الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما طلب ما هو له في منصب النبوة من تعليم الله له المناسك بغير واسطة طلب لذريته مثل ذلك بواسطة من جرت العادة به لأمثالهم فقال : ربنا وابعث فيهم أي : الأمة المسلمة التي من ذريتي وذرية ابني إسماعيل رسولا منهم ليكون أرفق بهم وأشفق عليهم ويكونوا هم أجدر باتباعه والترامي في نصره ، وذلك الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنه لم يبعث من ذريتهما بالكتاب غيره ، فهو دعوة إبراهيم عليه السلام أبي العرب وأكرم ذريته ; ففي ذلك أعظم ذم لهم بعداوته مع كونه مرسلا لتطهيرهم بالكتاب الذي هو الهدى لا ريب فيه ، وإليه الإشارة بقوله : يتلو أي : يقرأ متابعا مواصلا عليهم آياتك أي : علاماتك الدالات عليك أعم من أن يكون نزل بها الكتاب أو استنبطت منه ويعلمهم الكتاب الكامل الشامل لكل كتاب "أوتيت جوامع الكلم" والحكمة وهي كل أمر يشرعه لهم فيحفظهم في صراطي معاشهم ومعادهم من الزيغ المؤدي إلى الضلال الموجب للهلاك .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان ظاهر دعوته عليه السلام أن البعث في الأمة المسلمة [ ص: 162 ] كانوا إلى تعليم ما ذكر أحوج منهم إلى التزكية فإن أصلها موجود بالإسلام فأخر قوله : ويزكيهم أي : يطهر قلوبهم بما أوتي من دقائق الحكمة ، فترتقي بصفائها ، ولطفها من ذروة الدين إلى محل يؤمن عليها فيه أن ترتد على أدبارها وتحرف كتابها كما فعل من تقدمها ، والتزكية إكساب الزكاة ، وهي نماء النفس بما هو لها بمنزلة الغذاء للجسم - قاله الحرالي .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما ذكر سبحانه في سورة الجمعة بعثه في الأميين عامة اقتضى المقام تقديم التزكية التي رأسها البراءة من الشرك الأكبر ليقبلوا ما جاءهم من العلم ، وأما تقديمها في آل عمران مع ذكر البعث للمؤمنين فلاقتضاء الحال بالمعاتبة على الإقبال على الغنائم الذي كان سبب الهزيمة لكونها إقبالا على الدنيا التي هي أم الأدناس ; ثم علل ذلك بقوله : إنك أنت العزيز أي : الذي يغلب كل شيء ولا يغالبه شيء ، لأن العزة كما قال الحرالي : الغلبة الآتية على كلية الظاهر والباطن ، الحكيم أي : الذي يتيقن ما أراد فلا يتأتى نقضه ، ولا متصف بشيء من ذلك غيرك ; وفي ذلك إظهار عظيم لشرف العلم وطهارة الأخلاق ، وأن ذلك لا ينال إلا بمجاهدات لا يطيقها البشر ولا تدرك أصلا إلا بجد تطهره العزة [ ص: 163 ] وترتيب أبرمته الحكمة ; هذا لمطلق ذلك فكيف بما يصلح منه للرسالة ؟ وفيه إشارة إلى أنه يكبت أعداء الرسل وإن زاد عدهم وعظم جدهم . ويحكم أمورهم فلا يستطيع أحد نقض شيء منها .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية