الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولقد أخذ الله ؛ أي: بما له من جميع الجلال؛ والعظمة؛ والكمال؛ ميثاق بني إسرائيل ؛ أي: العهد الموثق بما أخذ عليكم؛ من السمع؛ والطاعة؛ وبعثنا ؛ أي: بما لنا من العظمة؛ منهم اثني عشر نقيبا ؛ أي: شاهدا؛ على كل سبط نقيب يكفلهم بالوفاء بما عليهم من الوفاء به - كما بعثنا منكم ليلة العقبة اثني عشر نقيبا؛ وأخذنا منكم الميثاق على [ ص: 48 ] ما أحاله الإسلام - كما قال كعب بن مالك - رضي اللـه عنه - في تخلفه عن تبوك: "ولقد شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة العقبة؛ حين تواثقنا على الإسلام"؛ وأما تفصيله فمذكور في السير؛ و"النقيب": الذي ينقب عن أحوال القوم؛ كما قيل: "عريف"؛ لأنه يتعرفها؛ ومن ذلك "المناقب"؛ وهي الفضائل؛ لأنها لا تظهر إلا بالتنقيب عنها؛ وقال الله ؛ أي: المحيط بكل شيء قدرة؛ وعلما؛ لبني إسرائيل؛ وأكد لتكرر جزعهم؛ وتقلبهم؛ فقال: إني معكم ؛ وهو كناية عن الكفاية؛ لأن القادر إذا كان مع أحد؛ كان كذلك إذا لم يغضبه.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما أنهى الترغيب بالمعية؛ استأنف بيان شرط ذلك؛ بقوله - مؤكدا لمثل ما مضى -: لئن أقمتم ؛ أي: أنشأتم؛ الصلاة ؛ أي: التي هي صلة ما بين العبد؛ والخالق؛ بجميع شروطها؛ وأركانها; ولما كان المقصود من الإنفاق المؤاساة بالإيتاء؛ قال: وآتيتم الزكاة ؛ أي: التي هي بين الحق؛ والخلائق.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الخطاب مع من آمن بموسى - عليه الصلاة والسلام -؛ وكانوا في كل قليل يتردعون عن اتباعه؛ أو كمال اتباعه؛ وكان - سبحانه - عالما بأن ميلهم بعده يكون أكثر؛ فرتب في الأزل أنه تواتر إليهم بعده الرسل؛ يحفظونهم عن الزيغ؛ ويقومون منهم الميل؛ قال: وآمنتم برسلي ؛ أي: [ ص: 49 ] أدمتم الإيمان بموسى - عليه السلام -؛ وجددتم الإيمان بمن يأتي بعده؛ فصدقتموهم في جميع ما يأمرونكم به؛ وعزرتموهم ؛ أي: ذببتم عنهم؛ ونصرتموهم؛ ومنعتموهم أشد المنع؛ و"التعزير"؛ و"التأزير"؛ من باب واحد.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان من أعظم المصدق للإيمان؛ ونصر الرسل بذل المال؛ فهو البرهان؛ قال: وأقرضتم الله ؛ أي: الجامع لكل وصف جميل؛ قرضا حسنا ؛ أي: بالإنفاق في جميع سبل الخير؛ وأعظمها الجهاد؛ والإعانة فيه للضعفاء؛ ولما كان الإنسان محل النقصان؛ فهو لا ينفك عن زلل؛ أو تقصير؛ وإن اجتهد في صالح العمل؛ قال - سادا بجواب القسم؛ الذي وطأت له اللام الداخلة على الشرط؛ مسد جواب الشرط: لأكفرن ؛ أي: لأسترن؛ عنكم سيئاتكم ؛ أي: فعلكم؛ لما من شأنه أن يسوء؛ ولأدخلنكم ؛ أي: فضلا مني؛ جنات تجري ؛ ولما كان الماء لا يحسن إلا بقربه؛ وانكشافه عن بعض الأرض؛ قال: من تحتها الأنهار ؛ أي: من شدة الري؛ فمن كفر ؛ ولما كان الله - سبحانه - لا يعذب حتى يبعث رسولا؛ وكان المهلك من المعاصي بعد الإرسال ما اتصل بالموت؛ فأحبط ما قبله؛ نزع الجار؛ فقال: بعد ذلك ؛ أي: الشرط المؤكد بالأمر العظيم الشأن؛ منكم ؛ أي: بعد ما رأى من الآيات؛ وأقر به من المواثيق؛ فقد ضل ؛ أي: ترك؛ وضيع؛ يستعمل قاصرا؛ بمعنى: "حار"؛ ومتعديا؛ كما هنا؛ سواء ؛ أي: وسط؛ وعدل؛ السبيل [ ص: 50 ] ؛ أي: لأن ذلك كفر بعد البيان العظيم؛ فهو أعظم من غيره؛ وفي هذا تحذير شديد لهذه الأمة؛ لأن المعنى: فإن نقضتم الميثاق - كما نقضوا - بمثل استدراج شأس بن قيس وغيره؛ صنعنا بكم ما صنعنا بهم حين نقضوا؛ من إلزامهم الذلة؛ والمسكنة؛ وغير ذلك من آثار الغضب؛ وإن وفيتم بالعقود؛ آتيناكم أعظم مما آتيناهم؛ من فتح البلاد؛ والظهور على سائر العباد; قال ابن الزبير : ولهذا الغرض - والله أعلم - أي: غرض التحذير من نقض العهد - ذكر هنا العهد المشار إليه في قوله (تعالى): وأوفوا بعهدي ؛ فقال (تعالى): ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل ؛ إلى قوله: فقد ضل سواء السبيل ؛ ثم بين نقضهم؛ وبنى اللعنة؛ وكل محنة ابتلوا بها؛ عليه؛ فقال: فبما نقضهم ميثاقهم ؛ وذكر (تعالى) عهد الآخرين؛ فقال: ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم ؛ ثم فصل (تعالى) للمؤمنين أفعال الفريقين؛ ليتبين لهم ما نقضوا فيه من ادعائهم في المسيح ما ادعوا؛ وقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه؛ وكفهم عن فتح الأرض المقدسة؛ وإسرافهم في القتل؛ وغيره؛ وتغييرهم أحكام التوراة؛ إلى غير ذلك مما ذكره في هذه السورة؛ ثم بين تفاوتهم في البعد عن الاستجابة؛ فقال (تعالى): لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا ؛ انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وينبغي ذكر النقباء من هذه الفرق الثلاث بأسمائهم؛ وما دعا إلى ذلك؛ تحقيقا [ ص: 51 ] للأمر؛ وزيادة تبصرة؛ أما اليهود فكان فيهم ذلك مرتين: الأولى: قال في السفر الرابع من التوراة: (إن الرب تبارك اسمه كلم موسى النبي في جبل سينا؛ وفي قبة الأمد؛ في أول يوم من الشهر الثاني؛ في السنة الثانية لخروج بني إسرائيل من مصر؛ وقال الله: أحص عدد جماعة بني إسرائيل كلها في قبائلهم؛ كل ذكر من أبناء عشرين سنة؛ إلى فوق؛ كل من يخرج في الحرب؛ وأحصهم أنت وأخوك هارون؛ وليكن معكما من كل سبط رجل؛ ويكون الرجل رئيسا في بيته)؛ ثم بين بعد ذلك أن كل رجل منهم يكون قائد جماعته؛ ينزلون بنزوله حول قبة الزمان؛ ويرحلون برحيله؛ ويطيعونه فيما يأمر به؛ ففعل موسى وهارون ما أمرهما الله به؛ وانتدبوا اثني عشر رجلا؛ كما أمر الله؛ فمن سبط روبيل: إليصور بن شداور؛ ومن سبط شمعون: سلوميل بن صوريشدي؛ ومن سبط يهودا: نحسون بن عميناذاب؛ ومن سبط إيشاخار: نتنائيل بن ضوغر؛ ومن سبط زابلون: أليب بن حيلون؛ ومن سبط يوسف؛ من آل إفرائيم: إليسمع بن عميهوذ؛ ومن سبط منشا: جمليال بن فداهصور - قلت: ومنشا هو [ ص: 52 ] ابن يوسف؛ وهو أخو إفرائيم - ومن سبط بنيامين: أبيذان بن جدعوني؛ ومن سبط دان: أخيعزر بن عميشدي؛ ومن سبط آشير: فجعائيل بن عخرن؛ ومن سبط جاد: إليساف بن دعوائيل؛ ومن سبط نفتالي: أخيراع بن عينان; وسبط لاوي هم سبط موسى وهارون - عليهما السلام - لم يذكروا لأنهم كانوا لحفظ قبة الزمان؛ فموسى وهارون عليهم؛ كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - على قومه - كما سيأتي؛ والمرة الثانية كانت ليجسوا أمر بيت المقدس؛ قال في أثناء هذا السفر: (وكلم الرب موسى وقال له: أرسل قوما يجسون الأرض التي أعطي بني إسرائيل؛ ويكون الذين ترسل رجلا من كل سبط من رؤساء آبائهم؛ فأرسلهم موسى من برية فاران؛ عن قول الرب؛ رجالا من رؤساء بني إسرائيل؛ وهذه أسماؤهم؛ من سبط روبيل: ساموع بن زكور؛ ومن سبط شمعون: سافاط بن حوري؛ ومن سبط يهودا: كالاب بن يوفنا؛ ومن سبط إيشاخار: إجال بن يوسف؛ ومن سبط إفرائيم: هوساع بن نون؛ [ ص: 53 ] ومن سبط بنيامين: فلطي بن رافو؛ ومن سبط زابلون: جدي إيل بن سودي؛ ومن سبط يوسف من سبط منشا: جدي بن سوسي؛ ومن سبط دان: عميال بن جملي؛ ومن سبط آشير: ساتور بن ميخائيل؛ ومن سبط نفتالي: نجني بن وفسي؛ ومن سبط جاد: جوائل بن ماخي); هؤلاء الذين أرسلهم؛ وتقدم إليهم بالوصية.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما النصارى ففي إنجيل متى ما نصه: (ودعا - يعني عيسى - عليه السلام - تلاميذه الاثني عشر؛ وأعطاهم سلطانا على جميع الأرواح النجسة؛ لكي يخرجوها ويشفوا كل الأمراض); وفي إنجيل مرقس: (وصعد إلى الجبل؛ ودعا الذين أحبهم؛ فأتوا إليه؛ وانتخب اثني عشر ليكونوا معه؛ ولكي يرسلهم ليكرزوا؛ وأعطاهم سلطانا على شفاء الأمراض؛ وإخراج الشياطين); وفي إنجيل لوقا: (ودعا الاثني عشر الرسل؛ وأعطاهم قوة؛ وسلطانا على جميع الشياطين؛ وإشفاء المرضى؛ وأرسلهم يكرزون بملكوت الله؛ ويشفون الأوجاع؛ وهذه أسماؤهم: شمعون؛ المسمى بطرس؛ وأندراوس أخوه؛ ويعقوب بن زبدي؛ ويوحنا أخوه - وقال في إنجيل مرقس: وسماهما [ ص: 54 ] باسم بوانرجس؛ اللذين هما ابنا الرعد - وفيلبس؛ وبرتولوماوس؛ وتوما؛ ومتى العشار؛ ويعقوب بن حلفا؛ ولبا؛ الذي يدعى تداوس؛ وقد اختلفت الأناجيل في هذا؛ ففي إنجيل مرقس بدله: تدي؛ وفي إنجيل لوقا: يهودا بن يعقوب؛ ثم اتفقوا: وشمعون القاناني - وفي إنجيل لوقا: المدعو الغيور - ويهودا الإسخريوطي؛ الذي أسلمه)؛ وأما نقباء الإسلام فكانوا ليلة العقبة الأخيرة؛ حين بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - الأنصار - رضي اللـه عنهم - على الحرب؛ وأن يمنعوه إذا وصل إلى بلدهم؛ وقال لهم - صلى الله عليه وسلم -: "أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا؛ يكونون على قومهم؛ كما اختار موسى من قومه"؛ وأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا: تسعة من الخزرج؛ وثلاثة من الأوس؛ فقال لهم: "أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء؛ ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم؛ وأنا كفيل على قومي"؛ قالوا: نعم؛ وهذه أسماؤهم: من الخزرج: أبو أمامة؛ أسعد بن زرارة؛ وسعد بن الربيع؛ وسعد بن عبادة؛ وعبد الله بن رواحة؛ ورافع بن مالك بن العجلان؛ والبراء بن معرور؛ وعبد الله بن عمرو بن حرام؛ أبو جابر؛ وعبادة بن الصامت؛ والمنذر بن عمرو; ومن الأوس: أسيد بن حضير؛ وسعد بن خيثمة؛ ورفاعة بن عبد المنذر؛ وأبو الهيثم بن التيهان؛ قال [ ص: 55 ] ابن هشام: وقال كعب بن مالك؛ يذكرهم فيما أنشدني أبو زيد الأنصاري؛ وذكر أبا الهيثم بن التيهان؛ ولم يذكر رفاعة؛ فقال:


                                                                                                                                                                                                                                      أبلغ أبيا أنه قال رأيه ... وحان غداة الشعب والحين واقع

                                                                                                                                                                                                                                          أبى الله ما منتك نفسك إنه
                                                                                                                                                                                                                                      ... بمرصاد أمر الناس راء وسامع

                                                                                                                                                                                                                                          وأبلغ أبا سفيان أن قد بدا لنا
                                                                                                                                                                                                                                      ... بأحمد نور من هدى الله ساطع

                                                                                                                                                                                                                                          فلا ترغبن في حشد أمر تريده
                                                                                                                                                                                                                                      ... وألب وجمع كل ما أنت جامع

                                                                                                                                                                                                                                          ودونك فاعلم أن نقض عهودنا
                                                                                                                                                                                                                                      ... أباه عليك الرهط حين تبايعوا

                                                                                                                                                                                                                                          أباه البراء وابن عمرو كلاهما
                                                                                                                                                                                                                                      ... وأسعد يأباه عليك ورافع

                                                                                                                                                                                                                                          وسعد أباه الساعدي ومنذر
                                                                                                                                                                                                                                      ... لأنفك إن حاولت ذلك جادع

                                                                                                                                                                                                                                          وما ابن ربيع إن تناولت عهده
                                                                                                                                                                                                                                      ... بمسلمه لا يطمعن ثم طامع

                                                                                                                                                                                                                                          وأيضا فلا يعطيكه ابن رواحة
                                                                                                                                                                                                                                      ... وإخفاره من دونه السم ناقع

                                                                                                                                                                                                                                          وفاء به والقوقلي بن صامت
                                                                                                                                                                                                                                      ... بمندوحة عما تحاول يافع

                                                                                                                                                                                                                                          أبو هيثم أيضا وفي بمثلها
                                                                                                                                                                                                                                      ... وفاء بما أعطى من العهد خانع

                                                                                                                                                                                                                                          وما ابن حضير إن أردت بمطمع
                                                                                                                                                                                                                                      ... فهل أنت عن أحموقة الغي نازع

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 56 ]     وسعد أخو عمرو بن عوف فإنه .
                                                                                                                                                                                                                                      .. ضروح لما حاولت ملأمر مانع

                                                                                                                                                                                                                                          أولاك نجوم لا يغبك منهم
                                                                                                                                                                                                                                      ... عليك بنحس في دجى الليل طالع



                                                                                                                                                                                                                                      فأما نقباء اليهود في جس الأرض فلم يوف منهم إلا اثنان - كما سيأتي قريبا عن بعض التوراة التي بين أيديهم؛ وأما نقباء النصارى فنقض منهم واحد - كما مضى عند قوله (تعالى): وما قتلوه وما صلبوه ؛ وسيأتي إن شاء الله (تعالى) في "الأنعام"؛ عند قوله (تعالى): لأنذركم به ومن بلغ ؛ وأما نقباؤنا فكلهم وفى؛ وبر؛ بتوفيق الله وعونه؛ فله أتم الحمد.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية