الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 101 ] القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      [34 ] وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين

                                                                                                                                                                                                                                      "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم" لما أنبأهم بأسماء ، وعلمهم ما لم يعلموا ، أمرهم بالسجود له ، على وجه التحية والتكرمة تعظيما له ، واعترافا بفضله ، واعتذارا عما قالوا فيه . وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى لآدم عليه السلام : فسجدوا إلا إبليس أبى أي : امتنع عن السجود "واستكبر" أي : تكبر ، وقال : أنا خير منه ، فالسين للمبالغة "وكان" في سابق علم الله أو صار "من الكافرين" .

                                                                                                                                                                                                                                      تنبيهات :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : للناس في هذا السجود أقوال : أحدها أنه تكريم لآدم ، وطاعة لله ، ولم يكن عبادة لآدم . وقيل : السجود لله ، وآدم قبلة ، أو السجود لآدم تحية ، أو السجود لآدم عبادة بأمر الله ، وفرضه عليهم . ذكر ابن الأنباري عن الفراء ، وجماعة من الأئمة : أن سجود الملائكة لآدم ، كان تحية ، ولم يكن عبادة، وكان سجود تعظيم وتسليم وتحية ، لا سجود صلاة وعبادة . قال شيخ الإسلام ابن تيمية : قال أهل العلم : السجود كان لآدم بأمر الله وفرضه . وعلى هذا إجماع كل من يسمع قوله . فإن الله تعالى قال : اسجدوا لآدم ولم يقل : إلى آدم . وكل حرف له معنى ، وفرق بين "سجدت له" ، وبين "سجدت إليه" . قال تعالى : لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن ولله يسجد [ ص: 102 ] من في السماوات والأرض أجمع المسلمون على أن السجود للأحجار ، والأشجار ، والدواب محرم ، وأما الكعبة ، فيقال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس ، ثم صلى إلى الكعبة ، ولا يقال صلى لبيت المقدس ، ولا للكعبة . والصواب أن الخضوع بالقلوب ، والاعتراف بالعبودية ، لا يصلي على الإطلاق إلا لله سبحانه . وأما السجود فشريعة من الشرائع يتبع الأمر . فلو أمرنا سبحانه أن نسجد لأحد من خلقه ، لسجدنا طاعة واتباعا لأمره . فسجود الملائكة لآدم عبادة لله ، وطاعة ، وقربة يتقربون بها إليه . وهو لآدم تشريف وتعظيم وتكريم . وسجود إخوة يوسف له تحية وسلام. ولم يأت أن آدم سجد للملائكة . بل لم يؤمر بالسجود إلا لله رب العالمين . وبالجملة ، أهل السنة قالوا : إنه سجود تعظيم وتكريم وتحية له . وقالت المعتزلة : كان آدم كالقبلة يسجد إليه ، ولم يسجدوا له . قالوا ذلك هربا من أن تكون الآية الكريمة حجة عليهم ; فإن أهل السنة قالوا : إبليس من الملائكة ، وصالح البشر أفضل من الملائكة ، واحتجوا بسجود الملائكة لآدم . وخالفت المعتزلة في ذلك وقالت : الملائكة أفضل من البشر ، وسجود الملائكة لآدم كان كالقبلة ، ويبطله ما حكى الله سبحانه عن إبليس : قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : اختلفوا في الملائكة الذين أمروا بالسجود ، فقيل : هم الذين كانوا مع إبليس في الأرض . قال تقي الدين بن تيمية : هذا القول ليس من أقوال المسلمين واليهود النصارى . وقيل : هم جميع الملائكة ، حتى جبريل وميكائيل . وهذا قول العامة من أهل العلم بالكتاب والسنة . قال ابن تيمية : ومن قال خلافه فقد رد القرآن بالكذب والبهتان ، [ ص: 103 ] لأنه سبحانه قال : فسجد الملائكة كلهم أجمعون وهذا تأكيد للعموم .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : للعلماء في إبليس ، هل كان من الملائكة أم لا ؟ قولان : أحدهما أنه كان من الملائكة . قاله ابن عباس ، وابن مسعود ، وسعيد بن المسيب ، واختاره الشيخ موفق الدين ، والشيخ أبو الحسن الأشعري ، وأئمة المالكية ، وابن جرير الطبري . قال البغوي : هذا قول أكثر المفسرين ، لأنه سبحانه أمر الملائكة بالسجود لآدم . قال تعالى : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس فلولا أنه من الملائكة ، لما توجه الأمر إليه بالسجود ، ولو لم يتوجه الأمر إليه بالسجود لم يكن عاصيا ، ولما استحق الخزي والنكال .

                                                                                                                                                                                                                                      والقول الثاني : أنه كان من الجن ، ولم يكن من الملائكة . قاله ابن عباس ، في رواية ، والحسن وقتادة ، واختاره الزمخشري ، وأبو البقاء العكبري ، والكواشي في تفسيره . لقوله تعالى : إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه فهو أصل الجن ، كما أن آدم أصل الإنس ، ولأنه خلق من نار ، والملائكة خلقوا من نور ، ولأن له ذرية ، ولا ذرية للملائكة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال في الكشاف : إنما تناوله الأمر ، وهو للملائكة خاصة ، لأن إبليس كان في صحبتهم ، وكان يعبد الله عبادتهم ، فلما أمروا بالسجود لآدم والتواضع له كرامة له كان الجني الذي معهم أجدر بأن يتواضع . والقول الأول هو الصحيح الذي عليه جمهور العلماء ، وصححه البغوي . وأجابوا عن قوله تعالى : إلا إبليس كان من الجن أي : من الملائكة الذين هم خزنة الجنة .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 104 ] قال ابن القيم : الصواب التفصيل في هذه المسألة ، وأن القولين في الحقيقة قول واحد . فإن إبليس كان مع الملائكة بصورته وليس منهم بمادته وأصله ; كان أصله من نار ، وأصل الملائكة من نور . فالنافي كونه من الملائكة ، والمثبت ، لم يتواردا على محل واحد . وكذلك قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية في الفتاوى المصرية : وقيل إن فرقة من الملائكة خلقوا من النار . سموا "جنا" ; لاستتارهم عن الأعين ، فإبليس كان منهم . الدليل على ذلك قوله تعالى : وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا وهو قولهم : الملائكة بنات الله ، ولما أخرجه الله من الملائكة جعل له ذرية.

                                                                                                                                                                                                                                      سئل الشعبي : هل لإبليس زوجة ؟ قال : ذلك عرس لم أشهده ! قال : ثم قرأت هذه الآية ، فعلمت أنه لا يكون له ذرية إلا من زوجة. فقلت : نعم . وقال قوم : ليس له ذرية ولا أولاد ، وذريته أعوانه من الشياطين .

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع : في قوله تعالى : وكان من الكافرين قولان : أحدهما أنه وقت العبادة كان منافقا ، والثاني أنه كان مؤمنا ثم كفر ، وهذا قول الأكثرين . فقيل في معنى الآية : "وكان من الكافرين" في علم الله ، أي كان عالما في الأزل أنه سيكفر . والذي عليه الأكثرون أن إبليس أول كافر بالله . أو يقال : معنى الآية أنه صار من الذين وافقوه في الكفر بعد ذلك . واختلف الناس بأي سبب كفر إبليس ، لعنه الله . فقالت الخوارج : إنما كفر بمعصية الله ، وكل معصية كفر . وهذا قول باطل بالكتاب والسنة وإجماع الأمة . وقال آخرون : كفر بترك السجود لآدم ومخالفته أمر الله . وقال آخرون : كفر لأنه خالف الأمر الشفاهي من الله ، فإن الله خاطب الملائكة وأمرهم بالسجود . ومخالفة الأمر الشفاهي أشد قبحا . وقال جمهور الناس : كفر إبليس لأنه أبى السجود واستكبر وعاند وطعن ، [ ص: 105 ] واعتقد أنه محق في تمرده ، واستدل بـ : أنا خير منه كما يأتي . فكأنه ترك السجود لآدم . تسفيها لأمر الله وحكمته . وهذا الكبر عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : « لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» كذا في كتاب الاستعاذة للإمام ابن مفلح الحنبلي رحمه الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية