الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما ذكر سبحانه وتعالى ما أوصى به ولده من شكر المنعم الأول الذي لم يشركه في إيجاده أحد، وذكر ما عليه الشرك من الفظاعة والشناعة والبشاعة، أتبعه سبحانه وصيته للولد بالوالد لكونه المنعم الثاني المتفرد سبحانه بكونه [جعله] سبب وجود الولد اعترافا بالحق [ ص: 163 ] وإن صغر لأهله وإيذانا بأنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس، وتفخيما لحق الوالدين، لكونه قرن عقوقهما بالشرك، وإعلاما بأن الوفاء شيء واحد متى نقص شيء منه تداعى سائره كما في الفردوس عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن العبد لقي الله بكمال ما افترض عليه ما خلا بر الوالدين ما دخل الجنة، وإن بر الوالدين لنظام التوحيد والصلاة والذكر" ولذلك لفت الكلام إلى مظهر العظمة ترهيبا من العقوق ورفعا لما لعله يتوهم من أن الانفصال عن الشرك لا يكون إلا بالإعراض عن جميع الخلق.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما قد يخيله الشيطان من أن التقيد بطاعة الوالد شرك، مضمنا تلك الوصية إجادة لقمان عليه السلام في تحسين الشكر وتقبيح الشرك لموافقته لأمر رب العالمين، وإيجاب امتثال ابنه لأمره، فقال مبينا حقه وحق كل والد غيره، ومعرفا قباحة من أمر ابنه بالشرك لكونه منافيا للحكمة التي أبانها لقمان عليه السلام، وتحريم امتثال الابن لذلك ووجوب مخالفته لأبيه فيه تقديما لأعظم الحقين، وارتكابا لأخف الضررين: ووصينا أي قال لقمان ذلك لولده نصحا له والحال [ ص: 164 ] أنا بعظمتنا وصينا ولده به بنحو ما أوصاه به في حقنا - هكذا كان الأصل - ولكنه عبر بما يشمل غيره فقال: الإنسان أي هذا النوع على لسان أول نبي أرسلنا وهلم جرا وبما ركزناه في كل فطرة من أنه ما جزاء الإحسان إلا الإحسان بوالديه فكأنه قال: إن لقمان عرف نعمتنا عليه وعلى أبناء نوعه لوصيتنا لأولادهم بهم فشكرنا ولقن عنا نهيهم بذلك عن الشرك لأنه كفران لنعمة المنعم، فانتهى في نفسه ونهى ولده، فكان بذلك حكيما.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانت الأم في مقام الاحتقار لما للأب من العظمة بالقوة والعقل والكد عليها وعلى ولدها، نوه بها ونبه على ما يختص به من أسباب وجود الولد وبقائه عن الأب مما حصل لها من المشقة بسببه وما لها إليه من التربية. فقال معللا أو مستأنفا: حملته أمه وهنا أي حال كونها ذات وهن تحمله في أحشائها، وبالغ بجعلها نفس الفعل دلالة على شدة ذلك الضعف بتضاعفه كلما أثقلت على وهن أي هو قائم بها من نفس خلقها وتركيبها إلى ما يزيدها التمادي بالحمل، ثم أشار إلى ما لها عليه من المنة بالشفقة وحسن الكفالة وهو لا يملك [ ص: 165 ] لنفسه شيئا بقوله: وفصاله أي فطامه من الرضاعة بعد وضعه.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الوالدان يعدان وجدان الولد من أعظم أسباب الخير والسرور، عبر في أمره بالعام الذي تدور مادته على السعة لذلك وترجية لهما بالعول عليه وتعظيما لحقهما بالتعبير بما يشير إلى صعوبة ما قاسيا فيه باتساع زمنه فقال: في عامين تقاسي فيهما في منامه وقيامه ما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى، وفي التعبير بالعام أيضا إشارة إلى تعظيم منتهاه بكونها تعد أيام رضاعه - مع كونها أضعف ما يكون في تربيته - أيام سعة وسرور، والتعبير بـ "في" مشيرا إلى أن الوالدين لهما أن يفطماه قبل تمامهما على حسب ما يحتمله حاله، وتدعو إليه المصلحة من أمره.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما ذكر الوصية وأشار إلى أمهات أسبابها، ذكر الموصى به فقال مفسرا لـ "وصينا" : أن اشكر ولما كان الشكر منظورا إليه أتم نظر، قصر فعله، أي أوجد هذه الحقيقة ولتكن من همك. ولما كان لا بد له من متعلق، كان كأنه قال: لمن؟ فقال مقدما ما هو أساس الموصى به في الوالدين ليكون معتدا به، لافتا القول إلى ضمير الواحد من غير تعظيم [ ص: 166 ] تنصيصا على المراد: لي أي لأني المنعم بالحقيقة ولوالديك لكوني جعلتهما سببا لوجودك والإحسان بتربيتك، وذكر الإنسان بهذا الذكر في سورة الحكمة إشارة إلى أنه أتم الموجودات حكمة قال الرازي في آخر سورة الأحزاب من لوامعه: الموجودات كلها كالشجرة، والإنسان ثمرتها، وهي كالقشور والإنسان لبابها، وكالمبادئ والإنسان كمالها، ومن أين للعالم ما للإنسان؟ بل العالم العلوي فيه، ليس في العالم العلوي ما فيه، فقد جمع ما بين العالمين بنفسه وجسده، واستجمع الكونين بعقله وحسه، وارتفع عن الدرجتين باتصال الأمر الأعلى به وحيا قوليا، وسلم لمن له الخلق والأمر تسليما اختياريا طوعيا. ثم علل الأمر بالشكر محذرا فقال: إلي لا إلى غيري المصير أي فأسألك عن ذلك كما كانت منهما البداءة ظاهرا بما جعلت لهما من التسبب في ذلك، فيسألانك عن القيام بحقوقهما وإن قصرت فيها شكواك إلى الناس وأقاما عليك الحجة وأخذا بحقهما.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية