الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2019 ] القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      [49] وأن احكم بينهم بما أنـزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنـزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون

                                                                                                                                                                                                                                      وأن احكم بينهم بما أنـزل الله عطف على (الكتاب) أي: أنزلنا إليك الكتاب والحكم بما فيه. أو على (الحق) أي: أنزلناه بالحق وب (أن احكم) ويجوز أن يكون جملة، بتقدير: وأمرنا أن احكم. وفي التعرض لعنوان إنزاله تعالى إياه، تأكيد لوجوب الامتثال، وتمهيد لما يعقبه من قوله: ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنـزل الله إليك أي: يصرفوك عنه. وإظهار الاسم الجليل لتأكيد الأمر بتهويل الخطب. كإعادة (ما أنزل الله).

                                                                                                                                                                                                                                      فإن تولوا أي: عن الحكم المنزل وأرادوا غيره: فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم يعني بذنب التولي عن حكم الله، وإرادة خلافه، فوضع (ببعض ذنوبهم) موضع ذلك. وأراد: أن لهم ذنوبا جمة كثيرة العدد. وأن هذا الذنب - مع عظمه - بعضها وواحد منها.. وهذا الإبهام لتعظيم التولي، واستسرافهم في ارتكابه، ونحو (البعض) في هذا الكلام ما في قول لبيد. [ ص: 2020 ] (أو يرتبط بعض النفوس حمامها..!) أراد نفسه. وإنما قصد تفخيم شأنها بهذا الإبهام. كأنه قال: نفسا كبيرة ونفسا أي نفس. فكما أن التنكير يعطي معنى التكبير وهو معنى البعضية، فكذلك إذا صرح بالبعض. كذا في "الكشاف".

                                                                                                                                                                                                                                      وفي "الحواشي": ومثل هذا قوله تعالى: ورفع بعضكم فوق بعض درجات أراد محمدا صلى الله عليه وسلم; وقيل: ذلك من الخصوص الذي أريد به العموم; وقيل: أراد العذاب في الدنيا. وأما في الآخرة فإنه يعذب بجميع الذنوب. ولقد تلطف القائل:


                                                                                                                                                                                                                                      وأقول بعض الناس عنك كناية خوف الوشاة، وأنت كل الناس



                                                                                                                                                                                                                                      وإن كثيرا من الناس لفاسقون أي: المتمردون في الكفر معتقدون فيه; وهذا تسجيل عليهم بالمخالفة. يعني: إن التولي عن حكم الله من التمرد العظيم والاعتداء في الكفر. والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله. ونظيرها قوله تعالى: وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وقوله تعالى: وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله

                                                                                                                                                                                                                                      روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال كعب بن أسد، وابن صلوما، [ ص: 2021 ] وعبد الله بن صوريا، وشاس بن قيس; بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فأتوه فقالوا: يا محمد! إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم. وإنا - إن اتبعناك - اتبعنا يهود، ولم يخالفونا. وأن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونؤمن لك ونصدقك. فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله عز وجل فيهم: وأن احكم بينهم بما أنـزل الله ولا تتبع أهواءهم الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية