الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      [ 26 ] يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب .

                                                                                                                                                                                                                                      يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض أي: استخلفناك على الملك في الأرض [ ص: 5095 ] كمن يستخلفه بعض السلاطين على بعض البلاد ويملكه عليها، ومنه قولهم: خلفاء الله في أرضه: فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى أي: هوى النفس، من الميل إلى مال، أو جاه، أو قريب، أو صاحب: فيضلك عن سبيل الله أي: صراطه الموصل إلى الكمالات، كحفظ المملكة، والنصر على الأعداء، والنجاة في الآخرة ورفع الدرجات فيها: إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب أي: بسبب نسيانهم، وهو ضلالهم عن السبيل، فإن تذكره يقتضي ملازمة الحق، ومخالفة الهوى.

                                                                                                                                                                                                                                      تنبيه:

                                                                                                                                                                                                                                      في الآية بيان وجوب الحكم بالحق، وأن لا يميل إلى أحد الخصمين لقرابة، أو رجاء، أو سبب يقتضي الميل، واستدل بها بعضهم على احتياج الأرض إلى خليفة من الله. كذا في (" الإكليل"). وقال ابن كثير : هذه وصية من الله عز وجل لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده تبارك وتعالى، ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيل الله، وقد توعد تبارك وتعالى من ضل عن سبيله وتناسى يوم الحساب، بالوعيد الأكيد، والعذاب الشديد.

                                                                                                                                                                                                                                      روى ابن أبي حاتم عن أبي زرعة ، أن الوليد بن عبد الملك قال له: أيحاسب الخليفة، فإنك قد قرأت الكتاب الأول وقرأت القرآن وفقهت؟ فقلت: يا أمير المؤمنين؟ أقول؟ قال: قل في أمان. قلت: يا أمير المؤمنين ! أنت أكرم على الله أو داود عليه الصلاة والسلام؟ إن الله تعالى جمع له النبوة والخلافة . ثم توعده في كتابه قال تعالى: يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الرازي : اعلم أن الإنسان خلق مدنيا بالطبع; لأن الإنسان الواحد لا تنتظم مصالحه إلا عند وجود مدينة تامة، حتى هذا يحرث، وذاك يطحن، وذلك يخبز، وذلك ينسج والآخر يخيط. وبالجملة، فيكون كل واحد منهم مشغولا بمهم، وينتظم من أعمال الجميع [ ص: 5096 ] مصالح الجميع. فثبت أن الإنسان مدني بالطبع. وعند اجتماعهم في الموضع الواحد يحصل بينهم منازعات ومخاصمات، ولا بد من إنسان قادر قاهر يقطع تلك الخصومات، ويفصل تلك الحكومات. وذلك هو السلطان الذي ينفذ حكمه على الكل.

                                                                                                                                                                                                                                      فثبت أنه لا تنتظم مصالح الخلق إلا بسلطان قاهر سائس، ثم إن ذلك السلطان القاهر السائس، إن كان حكمه على وفق هواه ولطلب مصالح دنياه، عظم ضرره على الخلق، فإنه يجعل الرعية فداء لنفسه، ويتوسل بهم إلى تحصيل مقاصد نفسه، وذلك يفضي إلى تخريب العالم، ووقوع الهرج، والمرج في الخلق. وذلك يفضي بالآخرة إلى هلاك ذلك الملك.

                                                                                                                                                                                                                                      أما إذا كانت أحكام ذلك الملك مطابقة للشريعة الحقة الإلهية ، انتظمت مصالح العالم، واتسعت أبواب الخيرات على أحسن الوجوه. فهذا هو المراد من قوله: فاحكم بين الناس بالحق يعني لا بد من حاكم بين الناس بالحق ، فكن أنت ذلك. ثم قال: ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله الآية، وتفسيره أن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله ، والضلال عن سبيل الله يوجب سوء العذاب. فينتج أن متابعة الهوى توجب سوء العذاب. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية