الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: ولا تطرد الذين يدعون ربهم روى سعد بن أبي وقاص قال: نزلت هذه الآية في ستة: في ، وفي ابن مسعود ، وصهيب ، وعمار ، والمقداد ، وبلال ، قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا نرضى أن نكون أتباعا لهؤلاء ، فاطردهم عنك . فدخل على رسول الله من ذلك ما شاء الله أن يدخل ، فنزلت هذه الآية

                                                                                                                                                                                                                                      وقال خباب بن الأرت: نزلت فينا ، كنا ضعفاء عند النبي صلى الله عليه وسلم ، يعلمنا بالغداة والعشي ما ينفعنا ، فجاء الأقرع بن حابس ، وعيينة بن حصن ، فقالا: إنا من أشراف قومنا ، وإنا نكره أن يرونا معهم ، فاطردهم إذا جالسناك . قال: "نعم" .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 45 ] فقالوا: لا نرضى حتى تكتب بيننا كتابا ، فأتى بأديم ودواة ، ودعا عليا ليكتب ، فلما أراد ذلك ، ونحن قعود في ناحية ، إذ نزل جبريل بقوله تعالى: ولا تطرد الذين يدعون ربهم إلى قوله: فتنا بعضهم ببعض ، فرمى بالصحيفة ودعانا ، فأتيناه وهو يقول: سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة . فدنونا منه يومئذ حتى وضعنا ركبنا على ركبته .
                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن مسعود: مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده خباب ، وصهيب ، وبلال ، وعمار ، فقالوا: يا محمد ، رضيت بهؤلاء ، أتريد أن نكون تبعا لهم؟ فنزلت: ولا تطرد الذين يدعون ربهم . وقال عكرمة: جاء عتبة ، وشيبة ابنا ربيعة ، ومطعم بن عدي ، والحارث بن نوفل ، في أشراف بني عبد مناف ، إلى أبي طالب فقالوا: لو أن ابن أخيك يطرد عنه موالينا وعبيدنا كان أعظم في صدورنا ، وأدنى لاتباعنا إياه ، فأتاه أبو طالب فحدثه بذلك ، فقال عمر بن الخطاب: لو فعلت ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون ، فنزلت هذه الآيات ، فأقبل عمر يعتذر من مقالته . وروى أبو صالح عن ابن عباس: أن هذه الآيات نزلت في الموالي ، منهم بلال ، وصهيب ، وخباب ، وعمار ، ومهجع ، وسلمان ، وعامر بن فهيرة ، وسالم مولى أبي حذيفة; وأن قوله: وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم نزلت فيهم أيضا . وقد روى العوفي عن ابن عباس: أن ناسا من [ ص: 46 ] الأشراف قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: نؤمن لك ، وإذا صلينا فأخر هؤلاء الذين معك ، فليصلوا خلفنا . فعلى هذا ، إنما سألوه تأخيرهم عن الصف ، وعلى الأقوال التي قبله ، سألوه طردهم عن مجلسه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: يدعون ربهم في هذا الدعاء خمسة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنه الصلاة ، المكتوبة قاله ابن عمر ، وابن عباس . وقال مجاهد: هي الصلوات الخمس; وفي رواية عن مجاهد ، وقتادة قالا: يعني صلاة الصبح والعصر . وزعم مقاتل أن الصلاة يومئذ كانت ركعتين بالغداة ، وركعتين بالعشي; ثم فرضت الصلوات الخمس بعد ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه ذكر الله تعالى ، قاله إبراهيم النخعي ، وعنه كالقول الأول .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: أنه عبادة الله ، قاله الضحاك .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع: أنه تعلم القرآن غدوة وعشية ، قاله أبو جعفر .

                                                                                                                                                                                                                                      والخامس: أنه دعاء الله بالتوحيد ، والإخلاص له ، وعبادته ، قاله الزجاج . وقرأ الجمهور: "بالغداة" وقرأ ابن عامر هاهنا وفي [الكهف] أيضا: "بالغدوة" بضم الغين وإسكان الدال وبعدها واو .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الفراء: والعرب لا تدخل الألف واللام على "الغدوة" لأنها معرفة بغير ألف ولام ، ولا تضيفها العرب ، يقولون: أتيتك غداة الخميس ، ولا يقولون: غدوة الخميس ، فهذا دليل على أنها معرفة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو علي: الوجه: الغداة ، لأنها تستعمل نكرة ، وتتعرف باللام; وأما غدوة ، فمعرفة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الخليل: يجوز أن تقول: أتيتك اليوم غدوة وبكرة ، فجعلها بمنزلة ضحوة ، فهذا وجه قراءة ابن عامر . [ ص: 47 ] فإن قيل: دعاء القوم كان متصلا بالليل والنهار ، فلماذا خص الغداة والعشي؟ فالجواب: أنه نبه بالغداة على جميع النهار ، وبالعشي على الليل ، لأنه إذا كان عمل النهار خالصا له ، كان عمل الليل أصفى .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: يريدون وجهه قال الزجاج : أي يريدون الله ، فيشهد الله لهم بصحة النيات ، وأنهم مخلصون في ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الحساب المذكور في الآية ، ففيه ثلاثة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنه حساب الأعمال ، قاله الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: حساب الأرزاق . والثالث: أنه بمعنى الكفاية; والمعنى: ما عليك من كفايتهم ، ولا عليهم كفايتك .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: فتكون من الظالمين قال ابن الأنباري: عظم هذا الأمر على النبي صلى الله عليه وسلم ، وخوف بالدخول في جملة الظالمين ، لأنه كان قد هم بتقديم الرؤساء على الضعفاء .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية