الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما نهى سبحانه وتعالى عن الربا وكان أحد مدايناتهم وكان غيره من الدين مأذونا فيه وهو من أنواع الإنفاق مع دخوله في المطالبة برؤوس الأموال عقب ذلك بآية الدين. وأيضا فإنه سبحانه [ ص: 148 ] وتعالى لما ذكر في المال أمرين ينقصانه ظاهرا ويزكيانه باطنا: الصدقة وترك الربا، وأذن في رؤوس الأموال وأمر بالإنظار في الإعسار وختم بالتهديد فكان ذلك ربما أطمع المدين في شيء من الدين ولو بدعوى الإعسار اقتضى حال الإنسان لما له من النقصان الإرشاد إلى حفظ المال الحلال وصونه عن الفساد والتنبيه على كيفية التوثق فقال: يا أيها الذين آمنوا كالذي تقدمه إذا تداينتم من التداين تفاعل بين اثنين من الدين، والدين في الأمر الظاهر معاملة على تأخير كما أن الدين بالكسر فيما بين العبد وبين الله سبحانه وتعالى معاملة على تأخير. قاله الحرالي. أي أوقعتم بينكم [ذلك]. والدين مال مرسل في الذمة سواء كان مؤجلا أو لا، وهو خلاف الحاضر [و] العين، [و] قال: بدين مع دلالة الفعل عليه ليخرج بيع الدين بالدين، لأنه مداينة بدينين. قال الحرالي: فكان [ ص: 149 ] في إعلامه أي بالإتيان بصيغة إذا أنهم لا بد أن يتداينوا لأنها حين منتظر في أغلب معناها. انتهى. وأرشد إلى ضبطه بالوقت إشارة إلى أنه يجوز كونه حالا وإلى أن الأجل [و] هو الوقت المحدود وأصله التأخير إن كان مجهولا كان باطلا بقوله: إلى أجل مسمى قال الحرالي: من التسمية وهي إبداء الشيء باسمه للسمع في معنى المصور - وهو إبداء الشيء بصورته في العين.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الله سبحانه وتعالى وهو العليم الخبير قد أجرى سنته في دينه بالكتابة فأمر ملائكته وهم الأمناء العدول بإثبات أعمال الخلق لحكم ومصالح لا تخفى وأنزل كتابه الشريف شهادة لهم وعليهم بما يوفونه في يوم الدين من ثواب وعقاب قطعا لحججهم أمرهم أن يكون عملهم في الدين كما كان فعله في الدين فأرشدهم إلى إثبات ما يكون بينهم من المعاملات لئلا يجر ذلك إلى المخاصمات [ ص: 150 ] فقال سبحانه وتعالى أمرا للإرشاد لا للإيجاب فاكتبوه وفي ذكر الأجل إشارة إلى البعث الذي وقع الوعد بالوفاء فيه أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ولما أمر بالكتابة وكان المراد تحصيلها في الجملة لا من أحد بعينه لأن أغلب الناس لا يحسنها أتبعها الإرشاد إلى تخير الكاتب بقوله: وليكتب بينكم أي الدين المذكور كاتب وإن كان صبيا أو عبدا كتابة مصحوبة بالعدل استنانا به سبحانه وتعالى في ملائكته

                                                                                                                                                                                                                                      وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين بأيدي سفرة كرام بررة

                                                                                                                                                                                                                                      ولما أرشد إلى تخير الكاتب تقدم إليه بالنهي تقديما لدرء المفاسد ثم الأمر فقال: ولا يأب كاتب أن يكتب أي ما ندب إليه من ذلك كما علمه الله أي لأجل الذي هو غني عنه وعن غيره [ ص: 151 ] من خلقه شكرا [له] على تلك النعمة وكتابة مثل الكتابة التي علمها الله سبحانه وتعالى لا ينقص عنها شيئا فليكتب وفي ذلك تنبيه على ما في بذل الجهد في النصيحة من المشقة.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان ذلك وكان لا بد فيه من ممل بين من يصح إملاؤه للمكتوب فقال: وليملل من الإملال وهو إلقاء ما تشتمل عليه الضمائر على اللسان قولا وعلى الكتاب رسما. قاله الحرالي الذي عليه الحق ليشهد عليه المستملي ومن يحضره.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانت الأنفس مجبولة على محبة الاستئثار على الغير حذرها مما لا يحل من ذلك فقال: وليتق الله فعبر بالاسم الأعظم ليكون أزجر للمأمور ثم قال: ربه تذكيرا بأنه لإحسانه لا يأمر إلا بخير، وترجية للعوض في ذلك إذا أدى فيه الأمانة في الكم والكيف من الأجل وغيره; وأكد ذلك بقوله: ولا يبخس من البخس وهو أسوأ النقص الذي لا تسمح به الأنفس لبعده عن [ ص: 152 ] محل السماح إلى وقوعه في حد الضيم منه شيئا

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان هذا المملي قد يكون لاغي العبارة وكان الإملاء لا يقدر عليه كل أحد قال سبحانه وتعالى: فإن كان الذي عليه الحق سفيها فلا يعتبر إقراره لضعف رأيه ونظره ونقص حظه من حكمة الدنيا أو ضعيفا عن الإملاء في ذلك الوقت لمرض أو غيره من صبا أو جنون أو هرم من الضعف وهو [وهن] القوى حسا أو معنى أو لا يستطيع أن يمل هو كعي أو حياء أو عجمة ونحوه فليملل وليه القائم لمصالحه من أب أو وصي أو حاكم أو ترجمان أو وكيل بالعدل فلا يحيف عليه ولا على ذي الحق. قال الحرالي: فجعل لسان الولي لسان المولى عليه، فكان فيه مثل لما نزل به الكتاب من إجراء كلام الله سبحانه وتعالى على ألسنة خلقه في نحو ما تقدم من قوله: إياك نعبد وإياك نستعين وما تفصل منها الله ولي الذين آمنوا أمل ما عليهم من الحقوق له فجعل كلاما من كلامه يتلونه، فكان الإملال منه لهم لتقاصرهم عن واجب حقه تقاصر السفيه ومن معه عن إملال وليه عنه لرشده وقوته وتمكن [ ص: 153 ] استطاعته. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما لم يكن بين الكتابة والشهادة ملازمة نص عليها وبين أهلها فقال: واستشهدوا أي اطلبوا الشهادة وأوجدوها مع الكتابة ودونها شهيدين قال الحرالي فجعل شهادة الدين باثنين كما جعل الشاهد في الدين اثنين: شاهد التفكر في الآيات المرئية وشاهد التدبر للآيات المسموعة، [و] في صيغة [فعيل] مبالغة في المعنى في تحقق الوصف بالاستبصار والخبرة. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما بين عدد الشاهد بين نوعه فقال: من رجالكم وأعلم بالإضافة اشتراط كونه مسلما وإطلاق هذا الذي ينصرف إلى الكامل مع ما يؤيده في الآية يفهم الحرية كقوله ولا يأب الشهداء والإتيان بصيغة المبالغة في الشاهد وتقييده مع ذلك بالرضى وتعريف الشهداء ونحوه. قال الحرالي: ولكثرة المداينة وعمومها وسع فيها الشهادة [ ص: 154 ] فقال: فإن لم يكونا [أي الشاهدان] رجلين أي على صفة الرجولية كلاهما فرجل وامرأتان وفي عموم معنى الكون إشعار بتطرق شهادة المرأتين مع إمكان طلب الرجل بوجه ما من حيث لم يكن، فإن لم تجدوا ففيه تهدف للخلاف بوجه ما من حيث إن شمول الكتاب توسعة في العلم سواء كان على تساو أو على ترتب; ولما كن ناقصات عقل ودين جعل ثنتان منهن مكان رجل. انتهى. ولما بين العدد بين الوصف فقال: ممن ترضون أي في العدالة من الشهداء هذا في الديون ونحوها. قال الحرالي: وفي مفهوم الشهادة استبصار نظر الشاهد لما في الشهود من إدراك معنى خفي في صورة ظاهر يهدي إليها النظر النافذ. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما شرط في القيام مقام الواحد من الرجال العدد من النساء علله بما يشير إلى نقص الضبط فيهن فقال: أن تضل إحداهما أي تغيب عنها الشهادة فتنساها أو شيئا منها فتذكر إحداهما الأخرى فتهتدي إلى ما ضلت عنه بواسطة الذاكرة. قال الحرالي: بما هي أعرف بمداخل الضلال عليها، لأن المتقاربين أقرب في التعاون، وفي قراءتي التخفيف والتثقيل إشعار بتصنيف النساء صنفين في رتبة هذه الشهادة: من يلحقها الضلال عن بعض ما شهدت فيه حتى تذكر بالتخفيف [ ص: 155 ] ولا يتكرر عليها ذلك ، ومن شأنها أن يتكرر عليها ذلك، وفي إبهامه بلفظ إحدى أي من غير اقتصار على الضمير الذي يعين ما يرجع إليه إشعار أن ذلك يقع بينهما متناوبا حتى ربما ضلت هذه عن وجه وضلت تلك عن وجه آخر فأذكرت كل واحدة منهما صاحبتها فلذلك يقوم بهما معا شاهد واحد حافظ. انتهى. وفي ذكر الإذكار منع من الشهادة بدون الذكر، والآية من الاحتباك. ولما أفهم ذلك الحث على الشهادة صرح به في قوله: ولا يأب الشهداء أي تحمل الشهادة وأداءها بعد التحمل إذا ما دعوا دعاء جازما بما أفهمته زيادة ما.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما تم ذلك وكان صغير الحق وكبيره ربما تركت تهاونا بالصغير ومللا للكبير حذر من ذلك ولم يجعله في صلب الأمر قبل الإشهاد بل أفرده بالذكر تعظيما لشأنه فقال: ولا تسأموا من السآمة. قال الحرالي: بناء مبالغة وهو أشد الملالة أن تكتبوه أي لا تفعلوا فعل السئيم فتتركوا كتابته صغيرا كان الدين أو كبيرا طالت الكتابة أو قصرت.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الحرالي: ولم يكن قليلا أو كثيرا، لأن الكثرة والقلة واقعة بالنسبة إلى الشيء المعدود في ذاته، والصغير والكبير يقع بالنسبة إلى المداين، فربما كان الكثير في العدد صغير القدر عند الرجل الجليل المقدار، وربما كان القليل العدد كثيرا بالنسبة إلى الرجل المشاحح فيه، فكان الصغر والكبر [ ص: 156 ] أشمل وأرجع إلى حال المداين الذي هو المخاطب بأن يكتب انتهى. إلى أجله أي الذي توافقتم وتواثقتم عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان كأنه قيل: ما فائدة ذلك؟ فقيل: ذلكم إشارة بأداة البعد وميم الجمع إلى عظم جدواه. قال الحرالي: ولبيانه ووضوحه عندهم لم يكن إقبالا على النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقبل عليه في الأمور الخفية. انتهى. أقسط أي أعدل فقد نقل عن ابن السيد أنه قال في كتابه الاقتضاب: إن قسط بمعنى جار وبمعنى عدل. وقال الحرالي: أقسط من الإقساط وهو وضع القسط وهو حفظ الموازنة حتى لا تخرج إلى تطفيف. ثم زاد تعظيمه بقوله: عند الله أي الذي هو محيط بصفات الكمال بالنسبة إلى كل صفة من صفاته، لأنه يحمل على العدل بمنع المغالطة والتلون في شيء من أحوال ذلك الدين وأقوم للشهادة أي وأعدل في قيام الشهادة إذا طلب من الشاهد أن يقيمها بما هو مضبوط له وعليه وأدنى أي أقرب في ألا ترتابوا أي تشكوا في شيء من الأمر الذي [ ص: 157 ] وقع. قال الحرالي: ففي إشعاره أنه ربما داخل الرجل والرجلين نحو ما داخل المرأتين فيكون الكتاب مقيما لشهادتهما، فنفى عن الرجال الريبة بالكتاب كما نفى عن النساء الضلال بالذكر. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الدين المؤجل أعم من أن يكون قرضا أو تجارة ينمى بها المال المأمور بالإنفاق منه في وجوه الخير النافعة يوم الدين وكان قد أكد في أمر الكتابة تأكيدا ربما ظن معه الحث عليها ولو لم يكن أجل نبه على أن العلة فيها الأجل الذي هو مظنة النسيان المستولي على الإنسان بقوله: إلا أن تكون أي المداينة تجارة حاضرة هذا على قراءة عاصم ، وكان في قراءة غيره تامة تديرونها بينكم أي يدا بيد، من الإدارة. قال الحرالي: من أصل الدور وهو رجوع الشيء عودا على بدئه فليس عليكم حينئذ جناح أي اعتراض في ألا تكتبوها أي لأنها مناجزة وهي عرض زائل لا يكاد يستقر في يد أحد لأن القصد به المتجر [لا الاستبقاء [ ص: 158 ] فبعد ما يخشى من التجاحد.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان البيع أعم من أن يقصد به المتجر] أو غير ذلك من وجوه الانتفاع قال: وأشهدوا سواء كانت كتابة أو لا إذا تبايعتم أي على وجه المتجر عاجلا أو آجلا أو لا للمتجر، لأن الإشهاد أبعد من الخلاف وأقرب إلى التصادق بما فيه من الإنصاف، والأمر للإرشاد فلا يجب.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما ألزم في صدر الخطاب الكاتب أن يكتب والشهيد أن يجيب ولا يأبى وأكد ذلك بصيغة تشمل المستكتب والمستشهد فقال ناهيا: ولا يضار يصح أن يكون للفاعل والمفعول وهو صحيح المعنى على كل منهما كاتب ولا شهيد أي لا يحصل ضرر منهم ولا عليهم. قال الحرالي: ففي إلاحته تعريض بالإحسان منه للشهيد والكاتب ليجيبه لمراده ويعينه على الائتمار لأمر ربه بما يدفع عنه من ضرر عطلته واستعماله في أمر من أمور دنياه، ففي تعريضه إجازة لما يأخذه الكاتب ومن يدعى لإقامة معونة في نحوه ممن يعرض [ ص: 159 ] له فيما يضره التخلي عنه. انتهى. وإن تفعلوا أي ما نهيتم عنه من الضرار وغيره فإنه فسوق أي خروج بكم عن الشرع الذي نهجه الله لكم. قال الحرالي: وفي صيغة فعول تأكيد فيه وتشديد في النذارة. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وختم آيات هذه المعاملات بصفة العلم بعد الأمر بالتقوى في غاية المناسبة لما يفعله المتعاملون من الحيل التي يجتلب كل منهم بها الحظ لنفسه، والترغيب في امتثال ما أمرهم به في هذه الجمل بأنه من علمه وتعليمه فقال تعالى - عاطفا على ما تقدم من أمر ونهي، أو على ما تقديره: فافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه-: واتقوا الله أي خافوا الذي له العظمة كلها فيما أمركم به ونهاكم من هذا وغيره. ولما كان التقدير [استئنافا لبيان فخامة هذه التنبيهات] يرشدكم الله إلى مثل هذه المراشد لإصلاح ذات بينكم، عطف عليه قوله: ويعلمكم الله أي يدريكم الذي له الكمال كله بذلك على العلم. وقال الحرالي: وفي قوله: " يعلم " بصيغة الدوام إيذان بما [ ص: 160 ] يستمر به التعليم من دون هذا المنال. [انتهى].

                                                                                                                                                                                                                                      وأظهر الاسم الشريف هنا وفي الذي بعده تعظيما للمقام وتعميما للتعليم فقال: والله أي الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء عليم وهذا الختم جامع لبشرى التعليم ونذارة التهديد.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية