الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال ابن تيمية رحمه الله وكما عظم الله الفاحشة ، عظم ذكرها بالباطل - وهو القذف . فقال بعد ذلك : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم [ ص: 4479 ] ثمانين جلدة الآية . ثم ذكر رمي الرجل امرأته وما أمر فيه من التلاعن . ثم ذكر قصة أهل الإفك وبين ما في ذلك من الخير للمقذوف ، وما فيه من الإثم للقاذف ، وما يجب على المؤمنين إذا سمعوا ذلك أن يظنوا بإخوانهم من المؤمنين الخير ، ويقولون : هذا إفك مبين . لأن دليله كذب ظاهر . ثم أخبر أنه قول بلا حجة فقال : لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ثم أخبر أنه لولا فضله عليهم ورحمته لعذبهم بما تكلموا به . وقوله : إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم فهذا بيان لسبب العذاب . وهو تلقي الباطل بالألسنة ، والقول بالأفواه . وهما نوعان محرمان : القول بالباطل والقول بلا علم . ثم قال سبحانه : ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم

                                                                                                                                                                                                                                      فالأول تحضيض على الظن الحسن ، وهذا نهي لهم عن التكلم بالقذف . ففي الأول قوله : اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم وقوله صلى الله عليه وسلم : « إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث » وقوله : ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا دليل على حسن مثل هذا الظن الذي أمر الله به .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الصحيح قوله لعائشة : « ما أظن فلانا وفلانا يعرفان من ديننا شيئا » ؟ فهذا يقتضي جواز بعض الظن ، كما احتج البخاري بذلك ، لكن مع العلم بما عليه المرء المسلم من الإيمان الرادع له عن فعل الفاحشة ، يجب أن يظن به الخير دون الشر . وفي الآية نهي عن تلقي مثل هذا باللسان ، ونهي عن قول الإنسان ما ليس له به علم ، لقوله تعالى : ولا تقف [ ص: 4480 ] ما ليس لك به علم والله جعل في فعل الفاحشة والقذف من العقوبة ، ما لم يجعله في شيء من المعاصي . لأنه جعل فيه الرجم وقد رجم قوم لوط إذ كانوا هم أول من فعل فاحشة اللواط . وجعل العقوبة على القاذف بها ثمانين جلدة ، والرمي بغيرها فيه الاجتهاد . ويجوز عند بعض العلماء أن يبلغ الثمانين ، كما قال علي : لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري . وكما قال عبد الرحمن بن عوف : إذا شرب هذى وإذا هذى افترى . وحد الشرب ثمانون ، وحد المفتري ثمانون .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى : إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة وهذا ذم لمن يحب ذلك . وذلك يكون باللقب فقط ، ويكون مع ذلك باللسان والجوارح . وهو ذم لمن يتكلم بها أو يخبر بها . محبة لوقوعها في المؤمنين ، إما حسدا أو بغضا ، أو محبة للفاحشة . فكل من أحب فعلها ، ذكرها .

                                                                                                                                                                                                                                      وكره العلماء الغزل من الشعر الذي يرغب فيها . وكذلك ذكرها غيبة محرم ، سواء كان بنظم أو نثر . وكذلك التشبيه بمن يفعلها ، منهي عنها مثل الأمر بها . فإن الفعل يطلب بالأمر تارة وبالإخبار تارة . فهذان الأمران للفجرة الزناة واللوطية ، مثل ذكر قصص الأنبياء والصالحين للمؤمنين . أولئك يعتبرون من الغيرة بهم ، وهؤلاء من الاغترار يعتبرون . فإن أهل الكفر والفسوق والعصيان يذكرون من قصص أشباههم ما يكون به لهم فيه قدوة .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ذلك قوله تعالى : ومن الناس من يشتري لهو الحديث الآية . قيل : أراد الغناء . وقيل : أراد قصص ملوك الكفار . وبالجملة كل ما رغب النفوس في الطاعة ونهاها عن المعصية ، فهو من الطاعة . وما رغب في المعصية ونهى عن الطاعة ، فهو من المعصية ، فأما ذكر الفاحشة وأهلها بما يجب أو يستحب في الشريعة ، مثل النهي عنها وعنهم ، والذم لها ولهم وذكر أهلها مطلقا حيث يسوغ ذلك في وجوههم ومغيبهم - فهذا حسن يجب تارة ويستحب أخرى . كما قص الله قصص المؤمنين والفجار ليعتبروا بالأمرين .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد ذكر الله [ ص: 4481 ] عن أنبيائه وعباده الصالحين ، من ذكر الفاحشة وعلائقها على وجه الذم ما فيه عبرة . فقال تعالى : ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة إلخ . في مواضع ، وهذا فيه من التوبيخ ما فيه ، وليس من باب القذف واللمز . ثم توعدوه بإخراجه من القرية . وهذا حال أهل الفجور ، إذا كان بينهم من ينهاهم طلبوا إخراجه . وقد عاقب الله على الفاحشة اللوطية بما أرادوا أن يقصدوا به أهل التقوى . حيث أمر بنفي الزاني والمخنث . فمضت السنة ، بنفي هذا وهذا . وهو سبحانه وتعالى أخرج المتقين من بينهم عند نزول العذاب . وكذلك ما ذكره تعالى في قصة يوسف في قوله : وراودته التي هو في بيتها عن نفسه إلى قوله : فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم وما ذكره بعده من قول يوسف : ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن وهذا من باب الاعتبار الذي يوجب النفور عن المعصية والتمسك بالتقوى . وكذلك ما بينه في آخرها بقوله تعالى : لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب الآية ، ومع هذا ، فمن الناس من يحب سماعها لما فيه من ذكر العشق وما يتعلق به ، لمحبته لذلك ولرغبته في الفاحشة ، حتى إن منهم من يسمعها النساء لمحبتهم للسوء ، ولا يختارون أن يسمعوا ما في سورة النور من العقوبة والنهي عن ذلك . حتى قال بعض السلف : كل ما حصلته من سورة يوسف أنفقته في سورة النور . وقد قال تعالى : وننـزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا وقال : وإذا ما أنـزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا الآيات . فكل أحد يحب سماع ذلك لتحريك المحبة المذمومة ، ويبغض سماع ذلك إعراضا عن دفع هذه المحبة ، فهو مذموم ومن هذا ذكر أحوال الكفار والفجار وغير ذلك مما فيه ترغيب في المعصية وصد عن سبيل الله ، ومنه سماع كلام أهل البدع ، والنظر [ ص: 4482 ] في كتبهم لمن يضره ذلك ، فهذا الباب تجتمع فيه الشبهات والشهوات . والله تعالى ذم هؤلاء في مثل قوله :يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا وقوله : والشعراء يتبعهم الغاوون وقوله : هل أنبئكم على من تنـزل الشياطين وما بعدها ، وقوله : ومن الناس من يشتري لهو الحديث وقوله : مستكبرين به سامرا تهجرون وقوله : وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا وقوله : وإن تطع أكثر من في الأرض ومثل هذا في القرآن كثير ، فأهل المعاصي كثير في العالم ، بل هم أكثر ، كما قال تعالى : وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله الآية ، وفي النفوس من الشبهات المذمومة والشهوات قولا وعملا ما يعلمه إلا الله ، وأهلها يدعون الناس إليها ويقهرون من يعصيهم ، ويزينونها لمن يطيعهم . فهم أعداء الرسل وأندادهم . فالرسل يدعون إلى الطاعة بالرغبة والرهبة . ويجاهدونهم عليها . وينهون عن المعاصي ويحذرون منها بالرغبة والرهبة . ويجاهدون من يفعلها . قال تعالى : المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف الآية ، ثم قال : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر الآية ، وقوله تعالى : الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت ومثل هذا في القرآن كثير والله سبحانه قد أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . والأمر بالشيء مسبوق بمعرفته ، فمن لا يعلم المعروف لا يمكنه الأمر بالمعروف . والنهي عن المنكر مسبوق بمعرفته ، فمن لا يعلمه لا يمكنه النهي عنه .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية