الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      [25 - 27] قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا

                                                                                                                                                                                                                                      قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا أي: غاية تطول مدتها.

                                                                                                                                                                                                                                      عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا أي: حرسا من الملائكة يحفظونه من تخاليط الشياطين ووساوسهم، حتى يبلغ ما أمر به من غيبه ووحيه.

                                                                                                                                                                                                                                      قال القاشاني: رصدا أي: حفظة إما من جهة الله التي إليها وجهه، فروح القدس والأنوار الملكوتية والربانية. وإما من جهة البدن، فالملكات الفاضلة والهيئات النورية الحاصلة من هياكل الطاعات والعبادات، يحفظونه من تخبيط الجن، وخلط كلامهم من الوساوس والأوهام والخيالات، بمعارفها اليقينية، ومعانيها القدسية، والواردات الغيبية، والكشوف الحقيقية. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      تنبيه:

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزمخشري : يعني أنه لا يطلع على الغيب إلا المرتضى الذي هو مصطفى للنبوة خاصة، لا كل مرتضى.

                                                                                                                                                                                                                                      قال: وفي هذا إبطال للكرامات; لأن الذين تضاف إليهم، وإن كانوا أولياء مرتضين، [ ص: 5954 ] فليسوا برسل، وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب، وإبطال الكهانة والتنجيم؛ لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وأجاب أبو السعود بأن معنى الآية: فلا يطلع على غيبه اطلاعا كاملا ينكشف به جلية الحال انكشافا تاما موجبا لعين اليقين، أحدا من خلقه، إلا من ارتضى من رسول. أي: إلا رسولا ارتضاه لإظهاره على بعض غيوبه المتعلقة برسالته، كما يعرب عنه بيان من ارتضى بالرسول تعلقا تاما، إما لكونه من مبادئ رسالته بأن يكون معجزة دالة على صحتها، وإما لكونه من أركانها وأحكامها كعامة التكاليف الشرعية التي أمر بها المكلفون، وكيفيات أعمالهم، وأجزيتها المترتبة عليها في الآخرة، وما تتوقف هي عليه من أحوال الآخرة التي من جملتها قيام الساعة والبعث، وغير ذلك من الأمور الغيبية التي بيانها من وظائف الرسالة. وأما ما لا يتعلق بها على أحد الوجهين من الغيوب التي من جملتها قيام الساعة، فلا يظهر عليه أحدا أبدا، على أن بيان وقته مخل بالحكمة التشريعية التي عليها يدور فلك الرسالة، وليس فيه ما يدل على نفي كرامات الأولياء المتعلقة بالكشف; فإن اختصاص الغاية القاصية من مراتب الكشف بالرسل، لا يستلزم عدم حصول مرتبة ما من تلك المراتب لغيرهم أصلا، ولا يدعي أحد لأحد من الأولياء ما في رتبة الرسل عليهم السلام من الكشف الكامل الحاصل بالوحي الصريح. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وملخصه تقييد الغيب بما هو معجزة أو من وظائف الرسالة. وهكذا نحا النسفي في الجواب، مع بيان الفارق؛ وعبارته: أي: إلا رسولا قد ارتضاه لعلم بعض الغيب، ليكون إخباره عن الغيب معجزة له، فإنه يطلعه على غيبه ما شاء: و من رسول بيان من ارتضى والولي إذا أخبر بشيء فظهر، فهو غير جازم عليه، ولكنه أخبر بناء على رؤياه، أو بالفراسة. على أن كل كرامة للولي فهي معجزة للرسول. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الرازي: وعندي أن الآية لا دلالة فيها على شيء مما قالوه -يعني الزمخشري ومن تابعه- والذي تدل عليه أن قوله: على غيبه ليس فيه صيغة عموم، فيكفي في العمل بمقتضاه أن لا يظهر تعالى خلقه على غيب واحد من غيوبه، فنحمله على وقت وقوع القيامة، [ ص: 5955 ] فيكون المراد من الآية أنه تعالى لا يظهر هذا الغيب لأحد، فلا يبقى في الآية دلالة على أنه لا يظهر شيئا من الغيوب لأحد.

                                                                                                                                                                                                                                      قال: والذي يؤكد هذا التأويل أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية عقب قوله:

                                                                                                                                                                                                                                      إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا يعني: لا أدري وقت وقوع القيامة، ثم قال بعده: عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا أي: وقت وقوع القيامة من الغيب الذي لا يظهره الله لأحد. وبالجملة فقوله: على غيبه لفظ مفرد مضاف، فيكفي في العمل به حمله على غيب واحد. فأما العموم فليس في اللفظ دلالة عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قيل: فإذا حملتم ذلك على القيامة، فكيف قال: إلا من ارتضى من رسول مع أنه لا يظهر هذا الغيب لأحد من رسله؟

                                                                                                                                                                                                                                      قلنا: بل يظهره عند القرب من إقامة القيامة، وكيف لا وقد قال: ويوم تشقق السماء بالغمام ونـزل الملائكة تنـزيلا ولا شك أن الملائكة يعلمون في ذلك الوقت قيام القيامة، وأيضا يحتمل أن يكون هذا الاستثناء منقطعا، كأنه قال: عالم الغيب فلا يظهر على غيبه المخصوص -وهو يوم القيامة- أحدا. ثم قال بعده: لكن من ارتضى من رسول، فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه حفظة يحفظونه من شر مردة الإنس والجن; لأنه تعالى إنما ذكره هذا الكلام جوابا لسؤال من سأله عن وقت وقوع القيامة على سبيل الاستهزاء به، والاستحقار لدينه ومقالته. وملخصه تخصيص الغيب بوقت وقوع القيامة بدلالة السياق، والرسول بالملك.

                                                                                                                                                                                                                                      وناقشه في "العناية" بأن المرضي حمل الرسول على المتعارف لدلالة السباق والسياق عليه هذا، ونقل النسفي عن التأويلات ما مثاله:

                                                                                                                                                                                                                                      قال بعضهم: في هذه الآية تكذيب المنجمة، وليس كذلك، فإن فيهم من يصدق خبره، وكذلك المتطببة فإنهم يعرفون طبائع النبات، وهذا لا يعرف بالتأمل، فعلم بأنهم وقفوا على علمه من جهة رسول انقطع أثره، وبقي علمه في الخلق. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا الجواب يلجأ إليه المتفقهة زعما بأن معرفة مواقيت الكسوف، وخواص المفردات [ ص: 5956 ] مما يشمله علم الغيب. والصواب عدم شموله لمثله; لأنه مما يتيسر للناس أن يعرفوه بالنظر والاستدلال والتجربة والبحث، كالعلوم الرياضية والطبيعية والزراعية والصنائع والهيئة الفلكية.

                                                                                                                                                                                                                                      وبالجملة فكل ما يمكن للإنسان أن يصل إليه بنفسه لا يكون من الغيب في شيء; ولذا قال بعض الحكماء: لو كان من وظيفة النبي أن يبين العلوم الطبيعية والفلكية، لكان يجب أن تعطل مواهب الحس والعقل، وينزع الاستقلال من الإنسان، ويلزم بأن يتلقى كل فرد من كل شيء بالتسليم ولوجب أن يكون عدد الرسل في كل أمة كافيا لتعليم أفرادها في كل زمن ما يحتاجون إليه من أمور معاشهم ومعادهم. وإن شئت فقل: لوجب أن لا يكون الإنسان هذا النوع الذي نعرفه. نعم، إن الأنبياء ينبهون الناس بالإجمال إلى استعمال حواسهم وعقولهم في كل ما يزيد منافعهم ومعارفهم التي ترتقي بها نفوسهم، ولكن مع وصلها بالتنبيه على ما يقوي الإيمان ويزيد في العبرة، وقد أرشدنا صلى الله عليه وسلم إلى وجوب استقلالنا دونه في مسائل دنيانا في واقعة تأبير النخل إذ قال: «أنتم أعلم بأمور دنياكم» انتهى. فاحفظه؛ فإنه من المضنون به على غير أهله.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية