الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما تضمن قوله : ( افتراء عليه افتراء على الله والتعبير في ذلك كله [ ص: 298 ] بالاسم الأعظم أن كون التحريم ليس إلا من الله أمر معلوم ليس موضعا للشك لأنه الملك الأعظم ولا حكم لغير الملك ، ومن حكم عن غير أمره عذب -حسن بعد إبطال دينهم [والبيان لأن من حرم شيئا بالتشهي مضل وظالم] قوله مبينا البيان الصحيح لما يحل ويحرم جوابا لمن يقول : فما الذي حرمه - سبحانه - وما الذي أحله : قل معلما بأن التحريم لا يثبت إلا بوحي [من] الله لا أجد أي : الآن ولا فيما يستقبل من الزمان ، فإن (لا) كلمة لا تدخل على مضارع إلا وهو بمعنى الاستقبال في ما

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان ما آتاه - صلى الله عليه وسلم - قد ثبت بعجزهم عن معارضته أنه من الله ، بني للمفعول قوله :أوحي إلي أي : من القرآن والسنة شيئا مما تقدم مما حرمتموه مطلقا أو على حال دون حال وعلى ناس دون آخرين طعاما محرما على طاعم أي : طاعم كان من ذكر أو أنثى يطعمه أي : يتناوله أكلا وشربا أو دواء أو غير ذلك إلا أن يكون أي : ذلك الطعام ميتة أي : شرعا ، والميتة الشرعية هي ما لا يقبل التذكية ، [وهو كل ما زالت حياته بغير ذكاة شرعية] أو دما مسفوحا أي : مراقا من شأنه السيلان لا من شأنه الجمود كالكبد والطحال .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان النصارى قد اتخذوا أكل الخنزير دينا - نص عليه وإن كان داخلا في قوله (ميتة) على ما قررته في المراد بها ، وقال : [ ص: 299 ] أو لحم خنـزير ليفيد تحريمه على كل حال سواء ذبح أم لا ، ولو قيل : أو خنزيرا لاحتمل أن يراد تحريم ما أخذ منه حيا فقط ، وقال : فإنه أي : الخنزير رجس ليفيد نجاسة عينه وهو حي ، فلحمه وكذا سائر أجزائه بطريق الأولى ، [وكل ما وافقه في هذه العلة كان نجسا ، لا يعاد الضمير على اللحم لأنه قد علمت نجاسته من تحريمه لعينه ، فلو عاد عليه كان تكرارا] .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما ذكر المحرم لعينه ذكر المحرم لعارض ، فقال مبالغا في النفي عنه بأن جعله نفس المعنى الذي وقع النهي لأجله : أو فسقا أي : أو كان الطعام خروجا مما ينبغي القرار فيه من فسيح جناب الله الذي من توطنه أمن واهتدى وسلم من ضيق الهوى في ذكر الغير الذي من خرج إليه خاف وضل ، وهلك وتوى; ثم قال مفسرا له [مقدما لما هو داخل في الفسق من الالتفات إلى الغير] : أهل لغير الله أي : الذي له كل شيء لأن له الكمال كله به أي : ذكر غير اسمه عليه بأن ذبح له تدينا. ثم ذكر لطفه بهذه الأمة في إباحته لهم في حال الضرورة كل محرم رحمة منه لهم وسترا لتقصيرهم فقال : فمن اضطر أي : حصل له جوع خشي منه التلف ، وبني للمفعول لأن المعتبر حصول الاضطرار لا كونه من معين ، ومن التعبير بذلك تؤخذ حرمة ما زاد [ ص: 300 ] على سد الرمق لأنه حينئذ لا يكون مضطرا غير باغ أي : على غيره بمكيدة ولا عاد أي : على غيره بقوته ولا متجاوز حد الضرورة فإن ربك أي : المحسن إليك بإرسالك وإلى أمتك الضعيفة بجعل دينها الحنيفية السمحة غفور أي : يمحو الذنب إذا أراد رحيم أي : يكرم المذنب بعد الغفران بأنواع الكرامات ، فهو جدير بأن يمحو عن هذا المضطر أثر تلك الحرمة التي كدرها ويكرمه بأن يجعل له - في حفظه بذلك لنفسه إذا صحت فيه نيته - أجرا عظيما ، وقد تكلفت الآية على وجازتها بجميع المحرمات من المأكولات مع الإشارة بلفظ الرجس والفسق إلى جميع أصناف المحرمات وإلى أن ارتكابها موجب للخبث والانسلاخ من الخير ، وذلك هو سبب تحريمها; قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في كتاب : (العروة) : وجه إنزال هذا الحرف - أي : حرف الحرام - طهرة الخلق من مضار أبدانهم ورجاسة نفوسهم ومجهلة قلوبهم ، فما اجتمعت فيه كان أشد تحريما وما وجد فيه شيء منها كان تحريمه بحسب تأكد الضرورة إلى طهرته ، وكما اختلف أحوال بني آدم بحسب اختلاف طينتهم من بين خبيث وطيب وما بين ذلك - اختلف أحوالهم فيما به تجدد خلقهم من رزقهم ، فمن اغتذى بدنه من شيء ظهرت أخلاق نفس ذلك المغتذى به وأوصافه في نفسه ، ورين على القلب أو صفاء ، لتقويه بما يسمى عليه من ذكر الله أو كفر به [ ص: 301 ] بذكر غيره ، وجامع منزله على حده من استثناء قليله من متسع الحلال قوله تعالى :

                                                                                                                                                                                                                                      قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا هذا لمضرته بالبدن أو لحم خنـزير وهذا لتخبيثه للنفس وترجيسه لها - كما قال تعالى - : فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به وهذا لرينه على القلب ، وهذه الآية مدنية وأثبتها تعالى في سورة مكية إشعارا بأن التحريم كان مستحقا في أول الدين ولكن أخر إلى حين اجتماع جمة الإسلام بالمدينة ؛ تأليفا لقلوب المشركين وتيسيرا على ضعفاء [الدين] الذين آمنوا ، واكتفاء للمؤمنين بتنزههم عن ذلك وعما يشبهه استبصارا منهم ، حتى إن الصديق - رضي الله عنه - كان قد حرم الخمر [على نفسه] في زمن الجاهلية لما رأى فيها من نزف العقل ، فكيف بأحوالهم بعد الإسلام! وألحق بها في سورة : " الذين آمنوا " ما كان قتله سطوة من غير ذكر الله عليه من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما أدرك بالتذكية المنهرة للدم الموصل في التحريم لفساد مسفوحه بما هو خارج عن حد الطعام في الابتداء والأعضاء في الانتهاء المستدركة - ببركة التسمية - أثر ما أصابها من مفاجأة السطوة ، وألحق بها أيضا في هذه السورة [ ص: 302 ] تحريم الخمر لرجسها كالخنزير ، كما ألحقت المقتولة بالميتة ، وكما حرم الله ما فيه جماع الرجس من الخنزير وجماع الإثم من الخمر - حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان فيه حظ من ذلك ، فألحق بالخنزير السباع حماية من سورة غضبها لشدة المضرة في ظهور الغضب من العبيد ؛ لأنه لا يصلح إلا لسيدهم ، وحرم الحمر الأهلية حماية من بلادتها وحرانها الذي هو علم غريزة الخرق في الخلق ، وألحق - صلى الله عليه وسلم - بتحريم الخمر التي سكرها مطبوع تحريم المسكر الذي سكره مصنوع ، وكما حرم الله ما يغر العبد في ظاهره وباطنه حرم عليه فيما بينه وبينه ما يقطعه عنه من أكل الربا ، [والربا] بضع وسبعون بابا والشرك مثل ذلك ، وجامع منزله في قوله تعالى : الذين يأكلون الربا إلى قوله :

                                                                                                                                                                                                                                      وأحل الله البيع وحرم الربا إلى انتهاء ذكره إلى ما ينتظم من ذلك في قوله : يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة - الآية ما يلحق بذلك في قوله : وما آتيتم من ربا - الآية ، هكذا قال : إن هذه الآية مدنية ، وهو - مع كوني لم أره لغيره - مشكل بقوله : وقد فصل لكم ما حرم عليكم الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 303 ] ولما كان تحريم الربا بين الرب والعبد - كان فيه الوعيد بالإيذان بحرب من الله ورسوله ؛ ولذلك حمت الأئمة ذرائعه أشد الحماية ، وكان أشدهم في ذلك عالم المدينة حتى إنه حمى من صورته من الثقة بسلامة الباطن منه ، وعمل بضد ذلك في محرمات ما بين العبد ونفسه ، وكما حرم الله الربا فيما بينه وبين عبده من هذا الوجه الأعلى كذلك حرم أكل المال بالباطل فيما بين العبد وبين غيره من الطرف الأدنى ، وجامع منزله في قوله تعالى : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام - الآية . إلى ما ينتظم به من قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم إلى ما ينتظم به من قوله تعالى : وآتوا اليتامى أموالهم - الآيات في أموال اليتامى ، فحرمه تعالى من جهة الأعلى والمثيل والأدنى ، وانتظم التحرير في ثلاثة أصول : من جهة ما بين الله وبين عبده ومن جهة ما بين العبد وبين نفسه ، ومن جهة ما بين العبد وبين غيره ، مما تستقرأ جملة آية في القرآن وأحاديثه في السنة ومسائله في فقه الأئمة; ولما كان له متسع ، وقع فيما بين الحلال البين والحرام [ ص: 304 ] البين أمور متشابهات لا يعلمها كثير من الناس ؛ لأنها تشبه الحلال من وجه وتشبه الحرام من وجه ، فلوقوعها بينهما يختلف فيها ولعرضه في الأولى ، وعن حماية الله عباده عن وبيل الحرام تحقق لهم اسمه (الطيب) ، فلم يتطبب بطب الله من لم يحتم عن محرماته ومتشابهاتها ، وهو الورع الذي هو ملاك الدين - ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم -. ثم قال فيما تحصل به قراءة [حرف] الحرام تماما في العلم والحال والعمل : اعلم أن الإنسان لما كان خلقا جامعا كانت فيه بزرتان : بزرة للخير وبزرة للشر ، وبحسب تطهره وتخلصه من مزاحمة نبات بزرة الشر تنمو فيه وتزكو بزرة الخير ، ولكل واحدة من البزرتين منبت في جسمه ونفسه وفؤاده ، فأول الحروف في الترتيب العمل ، والأساس لما بعده هو قراءة حرف الحرام ، لتحصل به طهرة البدن الذي هو السابق في وجود الإنسان فمن غذي بالحرام في طفولته لم يقدر على اجتناب الآثام في كهولته إلا أن يطهر الله بما شاء من نار الورود في الدنيا من الأمراض والضراء ، فهو الأساس الذي ينبني عليه تطهر النفس من المناهي وتطهر الفؤاد من العمه والمجاهل ، والذي تحصل به قراءة هذا الحرف هو الورع الحاجز عما يضر بالجسم ويؤذي النفس وما يكره الخلق [ ص: 305 ] وما يغضب الرب ، فمن أصاب شيئا من ذلك ولم يبادر إليه بالتوبة عذب بكل آية قرأها وهو مخالف لحكمها (من لم يبال من أي باب دخل عليه رزقه لم يبال الله من أي باب أدخله النار) .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الورع كف اليد ظاهرا عن الشيء الضار ، وكانت الجوارح لا تنقاد إلا عن تأثر من النفس ، لم يصح الورع ظاهرا إلا أن يقع في النفس روعة باطنه من تناول ذلك الشيء; ولما كانت النفس لا تتأثر إلا عن تبصر القلب في الضار كما لا ينكف اليد إلا عند تقذر النفس لما تدرك العين قذره حتى إن النفس الرضية تأنف من المحرمات كما يأنف المستنظف من المستقذرات ، فأكلة الحرام هم دود جيفة الدنيا يستقذرهم أهل البصائر كما يستقذرون هم دود جيف المزابل .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الحرام ما يضر العبد في نفسه كالميتة ، تيسر على المستبصر كف يده عنها لما يدري من مضرتها بجسمه ، وكذلك الدم المسفوح لأنه ميتة بانفصاله عن الحي ومفارقته لروح الحياة التي تخالطه في العروق ، قلت : وسيأتي قريبا تعليله في التوراة بما يقتضي أنه أكثر فعلا في النفس وتطبيعا لها بخلق ما هو دمه من اللحم - والله الموفق; وكذلك ما يضر بنفسه كلحم الخنزير لأنه رجس ، والرجس هو خبائث الأخلاق التي [هي] عند العقلاء أقبح من خبائث الأبدان ، وذلك لأن [ ص: 306 ] من اغتذى جسمه بلحم حيوان اغتذت نفسه بنفسانية ذلك الحيوان وبخلق من أخلاقه ، وفي نفس الخنزير مجامع رذائل الأخلاق من الإباء والحران والمكر والإقدام على ما يعانيه فيه الهلاك ومتابعة الفساد ، والانكباب على ما تقبل عليه في أدنى الأشياء على ما ظهرت في خلقته آياته فإنه ليس له استشراف كذوات الأعناق ، وكذلك ما يضر بهما وبالعقل كالخمر في نزفها للعقل وتصديعها للرأس وإيقاعها العداوة والبغضاء في خلق النفس ؛ ولذلك هي جماع الإثم ، فالمتبصر في المحرمات يأنف منها لما يدري من مضرتها وأذاها في الوقت الحاضر وفي معيبها في يوم الدنيا إلى ما أخبر به من سوء عقباها في يوم الدين ، ومن شرب الخمر ومات ولم يتب منها كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال ، وهي عصارة أهل النار ، ولو هدد شاربها في الدنيا من له أمر بأن يسقيه من بوله ورجيعه - لوجد من الروع ما تحمله على الورع عنها ، وإذا استبصر ذو دراية فيما يضره في ذاته فأنف منه رعاية نفسه لحق له بذلك التزام رعايتها عما يتطرق له منه درك من جهة غيره فيتورع من أكل أموال الناس بالباطل لما يدري من المؤاخذة عليها في العاجل وما أخبر به من المعاقبة عليها في الآجل ، ولها في ذاته مضرة في الوقت بتعرفها من موارد القرآن بنور الإيمان [ ص: 307 ] الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وإن لم يحس بها ، وليس تأويله الوعد بالنار ؛ لأن ذلك إنباء عند قوله تعالى : وسيصلون سعيرا وكذلك إذا أنف مما يضره في نفسه وخاف مما يتطرق إليه ضره من غيره - أعظم أن يقرب حمى ما يتطرق إليه السطوة من ربه لأجله ، وذلك فيما حرم عليه حماية لعظيم ملكه وعدم التفاوت في أمر رحمانيته في محرم الربا ، ولما فيه أيضا من مضرة وقته الحاضر التي يقيدها بالإيمان من تعريف ربه ، فإنه تعالى كما عرف أن أكل مال الغير بالباطل نار في البطن ، عرف أن أكل مال الربا جنون في العقل وخبال في النفس الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس وأعظم من ذلك ما حرمه الله .لعرائه عن اسمه عند إزهاق روحه ؛ لأنه مأخوذ عن غير الله ، وما أخذ عن غير الله كان أكله فسقا وكفرا لأنه تناول الروح من يد من لا يملكها ؛ ولذلك فرضت التسمية في التذكية ونفلت فيما سوى ذلك ، فلا تصح قراءة هذا الحرف إلا بتبصرة القلب فيه وروعة النفس منه وورع اليد عنه ، وإلا فهو من الذين يقرؤون حروفه ويضيعون حدوده ، الذين قال فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (كثر هؤلاء من القراء - لا كثرهم الله - !) ومن لم تصح له قراءة هذا الحرف لم تصح له قراءة حرف سواه [ ص: 308 ] ولا تصح له عبادة وهو الذي لا يزيده صلاته من الله إلا بعدا ولا يقبل منه دعاؤه (الرجل يطلب الله مطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام ، يقول : يا رب! يا رب! فأنى يستجاب لذلك! ) فهذه قراءة هذا الحرف وشرطه - والله ولي التوفيق .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية