الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما ختم بصفتي الحكمة والخبرة ، كان كأنه قيل : فلم لم يعلم أنا نكذبك بخبرته فيرسل معك بحكمته من يشهد لك - على ما يقول من أنه أمرك أن تكون أول من أسلم ، ونهاك عن الشرك لنصدقك - من ملك كما تقدم سؤالنا لك فيه أو كتاب في قرطاس أو غيرهما؟ فقال : قد فعل ، ولم يرض لي إلا بشهادته المقدسة فقال - أو يقال : إنه لما أقام الأدلة على الوحدانية والقدرة ووصل إلى صفة القهر المؤذن بالانتقام ، لم يبق إلا الإشهاد عليهم إيذانا بما يستحقونه من سوء العذاب وإنذارا به لئلا يقولوا إذا حل بهم : إنه لم يأتنا نذير ، فقال : قل أي : يا أيها الرسول لهم أي شيء أكبر أي : أعظم وأجل شهادة فإن أنصفوا وقالوا : الله! فقل : هو الذي يشهد لي ، كما قال في النساء لكن الله يشهد بما أنـزل إليك ولكنه قطع الكلام هنا إشارة إلى عنادهم أو سكوتهم ، أو إلى تنزيلهم منزلة المعاند ، أو العالم بالشيء العامل عمل الجاهل ، فقال آمرا له - صلى الله عليه وسلم - : قل الله أي : الملك الأعظم المحيط علما وقدرة أكبر شهادة .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 41 ] ولما كانوا بمعرض أن يسلموا ذلك ويقولوا : إنه لكذلك ، ولكن هلم شهادته ! قال : شهيد أي : هو أبلغ شاهد يشهد بيني وبينكم أي : بهذا القرآن الذي ثبت بعجزكم عنه أنه كلامه ، وبغيره من الآيات التي عجزتم عن معارضتها ، ولما قرر أنه أعظم شهيد ، وأشار إلى شهادته بالآيات كلها - نبه على أعظمها ؛ لأن إظهاره تعالى للقرآن على لسانه - صلى الله عليه وسلم - على وفق دعواه شهادة من الله له بالصدق ، فقال ذاكرا لفائدته في سياق تهديد متكفل بإثبات الرسالة وإثبات الوحدانية ، وقدم الأول ؛ لأنه المقرر للثاني والمفهم له بغايته ، عاطفا على جملة ( شهيد ) بانيا للمفعول ، تنبيها على أن الفاعل معروف للإعجاز ، وبنى للفاعل في السواد : وأوحي إلي وحقق الموحى به وشخصه بقوله : هذا القرآن ولما كان في سياق التهديد قال مقتصرا على ما يلائمه : لأنذركم أي : أخوفكم وأحذركم من اعتقاد شائبة نقص في الإله لا سيما الشرك به ومن أي : وأنذر به كل من بلغ أي : بلغه ، قال الفراء : والعرب تضمر الهاء في صلات : ( الذي) و ( من ) و ( ما) . وقال البخاري في آخر الصحيح : لأنذركم به [ ص: 42 ] يعني : أهل مكة ، ومن بلغ هذا القرآن فهو له نذير ، علقه بصيغة الجزم عن ابن عباس ووصله إليه ابن أبي حاتم كما أفاده شيخنا في شرحه . وقال عبد الرزاق في تفسيره : أخبرنا معمر عن قتادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : بلغوا عن الله ، فمن بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله . وقال الإمام تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي في جواب سؤال ورد عليه سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هل بعث إلى الجن - ومن خطه نقلت : الكتاب والسـنة ناطقان بذلك ، والإجماع قائم عليه ، لا خلاف بين المسلمين فيه ، ثم أسند الإجماع إلى أبي طالب القضاعي وأبي عمر بن عبد البر في (التمهيد) وأبي محمد بن حزم في كتاب : (الفصل) ... وغيرهم ، ثم قال : أما الكتاب فآيات ، إحداها لأنذركم به ومن بلغ قال محمد بن كعب القرظي : من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال ابن عباس - فذكره ، وقال [ ص: 43 ] السدي : من بلغ القرآن فهو له نذير ، وقال ابن زيد : من بلغه هذا القرآن فأنا نذيره . وهذه كلها أقوال متفقة المعنى ، وقد أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقول هذا الكلام وأن ينذر بالقرآن كل من بلغه ، ولم يخص إنسا ولا جنا من أهل التكليف ، ولا خلاف أن الجن مكلفون . انتهى . وسيأتي مما ذكر من الآيات وغيرها ما يليق بالاستدلال على الإرسال إلى الملائكة - عليهم السلام - فالمعنى : فمن صدق هذا القرآن فقد أفلح ، ومن كذب فليأت بسورة من مثله ، ثم عجزه شاهد على نفسه بالكذب ، وهو شهادة الله لي بالصدق ، ولأجل أن الله هو الشاهد لم تنقض الشهادة بموت النبي - صلى الله عليه وسلم - بل استمرت على مر الأيام وكر الأعوام لبقاء الشاهد وتعاليه عن شوائب النقص وسمات الحدث ، وإلى ذلك الإشارة بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( ما من الأنبياء نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ) أخرجه الشيخان ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - . ولعل الاقتصار على الإنذار مع ما تقدم إشارة إلى أن أكثر الخلق هالك ، وقد ذكر في نزول هذه الآية أن أهل مكة أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : أما وجد الله رسولا غيرك ؟ ما نرى أحدا يصدقك بما تقول ، [ ص: 44 ] ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس عندهم منك ذكر ، فأرنا من يشهد أنك رسول الله كما تزعم ، فأنزلها الله .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما لم يبق لمتعنت شبهة ، ساق فذلكة ذلك وقطب دائرته - وهو لزوم التوحيد الذي جعلت الرسالة مرقى إليه ، فإذا ثبت في قلب فاضت أنواره بحسب ثباته حتى إنها ربما ملأت الأكوان وعلت على كيوان - مساق استفهام على طريقة الإنكار والتعجيب تعظيما لشأنه وتفخيما لمقامه وتنبيها لهم على أن يبعدوا عن الشرك فقال : أإنكم لتشهدون أن مع الله أي : الذي حاز جميع العظمة آلهة

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانوا لكثرة تعنتهم ربما أطلقوا على أسمائه - سبحانه - إله ، كما قالوا حين سمعوه - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( يا الله يا رحمن ) كما سيأتي إن شاء الله تعالى آخر الحجر وآخر سبحان - صرح بالمقصود على وجه لا يحتمل النزاع ، فقال : أخرى ولما كان كأنه قيل : إنهم ليقولون ذلك ، فماذا يقال لهم؟ قال : قل لا أشهد أي : معكم بشيء مما تقولونه لأنه باطل ، ولو كان حقا لشهدت به .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان هذا غير قاطع لطمعهم فيه - اجتثه من أصله وبرمته بقوله : قل إنما هو أي : الإله إله واحد وهو الله الذي [ ص: 45 ] لا يعجزه شيء وهو يعجز كل شيء ؛ لأنه واحد لا كفؤ له ، فإنكم عجزتم عن الإتيان بسورة من مثل كلامه وأنتم أفصح الناس .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان معنى هذا البراءة من إنذارهم - صرح به في قوله مؤكدا في جملة اسمية : وإنني بريء مما تشركون أي : الآن وفي مستقبل الزمان إبعادا من تطمعهم أن تكون الموافقة بينه وبينهم باتخاذه الأنداد أو شيئا منها وليا ، فثبت التوحيد بهذه الآية بأعظم طرق البيان وأبلغ وجوه التأكيد ، ولقد امتثل - صلى الله عليه وسلم - الأمر بإنذار من يمكن إبلاغه القرآن ، فلما استراح عن حرب قريش وكثير ممن حوله من العرب في عام الحديبية ، وهو سنة ست من الهجرة ، وأعلمه الله تعالى أن ذلك فتح مبين - أرسل إلى من يليه من ملوك الأمصار في ذلك العام وما بعده ، وكان أكثر عند منصرفه من [ذلك] الاعتمار يدعوهم إلى جنات وأنهار في دار القرار ، وينذرهم دار البوار ، قال أهل السير : خرج - صلى الله عليه وسلم - بعد رجوعه من عمرة الحديبية التي صد عنها - على أصحابه - رضوان الله عليهم أجمعين - فقال : ( أيها الناس! إن الله بعثني رحمة وكافة ، وإني أريد أن أبعث بعضكم إلى ملوك الأعاجم ) وقال ابن عبد الحكم في فتوح مصر عن عبد الرحمن بن عبد القادر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام ذات يوم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وتشهد [ ص: 46 ] ثم قال : ( أما بعد فإني أريد أن أبعث بعضكم إلى ملوك العجم ، فأدوا عني يرحمكم الله ، ولا تختلفوا علي كما اختلف الحواريون )

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عبد الحكم : اختلف بنو إسرائيل - على عيسى ابن مريم - عليهما السلام - فقال المهاجرون : يا رسول الله! والله لا نختلف عليك في شيء أبدا ، فمرنا وابعثنا ، فسألوه : كيف اختلف الحواريون على عيسى - عليه السلام ؟ قال : دعاهم إلى الذي - وفي رواية - : لمثل الذي دعوتكم إليه ، وقال ابن عبد الحكم : إن الله - تبارك وتعالى - أوحى إلى عيسى - عليه السلام - أن ابعث إلى مقدس الأرض ، فبعث الحواريون - فأما من بعثه مبعثا قريبا فرضي وسلم ، وأما من بعثه مبعثا بعيدا فكره وجهه وتثاقل - قال ابن عبد الحكم : وقال : لا أحسن كلام من تبعثني إليه - فشكا ذلك عيسى - عليه السلام - إلى الله - عز وجل - فأصبح كل رجل - وقال ابن عبد الحكم : فأوحى الله تعالى إليه أني سأكفيك ، فأصبح المتثاقلون وكل واحد منهم - يتكلم بلغة الأمة التي بعث إليها . فقال عيسى - عليه السلام - : هذا أمر قد عزم الله عليه فامضوا له . وقال الشيخ مجد الدين الفيروزآبادي - في القاموس - : إن المكان الذي جمع فيه عيسى - عليه السلام - الحواريين وأنفذهم إلى النواحي - قرية بناحية طبرية تسمى الكرسي . وقال ابن إسحاق : وحدثني يزيد بن أبي حبيب [ ص: 47 ] المصري أنه وجد كتابا فيه ذكر من بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى البلدان وملوك [ العرب و] العجم وما قال لأصحابه حين بعثهم ، قال : فبعث به إلى محمد بن شهاب الزهري فعرفه - فذكر نحو ما تقدم إلى أن قال : قال ابن إسحاق : وكان من بعث عيسى ابن مريم - صلى الله عليه وسلم - من الحواريين والأتباع الذين كانوا بعدهم في الأرض بطرس الحواري ومعه بولس - وكان [ بولس ] من الأتباع ولم يكن من الحواريين - إلى رومية ، وأندرائس ومنتا إلى الأرض التي يأكل أهلها الناس ، وتوماس إلى أرض بابل من أرض المشرق وقيبليس إلى قرطاجنة ، وهي إفريقية ، ويحنس إلى أقسوس قرية [الفتية] أصحاب الكهف ، ويعقوبس إلى أوراشلم وهي إيلياء قرية بيت المقدس ، وابن ثلما إلى الأعرابية ، وهي أرض الحجاز ، وسيمن إلى أرض البربر ، ويهودا ولم يكن من الحواريين ، جعل مكان يودس . انتهى . كذا رأيت في [ ص: 48 ] نسخة معتمدة مقابلة من تهذيب السيرة لابن هشام ، وكذا في مختصرها للإمام جمال الدين محمد بن [المكرم] الأنصاري عدد رسله وأسمائهم ، وفي آخرهم : قوله : مكان يودس ، ولم يتقدم ليودس ذكر ، والذي حررته أنا من الأناجيل التي بأيدي النصارى غير هذا ، ولعله أصح ، وقد جمعت ما تفرق من ألفاظها ، [قال] في إنجيل متى ما نصه : ومعظم السياق له : ودعا - يعني : عيسى - عليه السلام - تلاميذه الاثني عشر وأعطاهم سلطانا على جميع الأرواح [النجسة] لكي يخرجوها ويشفوا كل الأمراض; وفي إنجيل مرقس : وصعد إلى الجبل ودعا الذين أحبهم فأتوا إليه ، وانتخب اثني عشر ليكونوا معه ولكي يرسلهم ليكرزوا ، وأعطاهم سلطانا على شفاء الأمراض وإخراج الشياطين ، وفي إنجيل لوقا : وكان في تلك الأيام خرج إلى الجبل يصلي ، وكان ساهرا في صلاة الله ، فلما كان النهار دعا تلاميذه واختار منهم اثني عشر ، وقال في موضع آخر : ودعا الاثني عشر الرسل وأعطاهم قوة وسلطانا على جميع الشياطين وشفاء المرضى ، وأرسلهم يكرزون بملكوت الله ويشفون الأوجاع ;

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه أسماء الاثني عشر الرسل : سمعان المسمى بطرس ، ونسبه في موضع من إنجيل [ متى ] : ابن يونا ، وأندراوس أخوه ، ويعقوب بن زبدي ويوحنا أخوه [ ص: 49 ] قال في إنجيل مرقس : وسماهما باسمي بوانرجس اللذين ابنا الرعد ، وفيلبس وبرثولوماوس ، وتوما ومتى الشعار ، ويعقوب بن حلفي ، ولباوس الذي يدعى تداوس ، وجعل في إنجيل مرقس بدل هذا : تدى ، وفي إنجيل لوقا بدلهما : يهوذا بن يعقوب ، ثم اتفقوا : وسمعان القاناني ، وقال في إنجيل لوقا : المدعو الغيور ، ويهوذا الإسخريوطي الذي أسلمه - أي : دل عليه في الليلة التي ادعى اليهود القبض عليه فيها - هؤلاء الاثنا عشر الرسل الذين أرسلهم يسوع - وفي إنجيل مرقس : ودعا الاثني عشر وجعل يرسلهم اثنين اثنين ، وأعطاهم السلطان على الأرواح النجسة - قائلا : لا تسلكوا طريق الأمم ، ولا تدخلوا مدينة السامرة ، وانطلقوا خاصة إلى الخراف التي ضلت من بيت إسرائيل ، وإذا ذهبتم فاكرزوا وقولوا : قد اقتربت ملكوت السماوات ، اشفوا المرضى ، أقيموا الموتى ، طهروا البرص ، أخرجوا الشياطين ، مجانا أخذتم مجانا أعطوا ، لا تكنزوا ذهبا ولا فضة ولا نحاسا في مناطقكم ولا هميانا في الطريق ولا ثوبين ولا حذاء ولا عصى ، والفاعل [ ص: 50 ] مستحق طعامه ، وفي إنجيل مرقس : وأمرهم أن لا يأخذوا في الطريق غير عصى فقط ولا هميانا ولا خبزا ولا فضة ولا نحاسا في مناطقهم إلا نعالا في أرجلهم ولا يلبسوا قميصين; وفي إنجيل لوقا : وقال لهم : لا تحملوا في الطريق شيئا ، لا عصى ولا هميانا ولا خبزا ولا فضة ، ولا يكون لكم ثوبان ، وأي مدينة أو قرية دخلتموها فحصوا فيها عمن يستحقكم ، وكونوا هناك حتى تخرجوا ، فإذا دخلتم إلى البيت فسلموا عليه ، فإن كان البيت مستحقا لسلامكم فهو يحل عليه ، وإن كان لا يستحق فسلامكم راجع إليكم ، ومن لا يقبلكم ولا يسمع كلامكم فإذا خرجتم من ذلك البيت وتلك القرية أو تلك المدينة انفضوا غبار أرجلكم; وفي إنجيل مرقس : وقال لهم : أي بيت دخلتموه أقيموا فيه إلى أن تخرجوا منه ، وأي موضع لم يقبلكم ولم يسمع منكم فإذا خرجتم من هناك فانفضوا الغبار الذي تحت أرجلكم للشهادة عليهم ، الحق أقول لكم! إن الأرض سدوم وعامورا راحة في يوم الدين أكثر من تلك [ ص: 51 ] المدينة ، هو ذا أنا مرسلكم كالخراف بين الذئاب ، كونوا حكماء كالحية وودعاء كالحمام ، احذروا من الناس ، فإنهم يسلمونكم إلى المحافل ، وفي مجامعهم يضربونكم ، ويقدمونكم إلى القواد والملوك من أجلى شهادة لهم وللأمم - وفي إنجيل مرقس : شهادة عليهم وعلى كل الأمم ، ينبغي أولا أن يكرزوا بالإنجيل - فإذا أسلموكم فلا تهتموا بما تقولون - وفي إنجيل مرقس : ولا ماذا تجيبون - فإنكم تعطون في تلك الساعة ما تتكلمون به ، ولستم أنتم المتكلمين لكن روح أبيكم - وفي إنجيل مرقس : لكن روح القدس يتكلم فيم - وسيسلم الأخ أخاه إلى الموت والأب ابنه ، ويقوم الأبناء على آبائهم فيقتلونهم ، وتكونون مبغوضين من الكل من أجل اسمي ، والذي يصبر إلى المنتهى يخلص ، فإذا طردوكم من هذه المدينة اهربوا إلى أخرى ، الحق الحق أقول لكم! إنكم لا تكلمون مدائن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان ، ليس تلميذ أفضل من معلمه ، ولا عبد أفضل من سيده ، وحسب التلميذ أن يكون مثل معلمه والعبد مثل سيده ، إن كانوا سموا رب البيت باعل زبول فكم بالحري أهل بيته! فلا تخافوهم ، فليس خفي إلا سيظهر ولا مكتوم إلا سيعلم ، الذي أقول لكم [ ص: 52 ] في الظلمة قولوه أنتم في النور ، وما سمعتموه بآذانكم فاكرزوا به على السطوح ، ولا تخافوا ممن يقتل الجسد ولا يستطيع أن يقتل النفس ، خافوا ممن يقدر أن يهلك النفس والجسد جميعا في جهنم ، [أليس] عصفوران يباعان بفلس ، وواحد منهما لا يسقط على الأرض دون إرادة أبيكم ، وأنتم فشعور رؤوسكم كلها محصاة ، فلا تخافوا ، فإنكم أفضل من عصافير كثيرة ، لا تظنوا أني جئت لألقى على الأرض سلامة ، لكن سيفا ، أتيت لأفرق الإنسان من أبيه والابنة من أمها ، والعروس من حماتها ، وأعداء الإنسان أهل بيته ، من أحب أبا أو أما أكثر مني فما يستحقني ، ومن وجد نفسه فليهلكها ، ومن أهلك نفسه من أجلي وجدها ، ومن قبلكم فقد قبلني ، ومن قبلني فهو يقبل الذي أرسلني ، ومن يقبل نبيا باسم نبي فأجر نبي يأخذ ، ومن يأخذ صديقا باسم صديق فأجر صديق يأخذ ، ومن سقى أحد هؤلاء الصغار كأس ماء بارد فقط باسم تلميذ - الحق أقول لكم - إن أجره لا يضيع ، ولما أكمل يسوع أمره لتلاميذه الاثني عشر - انتقل من هناك ليعلم ويكرز [ ص: 53 ] في مدنهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي إنجيل مرقس : فلما خرجوا - يعني : الرسل - كرزوا بالتوبة وأخرجوا شياطين كثيرة ومرضى عديدة يدهنونهم بالزيت فيشفون; وفي إنجيل لوقا : ومن بعد هذا أيضا ميز الرب سبعين آخرين ويرسلهم اثنين اثنين قدام وجهه إلى كل مدينة وموضع أزمع أن يأتيه ، وقال لهم : إن الحصاد كثير والفعلة قليلون ، اطلبوا من رب الحصاد ليخرج فعلة لحصاده; وفي إنجيل متى ما ظاهره أن هذا الكلام كان للاثني عشر ، فإنه قال قبل ذكر عددهم : فلما رأى الجمع تحنن عليهم لأنهم كانوا ضالين ومطرحين كالخراف التي ليس لها راع ، حينئذ قال لتلاميذه الاثني عشر - إلى آخر ما ذكرته عنه أولا ، فيجمع بأنه قاله للفريقين - رجع إلى السياق الأول : اذهبوا ، وهو ذا أرسلكم كالخراف بين الذئاب ، لا تحملوا هميانا ولا حذاء ولا مزودا ولا تقبلوا أحدا في الطريق ، وأي بيت دخلتموه فقولوا أولا : سلام لأهل هذا البيت ، فإن كان هناك ابن سلامكم فإن سلامكم يحل [ ص: 54 ] عليه ، وإلا فسلامكم راجع إليكم ، وكونوا في ذلك [البيت] ، كلوا واشربوا من عندهم ، فإن الفاعل مستحق أجرته ، ولا تنتقلوا من بيت إلى بيت ، وأي مدينة دخلتموها ويقبلكم أهلها فكلوا مما يقدم لكم ، واشفوا المرضى الذين فيها ، وقولوا لهم : قد قربت ملكوت الله ، وأي مدينة دخلتموها ولا يقبلكم أهلها فاخرجوا من شوارعها وقولوا لهم : نحن ننفض لكم الغبار الذي لصق بأرجلنا من مدينتكم ، لكن اعلموا أن ملكوت الله قد قربت ، أقول لكم : إن سدوم في ذلك اليوم لها راحة أكثر من تلك المدينة ، الويل لك يا كورزين! والويل لك يا بيت صيدا ! لأنه لو كان في صور وصيدا القوات التي كن فيكما جلسوا وتابوا بالمسوح والرماد ، وأما صور وصيدا فلهما راحة في الدينونة أكثر منكم ، وأنت يا كفر ناحوم لو أنك ارتفعت إلى السماء سوف تهبطين إلى الجحيم ، من سمع منكم فقد سمع مني ، ومن جحدكم فقد جحدني ، [ومن جحدني] فقد شتم الذي أرسلني; فرجع السبعون بفرح قائلين : يا رب ! الشياطين باسمك تخضع لنا يا رب ، فقال لهم : قد رأيت الشيطان سقط من السماء مثل البرق ، وهو ذا قد أعطيتكم [ ص: 55 ] سلطانا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ، ولا يضركم شيء ، ولكن لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم ، افرحوا لأن أسماءكم مكتوبة في السماوات ، وفي تلك الساعة تهلل يسوع بالروح ، والتفت إلى تلاميذه خاصة وقال : طوبى للأعين التي ترى ما رأيتم ! أقول لكم : إن أنبياء كثيرين وملوكا اشتهوا أن ينظروا ما نظرتم فلم ينظروا ، ويسمعوا ما سمعتم فلم يسمعوا; وفي إنجيل متى - بعد ما ادعى اليهود صلبه - أنه ظهر لتلاميذه الأحد عشر - وهم من تقدم غير يهوذا الإسخريوطي الذي أسلمه - في الجليل في الجبل الذي أمرهم به يسوع ، وكلمهم قائلا : أعطيت كل سلطان في السماء وعلى الأرض ، فاذهبوا الآن وتلمذوا كل الأمم; وفي آخر إنجيل مرقس أنه ظهر لهم وهم مجتمعون ، وكانوا في تلك الأيام يبكون وينوحون فبكتهم لقلة إيمانهم وقسوة قلوبهم وقال لهم : امضوا إلى العالم أجمع ، واكرزوا بالإنجيل في الخليقة كلها ، فمن آمن واعتمد خلص ، ومن لم يؤمن يدان ، وهذه الآيات تتبع المؤمنين ، يخرجون الشياطين [باسمي] ويتكلمون بألسنة جديدة ، ويحملون بأيديهم الحيات ولا تؤذيهم . ويشربون السم القاتل فلا يضرهم ، ويضعون أيديهم على المرضى فيبرؤون ، ومن بعد ما كلمهم [ ص: 56 ] يسوع ارتفع إلى السماء ، فخرج أولئك يكرزون في كل مكان; وفي إنجيل لوقا : فلما خرجوا كانوا يطوفون في القرى ويبشرون ويشفون في كل موضع وفي آخره بعد أن ذكر تلامذته الأحد عشر وكلاما كانوا يخوضون فيه بعد ادعاء اليهود لصلبه : وفيما هم يتكلمون - وقف يسوع في وسطهم وقال لهم : السلام لكم ، أنا هو! لا تخافوا ، فاضطربوا وظنوا أنهم ينظرون روحا فقال : ما بالكم تضطربون؟ ولم تأتي الأفكار في قلوبكم؟ انظروا يدي ورجلي فإني أنا هو! جسوني وانظروا ، إن الروح ليس له لحم ولا عظم كما ترون أنه لي; ولما قال هذا أراهم يديه ورجليه ، وإذا هم غير مصدقين من الفرح ، قال لهم : أعندكم ههنا ما يؤكل؟ فأعطوه جزءا من حوت مشوي ومن شهد عسل ، فأخذ قدامهم وأكل ، وأخذ الباقي وأعطاهم ، وقال لهم : هذا الكلام الذي كلمتكم به إذ كنت معكم ، وأنه سوف يكمل كل شيء هو مكتوب في ناموس موسى والأنبياء والمزامير لأجلي ، وحينئذ فتح أذهانهم ليفهموا ، وقال لهم : اجلسوا أنتم في المدينة يروشليم حتى تتذرعوا لقوة من العلى ، ثم أخرجهم خارجا إلى بيت عنيا ، فرفع يديه وباركهم ، وكان فيما هو يباركهم انفرد عنهم وصعد إلى السماء أمامهم ، فرجعوا إلى يروشليم بفرح عظيم ، وكانوا في كل حين يسبحون [ ص: 57 ] ويباركون الله . انتهى ما نقلته من الأناجيل . وما كان فيه من لفظ يوهم نقصا [ما] فقد تقدم في أول آل عمران أنه لا يجوز في شرعنا إطلاقه على الله تعالى وإن كان صح إطلاقه في شرعهم ، فهو مؤول وقد نسخ.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الإمام محيي السنة البغوي في تفسير آل عمران فيما نقله عن وهب : فلما كان بعد سبعة أيام - أي : من ادعاء اليهود لصلبه - قال الله تعالى لعيسى - عليه السلام - : اهبط على مريم المجدلانية في جبلها ، فإنه لم يبك عليك أحد بكاءها ، ولم يحزن [عليك] أحد حزنها ، ثم لتجمع لك الحواريين فتبثهم في الأرض دعاة إلى الله تعالى ، فأهبطه الله تعالى عليها فاشتعل الجبل حين هبط نورا ، فجمعت له الحواريين فبثهم في الأرض دعاة ، ثم رفعه الله إليه ، وتلك الليلة هي التي تدخن فيها النصارى ، فلما أصبح الحواريون حدث كل واحد منهم بلغة من أرسله عيسى - عليه السلام - إليهم ، فذلك قوله تعالى : ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين هذا ما ذكر من شأن رسل عيسى - عليه السلام - أنهم كانوا دعاة .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية