الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى :

                                                                                                                                                                                                                                      [29 - 31] ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أي : بعد الذبح : ليقضوا تفثهم أي : ليؤدوا إزالة وسخهم من الإحرام ، بالحلق والتقصير وقص الأظفار ولبس الثياب : وليوفوا نذورهم أي : ما ينذرونه من أعمال البر في حجهم : وليطوفوا بالبيت العتيق أي : طواف الإفاضة . وهو طواف الزيارة الذي هو من أركان الحج . ويقع به تمام التحلل . والعتيق : (القديم ) . لأنه أول بيت وضع للناس . أو المعتق من تسلط الجبابرة : ذلك خبر محذوف . أي : الأمر ذلك . وهو وأمثاله من أسماء الإشارة ، تطلق للفصل بين الكلامين ، أو بين وجهي كلام واحد .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشهاب : والمشهور في الفصل (هذا ) كقوله : هذا وإن للطاغين لشر مآب [ ص: 4338 ] واختيار (ذلك ) هنا لدلالته على تعظيم الأمر وبعد منزلته . وهو من الاقتضاب القريب من التخلص ، لملاءمة ما بعده لما قبله ، كما هنا : ومن يعظم حرمات الله أي : أحكامه . أو الحرم وما يتعلق بالحج من المناسك . و(الحرمات ) جمع حرمة وهو ما لا يحل هتكه ، بل يحترم شرعا : فهو خير له عند ربه أي : ثوابا . و(خير ) اسم تفضيل حذف متعلقه . أي : من غيره ، أو ليس المراد به التفضيل فلا يحتاج لتقديره ، قاله الشهاب . والثاني هو الأظهر ، لأنه أسلوب التنزيل في موضع لا يظهر التفاضل فيها . وإيثاره ، مع ذلك ، لرقة لفظه ، وجمعه بين الحسن والروعة : وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم أي : آية تحريمه . وذلك قوله في سورة المائدة : حرمت عليكم الميتة والدم والمعنى : أن الله قد أحل لكم الأنعام كلها ، إلا ما استثناه في كتابه . فحافظوا على حدوده . وإياكم أن تحرموا مما أحل لكم شيئا . كتحريم عبدة الأوثان البحيرة والسائبة وغير ذلك . وأن تحلوا مما حرم الله . كإحلالهم أكل الموقوذة والميتة وغير ذلك . أفاده الزمخشري .

                                                                                                                                                                                                                                      فاجتنبوا الرجس من الأوثان تفريع على ما سبق من تعظيم حرماته تعالى . فإن ترك الشرك واجتناب الأوثان من أعظم المحافظة على حدوده تعالى . و(من ) بيانية . أي : فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان ، كما تجتنب الأنجاس . وهو غاية المبالغة في النهي عن تعظيمها والتنفير عن عبادتها . قال الزمخشري : سمى الأوثان رجسا وكذلك الخمر والميسر والأزلام ، على طريق التشبيه . يعني أنكم ، كما تنفرون بطباعكم عن الرجس وتجتنبونه ، فعليكم أن تنفروا عن هذه الأشياء مثل تلك النفرة . ونبه على هذا المعنى بقوله : رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه جعل العلة في اجتنابه أنه رجس ، والرجس مجتنب . وقوله تعالى : واجتنبوا قول الزور تعميم بعد تخصيص . فإن عبادة الأوثان رأس الزور . كأنه لما حث على تعظيم الحرمات ، أتبعه ذلك ، ردا لما كانت الكفرة عليه من تحريم البحائر والسوائب . وتعظيم الأوثان والافتراء على الله تعالى بأنه حكم بذلك ، [ ص: 4339 ] وإعلاما بأن توحيد الله ونفي الشركاء عنه ، وصدق القول ، أعظم الحرمات وأسبقها خطوا : حنفاء لله مخلصين له الدين ، منحرفين عن الباطل إلى الحق : غير مشركين به أي : شيئا من الأشياء . ثم ضرب للمشرك مثلا في ضلاله وهلاكه وبعده عن الهدى ، فقال تعالى : ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أي : سقط منها فقطعته الطيور في الهواء : أو تهوي به الريح أي : تقدمه : في مكان سحيق أي : بعيد مهلك لمن هوى فيه . و(أو ) للتخيير أو التنويع . قال الزمخشري : يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق . فإن كان تشبيها مركبا ، فكأنه قال : من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده نهاية . بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير ، فتفرق مزعا في حواصلها . أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة . وإن كان مفرقا ، فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء ، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله ، بالساقط من السماء . والأهواء التي تتوزع أفكاره ، بالطير المختطفة . والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة ، بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة . فكتب الناصر عليه : أما على تقدير أن يكون مفرقا فيحتاج تأويل تشبيه المشرك بالهاوي من السماء ، إلى التنبيه على أحد أمرين : إما أن يكون الإشراك المراد ردته ، فإنه حينئذ كمن علا إلى السماء بإيمانه ثم هبط بارتداده وإما أن يكون الإشراك أصليا ، فيكون قد عد تمكن المشرك من الإيمان ومن العلو به ثم عدوله عنه اختيارا ، بمنزلة من علا إلى السماء ثم هبط كما قال تعالى : والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات فعدهم مخرجين من النور وما دخلوه قط ، ولكن كانوا متمكنين منه . وفي تقريره تشبيه الأفكار المتوزعة للكافر ، بالطير المختطفة ، وفي تشبيه تطويح الشيطان بالهوي مع الريح في مكان سحيق - نظر . لأن الأمرين ذكرا في سياق تقسيم حال الكافر إلى قسمين . فإذا جعل الأول مثلا لاختلاف الأهواء [ ص: 4340 ] والأفكار ، والثاني مثلا لنزغ الشيطان فقد جعلهما شيئا واحدا . لأن توزع الأفكار واختلاف الأهواء ، مضاف إلى نزغ الشيطان ، فلا يتحقق التقسيم المقصود . والذي يظهر في تقرير التشبيهين غير ذلك . فنقول : لما انقسمت حال الكفر إلى قسمين لا مزيد عليهما ، الأول منهما : المتذبذب والمتمادي على الشك وعدم التصميم على ضلالة واحدة . فهذا القسم من المشركين مشبه بمن اختطفته الطير وتوزعته ، فلا يستولي طائر على مزعة منه إلا انتهبها منه آخر ، وذلك حال المذبذب . لا يلوح له خيال إلا اتبعه ونزل عما كان عليه . والثاني : مشرك مصمم على معتقد باطل . لو نشر بالمنشار لم يكع ولم يرجع . لا سبيل إلى تشكيكه ، ولا مطمع في نقله عما هو عليه ، فهو فرح مبتهج بضلالته .

                                                                                                                                                                                                                                      فهذا مشبه في إقراره على كفره ، باستقرار من هوت به الريح إلى واد سافل فاستقر فيه . ويظهر تشبيه بالاستقرار في الوادي السحيق ، الذي هو أبعد الأحباء عن السماء ، وصف ضلاله بالبعد في قوله تعالى : أولئك في ضلال بعيد و : ضلوا ضلالا بعيدا أي : صمموا على ضلالهم فبعد رجوعهم إلى الحق فهذا تحقيق القسمين والله أعلم . انتهى كلامه .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يخفى أن في النظم الكريم مساغا له . إلا أنه لا قاطع به . نعم ، هو من بديع الاستنباط ، ورقيق الاستخراج . فرحم الله ناسخه .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن كثير : وقد ضرب تعالى للمشركين مثلا آخر في سورة الأنعام . وهو قوله تعالى : قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية