الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 439 ] إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: إلا تنصروه أي: بالنفير معه فقد نصره الله إعانة على أعدائه; إذ أخرجه الذين كفروا حين قصدوا إهلاكه على ما شرحنا في قوله: وإذ يمكر بك الذين كفروا [الأنفال:30] فأعلمهم أن نصره ليس بهم .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: ثاني اثنين العرب تقول: هو ثاني اثنين ، أي: أحد الاثنين ، وثالث ثلاثة ، أي: أحد الثلاثة ، قال الزجاج : وقوله: ثاني اثنين منصوب على الحال; المعنى: قد نصره الله أحد اثنين ، أي: نصره منفردا إلا من أبي بكر .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا معنى قول الشعبي: عاتب الله أهل الأرض جميعا في هذه الآية غير أبي بكر .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن جرير: المعنى: أخرجوه وهو أحد الاثنين ، وهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر . فأما الغار ، فهو ثقب في الجبل ، وقال ابن فارس: الغار: الكهف ، والغار: نبت طيب الريح ، والغار: الجماعة من الناس ، والغاران: البطن والفرج ، وهما الأجوفان ، يقال: إنما هو عبد غاريه . قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      ألم تر أن الدهر يوم وليلة وأن الفتى يسعى لغاريه دائبا



                                                                                                                                                                                                                                      قال قتادة: وهذا الغار في جبل بمكة يقال له: ثور . قال مجاهد: مكثا فيه ثلاثا . وقد ذكرت حديث الهجرة في كتاب "الحدائق" .

                                                                                                                                                                                                                                      قال أنس بن مالك: [ ص: 440 ] أمر الله عز وجل شجرة فنبتت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسترته ، وأمر العنكبوت فنسجت في وجهه ، وأمر حمامتين وحشيتين فوقعتا في فم الغار ، فلما دنوا من الغار ، عجل بعضهم لينظر ، فرأى حمامتين ، فرجع فقال: رأيت حمامتين على فم الغار ، فعلمت أنه ليس فيه أحد . وقال مقاتل: جاء القائف فنظر إلى الأقدام فقال: هذه قدم ابن أبي قحافة ، والأخرى لا أعرفها ، إلا أنها تشبه القدم التي في المقام . وصاحبه في هذه الآية أبو بكر ، وكان أبو بكر قد بكى لما مر المشركون على باب الغار ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "ما ظنك باثنين الله ثالثهما"؟

                                                                                                                                                                                                                                      وفي السكينة ثلاثة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنها الرحمة ، قاله ابن عباس . والثاني: الوقار ، قاله قتادة . والثالث: السكون والطمأنينة ، قاله ابن قتيبة ، وهو أصح .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي هاء "عليه" ثلاثة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنها ترجع إلى أبي بكر ، وهو قول علي بن أبي طالب ، وابن عباس ، وحبيب بن أبي ثابت . واحتج من نصر هذا القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مطمئنا .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنها ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله مقاتل . [ ص: 441 ] والثالث: أن الهاء هاهنا في معنى تثنية ، والتقدير: فأنزل الله سكينته عليهما ، فاكتفى بإعادة الذكر على أحدهما من إعادته عليهما ، كقوله: والله ورسوله أحق أن يرضوه [التوبة:62] ، ذكره ابن الأنباري .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وأيده أي: قواه ، يعني النبي صلى الله عليه وسلم بلا خلاف . بجنود لم تروها وهم الملائكة . ومتى كان ذلك؟ فيه قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: يوم بدر ، ويوم الأحزاب ، ويوم حنين ، قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: لما كان في الغار ، صرفت الملائكة وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته ، قاله الزجاج .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قيل: إذا وقع الاتفاق أن هاء الكناية في "أيده" ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فكيف تفارقها هاء "عليه" وهما متفقتان في نظم الكلام؟

                                                                                                                                                                                                                                      فالجواب: أن كل حرف يرد إلى الأليق به ، والسكينة إنما يحتاج إليها المنزعج ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم منزعجا . فأما التأييد بالملائكة ، فلم يكن إلا للنبي صلى الله عليه وسلم ونظير هذا قوله: لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه [الفتح:8] يعني النبي صلى الله عليه وسلم (وتسبحوه) يعني الله عز وجل .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وجعل كلمة الذين كفروا السفلى فيها قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أن كلمة الكافرين الشرك ، جعلها الله السفلى لأنها مقهورة ، وكلمة الله وهي التوحيد ، هي العليا ، لأنها ظهرت ، هذا قول الأكثرين .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن كلمة الكافرين ما قدروا بينهم في الكيد به ليقتلوه ، وكلمة الله أنه ناصره ، رواه عطاء عن ابن عباس . وقرأ ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، وقتادة ، والضحاك ، ويعقوب: "وكلمة الله" بالنصب .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 442 ] قوله تعالى: والله عزيز أي: في انتقامه من الكافرين (حكيم) في تدبيره .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية