الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما [127]

                                                                                                                                                                                                                                      ويستفتونك في النساء أي: ويسألونك الإفتاء في النساء، والإفتاء تبيين المبهم قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب ذكروا في (ما) وجوها: المختار منها أنها في موضع رفع بالعطف على المبتدأ، وهو لفظ الجلالة، أي: والمتلو في الكتاب يفتيكم فيهن أيضا، أو بالعطف على ضميره في: " يفتيكم " وساغ لمكان الفصل بالمفعول والجار والمجرور، وذلك المتلو في الكتاب هو قوله تعالى: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء

                                                                                                                                                                                                                                      قال الرازي : وحاصل الكلام أنهم كانوا قد سألوا عن [ ص: 1586 ] أحوال كثيرة من أحوال النساء، فما كان منها غير مبين الحكم ذكر أن الله يفتيهم فيها، وما كان منها مبين الحكم في الآيات المتقدمة ذكر أن تلك الآيات المتلوة تفتيهم فيها، وجعل دلالة الكتاب على هذا الحكم إفتاء من الكتاب، ألا ترى أنه يقال في المشهور: إن كتاب الله بين لنا هذا الحكم، وكما جاز هذا جاز أيضا أن يقال: إن كتاب الله أفتى بكذا.

                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو السعود : وإيثار صيغة المضارع للإيذان باستمرار التلاوة ودوامها، و(في الكتاب) إما متعلق بـ(يتلى) أو بمحذوف وقع حالا من المستكن فيه، أي: يتلى كائنا فيه.

                                                                                                                                                                                                                                      في يتامى النساء متعلق بـ(يتلى) أي: ما يتلى عليكم في شأنهن، وهذه الإضافة بمعنى (من) لأنها إضافة الشيء إلى جنسه، وقيل: من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي: النساء اليتامى.

                                                                                                                                                                                                                                      اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن أي: ما وجب لهن من الميراث وغيره وترغبون أن تنكحوهن روى البخاري ومسلم ، عن عائشة - رضي الله عنها – قالت في هذه الآية: هو الرجل تكون عنده اليتيمة، هو وليها ووارثها، فأشركته في ماله حتى في العذق، فيرغب أن ينكحها، ويكره أن يزوجها رجلا فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها فنزلت هذه الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      وعنها أيضا قالت: وقول الله عز وجل: [ ص: 1587 ] وترغبون أن تنكحوهن رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا ما رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا المروي عن عائشة يدل على أن الآية نزلت في المعدمة، وأن الجار المقدر مع (أن) هنا هو (عن) وقد تأولها سعيد بن جبير على المعنيين، أي: تقدير (عن) و(في) فقال نزلت في المعدمة والغنية.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الحافظ ابن حجر : والمروي عن عائشة أوضح في أن الآية الأولى - أي: التي في أول السورة - نزلت في الغنية، وهذه الآية نزلت في المعدمة.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن كثير : والمقصود أن الرجل إذا كان في حجره يتيمة يحل له تزوجها فتارة يرغب في أن يتزوجها فأمره الله أن يمهرها أسوة أمثالها من النساء، فإن لم يفعل فليعدل إلى غيرها من النساء، فقد وسع الله عز وجل - وهذا المعنى في الآية الأولى التي في أول السورة - وتارة لا يكون له فيها رغبة لدمامتها عنده - أو في نفس الأمر - فنهاه الله عز وجل أن يعضلها عن الأزواج خشية أن يشركوه في ماله الذي بينه وبينها، كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في الآية، وهي قوله: في يتامى النساء الآية: كان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبه، فإذا فعل ذلك لم يقدر أحد أن يتزوجها أبدا، فإن كانت [ ص: 1588 ] جميلة وهويها تزوجها وأكل مالها، وإن كانت دميمة منعها الرجال أبدا حتى تموت، فإذا ماتت ورثها، فحرم الله ذلك ونهى عنه.

                                                                                                                                                                                                                                      تنبيه: ما ذكرناه عن ابن جبير من حمل الآية على المعنيين، أي: أن حرف الجر المقدر مع (أن) هو (عن) و(في) وأن كلا منهما مراد منها على سبيل البدل لصلاحيتها لهما بالاعتبارين المتقدمين.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الخفاجي: مثله لا يعد لبسا بل إجمالا، كما ذكره بعض المحققين. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      قلت: وهذا بناء على أن اللبس هو أن يدل اللفظ على غير المراد، والإجمال أن لا تتضح الدلالة، وبعبارة أخرى: إيراد الكلام على وجه يحتمل أمورا متعددة، وقد نظم بعضهم الفرق بينهما فقال:


                                                                                                                                                                                                                                      والفرق بين اللبس والإجمال مما به يهتم في الأقوال     فاللفظ إن أفهم غير القصد
                                                                                                                                                                                                                                      فاحكم على استعماله بالرد     لأنه اللبس. وأما المجمل
                                                                                                                                                                                                                                      فربما يفهمه من يعقل     وذاك أن لا تفهم المخالفا
                                                                                                                                                                                                                                      ولا سواه بل تصير واقفا     وحكمه القبول في الموارد
                                                                                                                                                                                                                                      فاحفظه نظما أعظم الفوائد



                                                                                                                                                                                                                                      والمستضعفين من الولدان عطف (على يتامى النساء) وما يتلى في حقهم: قوله تعالى: يوصيكم الله إلخ، وقد كانوا في الجاهلية لا يورثونهم، كما لا يورثون الرجال القوام.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عباس في الآية: كانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار ولا البنات، وذلك قوله: لا تؤتونهن ما كتب لهن فنهى الله عن ذلك، وبين لكل ذي سهم سهمه، فقال: للذكر مثل حظ الأنثيين صغيرا أو كبيرا، وكذا قال سعيد بن جبير .

                                                                                                                                                                                                                                      وأن تقوموا لليتامى بالقسط بالجر، عطف على ما قبله، وما يتلى في حقهم: قوله تعالى: [ ص: 1589 ] ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم [النساء: 2] ونحو ذلك مما لا يكاد يحصر.

                                                                                                                                                                                                                                      قال سعيد بن جبير : المعنى: كما أنها إذا كانت ذات جمال ومال نكحتها واستأثرت بها كذلك إذا لم تكن ذات مال وجمال فانكحها واستأثر بها، والخطاب للولاة أو للأولياء والأوصياء.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية