الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون [ ص: 235 ] قوله تعالى: قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم وقرأ عاصم: ( أسوة ) بضم الألف، وهما لغتان، أي: اقتداء حسن به وبمن معه . وفيهم قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنهم الأنبياء .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: المؤمنون إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم قال الفراء: تقول أفلا تأسيت يا حاطب بإبراهيم وقومه فتبرأت من أهلك كما تبرؤوا من قومهم

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى إلا قول إبراهيم لأبيه قال المفسرون: والمعنى: تأسوا بإبراهيم إلا في استغفار إبراهيم لأبيه فلا تأسوا به في ذلك، فإنه كان عن موعدة وعدها إياه وما أملك لك من الله من شيء أي: ما أدفع عنك عذاب الله إن أشركت به، وكان من دعاء إبراهيم وأصحابه: ربنا عليك توكلنا إلى قوله تعالى: العزيز الحكيم قال الفراء: قولوا أنتم: ربنا عليك توكلنا . وقد بينا معنى قوله تعالى: لا تجعلنا فتنة للذين كفروا في [يونس] [آية: 85] .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أعاد الكلام في ذكر الأسوة فقال تعالى: لقد كان لكم فيهم أي: في إبراهيم ومن معه، وذلك أنهم كانوا يبغضون من خالف الله . وقوله تعالى: لمن كان يرجو الله بدل من قوله تعالى: لكم وبيان أن هذه الأسوة لمن يخاف الله، ويخشى عقاب الآخرة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى ومن يتول أي: يعرض عن الإيمان ويوال الكفار فإن الله هو الغني عن خلقه "الحميد" إلى أوليائه . فلما أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار عادوا أقرباءهم، فأنزل الله تعالى: عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم أي: من كفار مكة "مودة" ففعل ذلك، بأن أسلم كثير منهم يوم الفتح، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان، فانكسر أبو سفيان [ ص: 236 ] عن كثير مما كان عليه حتى هداه الله للإسلام والله قدير على جعل المودة والله غفور لهم رحيم بهم بعدما أسلموا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنها في أسماء بنت أبي بكر، وذلك أن أمها قتيلة بنت عبد العزى . قدمت عليها المدينة بهدايا، فلم تقبل هداياها، ولم تدخلها منزلها، فسألت لها عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تدخلها منزلها ، وتقبل هديتها، وتكرمها، وتحسن إليها، قاله عبد الله بن الزبير . والثاني: أنها نزلت في خزاعة وبني مدلج، وكانوا صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه، ولا يعينوا عليه أحدا، قاله ابن عباس . وروي عن الحسن [ ص: 237 ] البصري أنها نزلت في خزاعة، وبني الحارث بن عبد مناف، وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فداموا على الوفاء به .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: نزلت في قوم من بني هاشم منهم العباس، قاله عطية العوفي ومرة . والرابع: أنها عامة في جميع الكفار، وهي منسوخة بقوله تعالى: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [التوبة: 5]، قاله قتادة .

                                                                                                                                                                                                                                      والخامس: نزلت في النساء والصبيان، حكاه الزجاج .

                                                                                                                                                                                                                                      قال المفسرون: وهذه الآية رخصة في صلة الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين، وجواز برهم، وإن كانت الموالاة منقطعة منهم .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: ولم يخرجوكم من دياركم أي: من مكة أن تبروهم وتقسطوا إليهم أي: تعاملوهم بالعدل فيما بينكم وبينهم .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وظاهروا على إخراجكم أي: عاونوا على ذلك أن تولوهم والمعنى: إنما ينهاكم عن أن تولوا هؤلاء، لأن مكاتبتهم بإظهار ما أسره رسول الله صلى الله عليه وسلم موالاة . وذكر بعض المفسرين أن معنى الآية والتي قبلها منسوخ بآية السيف . قال ابن جرير: لا وجه لادعاء النسخ، لأن بر المؤمنين للمحاربين سواء كانوا قرابة أو غير قرابة، غير محرم إذا لم يكن في ذلك تقوية لهم على الحرب بكراع أو سلاح، أو دلالة لهم على عورة أهل الإسلام . ويدل على ذلك حديث أسماء وأمها الذي سبق .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية