الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما بشر المؤمنين الذين اتبعوا الهدى أتبعه إنذار الكافرين الذين نابذوه بقوله : والذين كفروا قال الحرالي : هذا من أسوأ الكفر ، [ ص: 301 ] لأنه كفر بالآيات التي جعلها الله عز وجل علما على غيب عهده وهي ما تدركه جميع الحواس من السماء والأرض وما بينهما كما قال تعالى : ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة لأن الحق تعالى أظهر الكون كتابة دالة على أمره وجعل في العقل نورا يقرأ به كتابه ، فمن لا نور له فهو من أصحاب النار ، فهو إما تابع هدى بنور العقل وتنبيه الإيمان ، وإما صاحب نار ، فقال : وكذبوا بآياتنا لأنه لما كان من الذين كفروا بكتاب الخلق من تقبل الإيمان بتنزيل الأمر اختصت كلمة العذاب بالذين تأكد كفرهم بالآيات المرئية بتكذيبهم بالآيات المنزلة ، فكفروا بما رأوا فكانوا عميا ، وكذبوا بما سمعوا فكانوا صما . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى أنهم جمعوا بالكفر والتكذيب بين إنكار القلوب [ ص: 302 ] والألسنة أولئك أي البعداء البغضاء أصحاب النار وبين اختصاصهم بالخلود بقوله : هم فيها خالدون فعليهم الخوف الدائم لما يأتي من أنكالها والحزن الدائم على فوات الجنة ، فالآية من الاحتباك ، انتفاء الخوف والحزن من الأول دال على وجودهما في الثاني ، ووجود النار في الثاني دال على انتفائها ووجود الجنة في الأول ، وقد علم من ذلك مع قوله مستقر ومتاع إلى حين أنه لا بد من رجوعهم إلى تلك الدار وكيف تكون منازلهم فيها ! فكأنه جواب سائل قال : هل بعد هذا الهبوط من صعود ؟ قال الحرالي : وقوله : هم فيه إشعار بإشراب العذاب بواطنهم وبلاغه إلى أنفسهم بعذاب الغم والحزن واليأس وغير [ ص: 303 ] ذلك من إحراق النار بواطنهم ، وفيه إشعار بكونهم فيها في الوقت الحاضر من حيث لا يشعرون - الذي يشرب في آنية الذهب إنما يجرجر في بطنه نار جهنم - والنار أقرب إلى أحدهم من شراك نعله . فهم فيها خالدون وإن لم يحسوا في الدنيا بحقيقتها ، كما أن المهتدين في جنة في الدنيا وإن لم يشهدوا عيانها ، فكل خالد فيما هو فيه في الدنيا غيبا وفي الآخرة عيانا وفي القبر عرضا لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين النار يعرضون عليها غدوا وعشيا وهنا انتهى خطاب الفرقان المخصوص بدعوة العرب الذين هم رأس أهل الدعوة المحمدية صلى الله عليه وسلم : " الناس كلهم تبع لقريش ، مؤمنهم لمؤمنهم ، وكافرهم [ ص: 304 ] لكافرهم " ، انتهى . يعني فهم المرادون بهذا بالقصد الأول ، وهو شامل لغيرهم ، ومراد به ذلك الغير بالقصد الثاني ، وهنا آخر الآيات الخاصة بالنعم العامة لجميع بني آدم دالة على التوحيد من حيث إنها حادثة فلها محدث ، وعلى النبوة من حيث إنه صلى الله عليه وسلم أخبر عنها موافقا لما في التوراة والإنجيل من غير تعلم ، وعلى المعاد من حيث إن من قدر على خلقها ابتداء قدر على إعادتها - ذكره الأصفهاني عن الإمام - وفي الآية إشارة إلى الكتاب الذي هو هدى للمتقين المشتمل على الأحرف السبعة التي من أقبل على حرف منها حق الإقبال كفاه ، ومن اشتغل عنها بالمتاع الأدنى خسر دنياه وأخراه .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في التمهيد لشرط مثال القراءة لحروفه السبعة وعلمها والعمل بها : اعلم أن الله سبحانه خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه ورزقه نورا من نوره ، فلأنه خلقه بيده كان في أحسن تقويم خلقا ، ولأنه نفخ فيه من روحه كان أكمل حياة قبضا وبسطا ، ولأنه رزقه نورا من نوره كان أصفى عقلا وأخلص لبا وأفصح نطقا وأعرب بيانا جمعا وفصلا ، وأطلعه على ما كتب من حروف مخلوقاته إدراكا وحسا ، وعقله ما أقام من أمره فهما وعلما ، [ ص: 305 ] ونبهه على ما أودعه في ذاته عرفانا ووجدا ؛ ثم جعل له فيما سخر له من خلقه متاعا وأنسا فأناسه وردده من بين إقبال وإدبار وقبول وإعراض ، فمن شغل بالاستمتاع الأدنى عن الاطلاع الأعلى كان سفيها ، ومن شغله الاطلاع الأعلى عن الاستمتاع الأدنى كان حنيفا الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولما كان متاع الخلق في الأرض إلى حين وشغل أكثرهم أكلهم وتمتعهم وألهاهم أملهم عن حظهم من الحنيفية بما أوتي العقل من التبليغ عن الله نظرا واعتبارا اصطفى الله سبحانه من الحنفاء منبهين على النظر الذي اشتغل عنه المعرضون وأنف منه واستكبر عنه المدبرون ، وأكدوا تنبيههم بما أسمعوهم من نبأ ما وراء يوم الدنيا من أمر الله في اليوم الآخر وما تتمادى إليه أيام الله ، وذكروهم بما مضى من أيام الله ، وأنزل الله سبحانه معهم كتبا يتلونها عليهم ويبينونها لهم علما وعملا وحالا ، فقبل ما جاؤوا به وصدقه واستبشر به الحنيفيون وأنذر به المدبرون والمعرضون ، فمنهم من آمن ومنهم من كفر ، آمن من تنبه للنظر والاعتبار وألقى السمع وهو شهيد ، [ ص: 306 ] وكفر من آثر متاعه بالعاجلة التي تراها الأعين على وعد الله ووعيده في الآجلة التي إنما يعيها القلب وتسمعها الأذن ، وكما شغل المدعوين إلى الإسلام كفرهم ودنياهم كذلك شغل المولدين في الإسلام غفلتهم ودنياهم ولعبهم في صباهم ولهوهم في شبابهم وتكاثرهم في الأموال في اكتهالهم وتكاثرهم في الأولاد في شياخهم ، فاشترك المدعو إلى الإسلام والمولد فيه الغافل في عدم الإقبال والقبول في ترك الاهتمام في الآجلة واختصارهما على الاهتمام بالعاجلة ، وكلاهما جعل القرآن وراء ظهره ، المدعو لفظا وعلما والمولد الغافل علما وعملا ، فلم يسمعه المدعو ولم يفهمه الغافل فجعله بالحقيقة وراء ظهره ، ومن جعل القرآن خلفه ساقه إلى النار ، وإنما جعله أمامه من قرأه علما وحالا وعملا ، ومن جعل القرآن أمامه قاده إلى الجنة ؛ ولما قامت الحجة عليهم بقراءته إذ لم يجاوز حناجرهم كانوا أشد من الكفار عذابا في النار ، أكثر منافقي أمتي قراؤها ، إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار فإذا لا بد في قراءة القرآن من تجديد إقبال وتهيؤ لقبول وتحقيق تقوى لأنه إنما هو هدى للمتقين ، وإجماع على الاهتمام ، وكما أن أمور الدنيا لا تحصل لأهلها [ ص: 307 ] إلا على قدر عزائمهم واهتمامهم فأحرى أن لا يحصل أمر الأخرى إلا بأشد عزيمة وأجمع اهتمام ، فلا يقرأ القرآن من لم يقبل عليه بكلية ظاهره ويجمع اهتمامه له بكلية باطنه

                                                                                                                                                                                                                                      وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة يا يحيى خذ الكتاب بقوة فاستقم كما أمرت ومن تاب معك فشرط منال قراءته اهتمام القلب بتفهمه وإقبال الحس على استماعه وتدبره ؛ ولكل حرف شرط يخصه . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما أقام سبحانه دلائل التوحيد والنبوة والمعاد أولا وعقبها بذكر الإنعامات العامة داعيا للناس عامة لا سيما بني إسماعيل العرب الذين هم قوم الداعي صلى الله عليه وسلم وكان أحق من دعي بعد الأقارب وأولاه بالتقدم أهل العلم الذين كانوا على حق فزاغوا عنه ولا سيما إن كانت لهم قرابة لأنهم جديرون بالمبادرة إلى الإجابة بأدنى بيان وأيسر تذكير ، فإن رجعوا اقتدى بهم الجاهل فسهل أمره وانحسم شره ، وإن لم يرجعوا طال جدالهم فبان للجاهل ضلالهم فكان جديرا بالرجوع والكف عن غيه والنزوع ، وعرفت من تمادي الكلام معهم الأحكام وبان الحلال والحرام ؛ فلذلك لما فرغ من دعوة العرب الجامعة لغيرهم باختصار وختم بأن وعد في [ ص: 308 ] اتباع الهدى وتوعد ، شرع سبحانه يخص العلماء من المنافقين بالذكر وهم من كان أظهر الإسلام من أهل الكتاب على وجه استلزم عموم المصارحين منهم بالكفر ، إذ كانوا من أعظم من خص بإتيان ما أشار إليه من الهدى والبيان بما فيه الشفاء ، وكان كتابهم المشتمل على الهدى من أعظم الكتب وأشهرها وأجمعها فقص عليهم ما مثله يلين الحديد ويخشع الجلاميد فقال تعالى مذكرا لهم بنعمه الخاصة بهم : يا بني إسرائيل ويجوز أن تقرر المناسبات من أول السورة على وجه آخر فيقال : لما [ ص: 309 ] كان الكفار قسمين : قسم محض كفره ، وقسم شابه بنفاق وخداع ، وكان الماحض قسمين : قسم لا علم له من جهة كتاب سبق وهم مشركو العرب ، وقسم له كتاب يعلم الحق منه ، ذكر تعالى قسم الماحض بما يعم قسميه العالم والجاهل فقال : إن الذين كفروا سواء عليهم إلى آخره . ثم أتبعه قسم المنافق ، لأنه أهم بسبب شدة الاختلاط بالمؤمنين وإظهارهم أنهم منهم ليكونوا من خداعهم على حذر ، فقال : ومن الناس من يقول آمنا إلى آخره ؛ ولما فرغ من ذلك ومما استتبعه من الأمر بالوحدانية وإقامة دلائلها وإفاضة فضائلها ، ومن التعجيب ممن كفر مع قيام الدلائل ، والتخويف من تلك الغوائل ، والاستعطاف بذكر النعم ؛ شرع في ذكر قسم من الماحض هو كالمنافق في أنه يعرف الحق ويخفيه [ ص: 310 ] فالمنافق ألف الكفر ثم أقلع عنه وأظهر التلبس بالإسلام واستمر على الكفر باطنا ، وهذا القسم كان على الإيمان بهذا النبي قبل دعوته ، فلما دعاهم محوا الإيمان الذي كانوا متلبسين به وأظهروا الكفر واستمرت حالتهم على إظهار الكفر وإخفاء المعرفة التي هي مبدأ الإيمان ، فحالهم كما ترى أشبه شيء بحال المنافقين ، ولهذا تراهم مقرونين بهم في كثير من القرآن ، وأخرهم لطول قصتهم وما فيها من دلائل النبوة وأعلام الرسالة بما أبدى مما أخفوه من دقائق علومهم ، فإن مجادلة العالم ترسل في ميادين العلم أفراس الأفكار فتسرع في أقطار الأوطار حتى تصير كالأطيار وتأتي ببدائع الأسرار ، ولقد نشر سبحانه في غضون مجادلتهم وغضون محاورتهم ومقاولتهم من الجمل الجامعة في شرائع الدين التي فيها بغية المهتدين ما أقام البرهان على أنه هدى للعالمين ؛ هذا إجمال الأمر ، وفي تفاصيله كما سترى من بدائع الوصف أمور تجل عن الوصف ، تذاق بحسن التعليم ويشفى عي جاهلها بلطيف التكليم - والله ولي التوفيق والهادي إلى أقوم طريق .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 311 ] وقال الحرالي : ثم أقبل الخطاب على بني إسرائيل منتظما بابتداء خطاب العرب من قوله : يا أيها الناس وكذلك انتظام القرآن إنما ينتظم رأس الخطاب فيه برأس خطاب آخر يناسبه في جملة معناه وينتظم تفصيله بتفصيله ، فكان أول وأولى من خوطب بعد العرب الذين هم ختام بنو إسرائيل الذين هم ابتداء بما هم أول من أنزل عليهم الكتاب الأول من التوراة التي افتتح الله بها كتبه تلو صحفه وألواحه . ثم قال : لما انتظم إقبال الخطاب على العرب التي لم يتقدم لها هدى بما تقدمه من الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم انتظم بخطاب العرب خطاب بني إسرائيل بما تقدم لها من هدى في وقتها إنا أنـزلنا التوراة فيها هدى ونور [ ص: 312 ] وبما عهد إليها من تضاعف الهدى بما تقدم لها في ارتقائه من كمال الهدى بمحمد صلى الله عليه وسلم وبهذا القرآن ، فكان لذلك الأولى مبادرتهم إليه حتى يهتدي بهم العرب ليكونوا أول مؤمن بما عندهم من علمه السابق ، انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية