الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 452 ] قوله تعالى : " أولم يروا " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : " أولم يروا " بالياء ، وقرأ حمزة ، والكسائي : " تروا " بالتاء ، واختلف عن عاصم .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " إلى ما خلق الله من شيء " أراد من شيء له ظل ، من جبل ، أو شجر ، أو جسم قائم " يتفيأ " قرأ الجماعة بالياء ، وقرأ أبو عمرو ، ويعقوب بالتاء " ظلاله " وهو جمع ظل ، وإنما جمع وهو مضاف إلى واحد ، لأنه واحد يراد به الكثرة ، كقوله تعالى : "لتستووا على ظهوره " [الزخرف :13] . قال ابن قتيبة : ومعنى يتفيأ ظلاله : يدور ويرجع من جانب إلى جانب ، والفيء : الرجوع ، ومنه قيل للظل بالعشي : فيء ، لأنه فاء عن المغرب إلى المشرق . قال المفسرون : إذا طلعت الشمس وأنت متوجه إلى القبلة ، كان الظل قدامك ، فإذا ارتفعت كان عن يمينك ، فإذا كان بعد ذلك كان خلفك ، وإذا دنت للغروب كان على يسارك ، وإنما وحد اليمين ، والمراد به : الجمع ، إيجازا في اللفظ ، كقوله تعالى : ويولون الدبر [القمر :45] ، ودلت " الشمائل " على أن المراد به الجميع ، وقال الفراء : إنما وحد اليمين ، وجمع الشمائل ، ولم يقل الشمال ، لأن كل ذلك جائز في اللغة ، وأنشد :


                                                                                                                                                                                                                                      الواردون وتيم في ذرى سبإ قد عض أعناقهم جلد الجواميس



                                                                                                                                                                                                                                      ولم يقل : جلود ، ومثله :


                                                                                                                                                                                                                                      كلوا في نصف بطنكم تعيشوا     فإن زمانكم زمن خميص



                                                                                                                                                                                                                                      وإنما جاز التوحيد ، لأن أكثر الكلام يواجه به الواحد .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 453 ] وقال غيره : اليمين راجعة إلى لفظ ما ، وهو واحد ، والشمائل راجعة إلى المعنى .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " سجدا لله " قال ابن قتيبة : مستسلمة ، منقادة ، وقد شرحنا هذا المعنى عند قوله تعالى : وظلالهم بالغدو والآصال [الرعد :15] .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قوله تعالى : " وهم داخرون " قولان :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: والكفار صاغرون .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : وهذه الأشياء داخرة مجبولة على الطاعة . قال الأخفش : إنما ذكر من ليس من الإنس ، لأنه لما وصفهم بالطاعة أشبهوا الإنس في الفعل .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " ولله يسجد ما في السماوات . . . . " الآية . الساجدون على ضربين :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : من يعقل ، فسجوده عبادة .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : من لا يعقل ، فسجوده بيان أثر الصنعة فيه ، والخضوع الذي يدل على أنه مخلوق ، هذا قول جماعة من العلماء ، واحتجوا في ذلك بقول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      بجيش تضل البلق في حجراته     ترى الأكم فيه سجدا للحوافر



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 454 ] قال ابن قتيبة : حجراته ، أي : جوانبه ، يريد أن حوافر الخيل قد قلعت الأكم ووطئتها حتى خشعت وانخفضت . فأما الشمس والقمر والنجوم ، فألحقها جماعة بمن يعقل ، فقال أبو العالية : سجودها حقيقة ، ما منها غارب إلا خر ساجدا بين يدي الله عز وجل ، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له ، ويشهد لقول أبي العالية ، حديث أبي ذر قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد حين وجبت الشمس ، فقال : " يا أبا ذر ! تدري أين ذهبت الشمس " قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : " فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربها عز وجل ، فتستأذن في الرجوع ، فيؤذن لها ، فكأنها قد قيل لها : ارجعي من حيث جئت ، فترجع إلى مطلعها فذلك مستقرها ، ثم قرأ : والشمس تجري لمستقر لها [يس :38] " . أخرجه البخاري ومسلم . وأما النبات والشجر ، فلا يخلو سجوده من أربعة أشياء :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها : أن يكون سجودا لا نعلمه ، وهذا إذا قلنا : إن الله يودعه فهما . والثاني : أنه تفيؤ ظلاله . والثالث : بيان الصنعة فيه . والرابع : الانقياد لما سخر له .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " والملائكة " إنما أخرج الملائكة من الدواب ، لخروجهم بالأجنحة عن صفة الدبيب .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قوله : " وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون " قولان :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : أنه من صفة الملائكة خاصة ، قاله ابن السائب ، ومقاتل .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أنه عام في جميع المذكورات ، قاله أبو سليمان الدمشقي .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 455 ] وفي قوله : " من فوقهم " قولان ذكرهما ابن الأنباري .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : أنه ثناء على الله تعالى ، وتعظيم لشأنه ، وتلخيصه : يخافون ربهم عاليا رفيعا عظيما .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أنه حال ، وتلخيصه : يخافون ربهم معظمين له عالمين بعظيم سلطانه .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية