوا أنها من حقهم وأن من لم يباشر قتالا من الشيوخ ومن انحاز منه لمهم فلا حق له فيها، ورأى الآخرون أيضا أن حقهم فيها ثابت لأنهم كانوا فيه للمقاتلين عدة وملجأ وراء ظهورهم، كان ما أمرهم الله به من تسليم الحكم في ذلك إلى الله ورسوله من باب حسم الذرائع؛ لأن تمشية أغراضهم في ذلك - وإن تعلق كل من الفريقين بحجة - مظنة لرئاسة النفوس واستسهال اتباع الأهواء، فأمرهم الله بالتنزه عن ذلك والتفويض لله ولرسوله؛ فإن ذلك أسلم لهم وأوفى لدينهم وأبقى في إصلاح ذات البين وأجدى في الاتباع فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم الآية. ثم ذكروا بما ينبغي لهم أن يلتزموا فقال تعالى: إنما المؤمنون - إلى قوله: زادتهم إيمانا ثم نبهوا على أن أعراض الدنيا من نفل أو غيره لا ينبغي للمؤمن أن يعتمد عليه اعتمادا يدخل عليه ضرارا من الشرك أو التفاتا إلى غير الله سبحانه بقوله: وعلى ربهم يتوكلون ثم ذكروا بما وصف به المتقين من الصلاة والإنفاق ثم قال: أولئك هم المؤمنون حقا تنبيها على أن من قصر في هذه الأحوال ولم يأت بها على كمالها لم يخرج عن الإيمان ولكن ينزل عن درجة الكمال بحسب تقصيره، وكان في هذا إشعار بعذرهم في كلامهم في الأنفال وأنهم قد كانوا في مطلبهم على حالة من الصواب وشرب من [ ص: 227 ] التمسك والاتباع، ولكن أعلى الدرجات ما بين لهم ومنحوه، وأنه الكمال والفوز، ثم نبههم سبحانه بكيفية أمرهم في الخروج إلى بدر وودهم أن غير ذات الشوكة تكون لهم وهو سبحانه يريهم حسن العاقبة فيما اختاره لهم، فقد كانوا تمنوا لقاء العير، واختاروا ذلك على لقاء العدو ولم يعلموا ما وراء ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين إلى ما قصه تعالى عليهم من اكتنافهم برحمته وشمول ألطافه وآلائه وبسط نفوسهم ونبههم على ما يثبت يقينهم ويزيد في إيمانهم، ثم أعلم أن الخير كله في التقوى فقال: يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا الآية. وهذا الفرقان هو الذي حرمه إبليس وبلعام، فكان منهما ما تقدم من اتباع الأهواء القاطعة لهم عن الرحمة، وقد تضمنت الآية حصول خير الدنيا والآخرة بنعمة الاتقاء، ثم أجمل الخيران معا في قوله: والله ذو الفضل العظيم بعد تفصيل ما إليه إسراع المؤمنين من الفرقان والتكفير والغفران، ولم يقع التصريح بخيري الدنيا الخاص بها مع اقتضاء الآية إياه تنزيها للمؤمن في مقام إعطاء الفرقان وتكفير السيئات، والغفران من ذكر متاع الدنيا التي هي لهو ولعب فلم يكن ذكر متاعها الفاني ليذكر مفصلا مع ما لا يجانسه ولا يشاكله.

                                                                                                                                                                                                                                      وإن الدار الآخرة لهي الحيوان ثم التحمت الآي، ووجه آخر وهو [ ص: 228 ] أنه تعالى لما قال: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له بين لهم كيفية هذا الاستماع وما الذي يتصف به المؤمن من ضروبه فقال: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله الآية. فهؤلاء لم يسمعوا بآذانهم فقط، ولا كانت لهم آذان لا يسمعون بها ولا قلوب لا يفقهون بها، ولو كانوا كذا لما وجلت وعمهم الفزع والخشية وزادتهم الآيات إيمانا، فإذن إنما يكون سماع المؤمن هكذا ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ولما كان هؤلاء إنما أتى عليهم من اتباع أهوائهم والوقوف مع أغراضهم وشهواتهم يأخذون عرض هذا الأدنى ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه وهذه بعينها كانت آفة إبليس، رأى لنفسه المزيد واعتقد لها الحق ثم اتبع هذا الهوى حين قال: لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون فلما كان اتباع الهوى أصلا في الضلال وتنكب الصراط المستقيم، أمر المؤمنين بحسم باب الأهواء، والتسليم فيما لهم به تعلق وإن لم يكن هوى مجردا لكنه مظنة تيسير لاتباع الهوى، فافتتحت السورة بسؤالهم عن الأنفال وأخبروا أنها لله ورسوله، يحكم فيها ما يشاء. فاتقوا الله واحذروا الأهواء التي أهلكت من قص عليكم ذكره وأصلحوا ذات بينكم برفع التنازع، وسلموا لله ولرسوله، وإلا لم تكونوا سامعين وقد أمرتم أن تسمعوا السماع الذي [ ص: 229 ] عنه ترجى الرحمة، وبيانه في قوله: إنما المؤمنون - الآيات. ووجه آخر؛ وهو أن قصص بني إسرائيل عقب بوصاة المؤمنين وخصوصا بالتقوى وعلى حسب ما يكون الغالب فيما يذكر من أمر بني إسرائيل ففي البقرة أتبع قصصهم بقوله: يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا ولما كان قصصهم مفتتحا بذكر تفضيلهم: " يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين " افتتح خطاب هذه الأمة بما يشعر بتفضيلهم، وتأمل ما بين: " يا بني إسرائيل "و: " يا أيها الذين آمنوا " وأمر أولئك بالإيمان: وآمنوا بما أنـزلت وأمر هؤلاء بتعبد احتياطي فقيل: وقولوا انظرنا واسمعوا ثم أعقبت البقرة بآل عمران وافتتحت ببيان المحكم والمتشابه الذي من جهته أتى على بني إسرائيل في كثير من مرتكباتهم، ولما ضمنت سورة آل عمران من ذكرهم ما ورد فيها، أعقبت بقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين ثم أعقبت السورة بقوله: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وعدل عن الخطاب باسم الإيمان للمناسبة، وذلك أن سورة آل عمران خصت من مرتكبات بني إسرائيل بجرائم كقولهم في الكفار: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا فهذا بهت، ومنها قولهم: الله فقير ونحن أغنياء إلى [ ص: 230 ] ما تخلل هاتين من الآيات المنبئة عن تعمدهم الجرائم، فعدل عن: " يا أيها الذين آمنوا " إلى: يا أيها الناس ليكون أوقع في الترتيب وأوضح مناسبة لما ذكر، ولما ضمنت سورة النساء قوله تعالى: فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات - إلى قوله: وأكلهم أموال الناس بالباطل أتبعت بقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ثم ذكر لهم ما أحل لهم وحرم عليهم ليحذروا مما وقع فيه أولئك، فعلى هذا لما ضمنت سورة الأعراف من قصصهم جملة، وبين فيها اعتداءهم، وبناه على اتباع الأهواء والهجوم على الأغراض، طلب هؤلاء باتقاء ذلك والبعد عما يشبهه جملة، فقيل في آخر السورة: إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا ثم افتتحت السورة الأخرى بصرفهم عما لهم به تعلق وإليه تشبث يقيم عذرهم شرعا فيما كان منهم، فكان قد قيل لهم: ترك هذا أعلم وأبعد عن اتباع الأهواء، فسلموا في ذلك الحكم لله ورسوله واتقوا الله، ثم تناسج السياق والتحمت الآي، وقد تبين وجه اتصال الأنفال بالأعراف من وجوه، والحمد لله. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما أخبر تعالى بما هو الحق من أن إرادتهم بل ودادتهم إنما كانت منصبة إلى العير لا إلى النفير، تبين أنه لا صنع لهم فيما وقع؛ إذ لو كان لكان على ما أرادوا، فلا حظ لهم في الغنيمة إلا ما يقسمه الله لهم؛ لأن الحكم لمراده لا لمراد غيره، فقال تعالى عاطفا على: وتودون ويريد الله أي: بما له من العز والعظمة والعلم أن يحق الحق [ ص: 231 ] أي: يثبت في عالم الشهادة الثابت عنده في عالم الغيب، وهو هنا إصابة ذات الشوكة بكلماته أي: التي أوحاها إلى نبيه صلى الله عليه وسلم أنهم يهزمون ويقتلون ويؤسرون، وأن هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان، ليعلي دينه ويظهر أمره على كل أمر.

                                                                                                                                                                                                                                      ويقطع دابر أي: آخر الكافرين أي: كما يقطع أولهم، أي: يستأصلهم بحيث لا يبقى منهم أحد يشاقق أهل حزبه فهو يدبر أمركم على ما يريد، فلذلك اختار لكم ذات الجد والشوكة ليكون ما وعدكم به من إعلاء الدين وقمع المفسدين بقطع دابرهم

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية