الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما بين عنادهم؛ وأن عداوتهم لأهل هذا الدين - التي حملتهم على هذا الأمر العظيم - ليس بعدها عداوة؛ نهى من اتسم بالإيمان عن موالاتهم؛ لأنه لا يفعلها بعد هذا البيان مؤمن؛ ولا عاقل؛ فقال: يا أيها الذين آمنوا ؛ أي: أقروا بالإيمان; ولما كان الإنسان لا يوالي غير قومه إلا باجتهاد في مقدمات يعملها؛ وأشياء يتحبب بها إلى أولئك الذين يريد أن يواليهم؛ أشار إلى ذلك بصيغة الافتعال؛ فقال: لا تتخذوا ؛ أي: إن ذلك لو كان يتأتى بسهولة لما كان ينبغي لكم أن تفعلوه؛ فكيف وهو لا يكون إلا ببذل الجهد؟! اليهود والنصارى أولياء ؛ أي: أقرباء؛ تفعلون معهم ما يفعل القريب مع قريبه؛ وترجون منهم مثل ذلك؛ وهم أكثر الناس استخفافا بكم؛ وازدراء لكم; ثم علل ذلك بقوله: بعضهم أولياء بعض ؛ أي: كل فريق منهم يوالي بعضهم بعضا؛ وهم جميعا متفقون - بجامع الكفر؛ وإن اختلفوا في الدين - على عداوتكم يا أهل هذا الدين الحنيفي؛ ومن يتولهم منكم ؛ أي: يعالج فطرته الأولى؛ حتى يعاملهم معاملة الأقرباء؛ فإنه منهم ؛ لأن الله غني عن العالمين؛ فمن والى أعداءه تبرأ منه؛ ووكله إليهم; ثم علل ذلك؛ [ ص: 187 ] تزهيدا فيهم؛ وترهيبا لمتوليهم؛ بقوله: إن الله ؛ أي: الذي له الغنى المطلق؛ والحكمة البالغة؛ وكان الأصل: "لا يهديهم"؛ أو: "لا يهديه"؛ ولكنه أظهر؛ تعميما؛ وتعليقا للحكم بالوصف؛ فقال: لا يهدي القوم الظالمين ؛ أي: الذين يضعون الأشياء في غير مواضعها؛ فهم يمشون في الظلام؛ فلذلك اختاروا غير دين الله؛ ووالوا من لا تصلح موالاته؛ ومن لم يرد الله هدايته لم يقدر أحد أن يهديه؛ ونفي الهداية عنهم دليل على أن العبرة في الإيمان القلب؛ إذ معناه أن هذا الذي يظهر من الإقرار ممن يواليهم ليس بشيء؛ لأن الموالي لهم ظالم بموالاته لهم؛ والظالم لا يهديه الله؛ فالموالي لهم لا يهديه الله؛ فهو كافر؛ وهكذا كل من كان يقول - أو يفعل - ما يدل دلالة ظاهرة على كفره؛ وإن كان يصرح بالإيمان - والله الهادي؛ وهذا تغليظ من الله؛ وتشديد في وجوب مجانبة المخالف في الدين؛ واعتزاله - كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تراءى ناراهما"؛ ومنه قول عمر لأبي موسى - رضي اللـه عنهما - حين اتخذ كاتبا نصرانيا: لا تكرموهم إذ أهانهم الله؛ ولا تأمنوهم إذ خونهم الله؛ ولا تدنوهم إذ أقصاهم الله؛ وروي أن أبا موسى - رضي اللـه عنه - قال: لا قوام للبصرة إلا به؛ [ ص: 188 ] فقال عمر - رضي الله عنه -: مات النصراني - والسلام؛ يعني هب أنه مات؛ فما كنت صانعا حينئذ؛ فاصنعه الساعة .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية