الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      [38] وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون

                                                                                                                                                                                                                                      وما من دابة في الأرض أي: مستقرة فيها، لا ترتفع عنها: ولا طائر يرتفع عنها إذ: يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم أي: أصناف مصنفة في ضبط أحوالها، وعدم إهمال شيء منها، وتدبير شؤونها، وتقدير أرزاقها.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2297 ] ما فرطنا في الكتاب أي: ما تركنا، وما أغفلنا، في لوح القضاء المحفوظ من شيء أي: جليل أو دقيق، فإنه مشتمل على ما يجري في العالم، لم يهمل فيه أمر شيء: والمعنى: أن الجميع علمهم عند الله، لا ينسى واحدا منها من رزقه وتدبيره. كقوله: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين أي: مفصح بأسمائها وأعدادها ومظانها، وحاصر لحركاتها وسكناتها ثم إلى ربهم يحشرون يعني: الأمم كلها، من الدواب والطير، فينصف بعضهم من بعض، حتى يبلغ من عدله أن يأخذ للجماء من القرناء. وإيراد ضميرها على صيغة جمع العقلاء. لإجرائها مجراهم.

                                                                                                                                                                                                                                      تنبيهات:

                                                                                                                                                                                                                                      الأول: قال الزمخشري: إن قلت: فما الغرض في ذكر ذلك؟ قلت: الدلالة على عظم قدرته، ولطف علمه، وسعة سلطانه، وتدبيره تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس، المتكاثرة الأصناف، وهو حافظ لما لها وما عليها، مهيمن على أحوالها، لا يشغله شأن عن شأن، وأن المكلفين ليسوا بمخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان. وقال الرازي: المقصود أن عناية الله حاصلة لهذه الحيوانات، فلو كان إظهار آية ملجئة مصلحة، لأظهرها، فيكون كالدليل على أنه تعالى قادر على أن ينزل آية.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال القاضي: إنه تعالى لما قدم ذكر الكفار، وبين أنهم يرجعون إلى الله ويحشرون، بين بعده بقوله: وما من دابة إلخ، أن البعث حاصل في حق البهائم أيضا.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: زيادة (من) في قوله: وما من دابة في الأرض لتأكيد الاستغراق. و (في) متعلقة بمحذوف هو وصف ل: دابة مفيد لزيادة التعميم. كأنه قيل: وما فرد من [ ص: 2298 ] أفراد الدواب يستقر في قطر من أقطار الأرض. وكذا زيادة الوصف في قوله: يطير بجناحيه

                                                                                                                                                                                                                                      قال في "الانتصاف": في وجه زيادة التعميم، أن موقع قوله: في الأرض و: يطير بجناحيه موقع الوصف العام - وصفة العام عامة - ضرورة المطابقة، فكأنه مع زيادة الصفة، تضافرت صفتان عامتان.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: قال الزمخشري: إن قلت: كيف قيل (الأمم) مع إفراد الدابة والطائر؟ قلت: لما كان قوله تعالى: وما من دابة في الأرض ولا طائر دالا على معنى الاستغراق، ومغنيا عن أن يقال: وما من دواب ولا طير، حمل قوله: إلا أمم على المعنى.

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع: دلت الآية على أن كل صنف من البهائم أمة، وجاء في الحديث: «لولا أن الكلاب أمة من الأمم، لأمرت بقتلها» - رواه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه.

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس: ما ذكرناه في معنى مماثلة الأمم لنا، من تدبيره تعالى لأمورها، وتكفله برزقها، وعدم إغفال شيء منها مما يبين شمول القدرة، وسعة العلم - هو الأظهر. موافقة لقوله تعالى: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم الآية. - والقرآن يفسر بعضه بعضا. ونقل الواحدي عن ابن عباس أن المماثلة هي في معرفته تعالى، وتوحيده وتسبيحه وتحميده. كقوله تعالى: وإن من شيء إلا يسبح بحمده وقوله: [ ص: 2299 ] كل قد علم صلاته وتسبيحه .

                                                                                                                                                                                                                                      وعن أبي الدرداء قال: أبهمت عقول البهائم عن كل شيء إلا عن أربعة أشياء: معرفة الإله، وطلب الرزق، ومعرفة الذكر والأنثى، وتهيؤ كل واحد منهم لصاحبه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: المماثلة في أنها تحشر يوم القيامة كالناس.

                                                                                                                                                                                                                                      أقول: لا شك في صحة الوجهين بذاتهما، وصدق المثلية فيهما، ولكن الحمل عليهما يبعده عدم ملاقاته للآية الأخرى. فالأمس، تأييدا للنظائر، ما ذكرناه أولا. والله أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      السادس: ما بيناه في معنى (الكتاب) من أنه اللوح المحفوظ في العرش، وعالم السماوات المشتمل على جميع أحوال المخلوقات على التفصيل التام - هو الأظهر، لملاقاته للآية التي ذكرناها تأييدا للنظائر القرآنية. ولم يذكر الإمام ابن كثير سواه، على توسعه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: المراد منه القرآن كقوله تعالى: ونـزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء قال الخفاجي: قيل: حمله على القرآن لا يلائم ما قبله وما بعده. ويدفع بأن المعنى: لم نترك شيئا من الحجج وغيرها إلا ذكرناه، فكيف يحتاج إلى آية أخرى مما اقترحوه، ويكذب بآياتنا؟ فالكلام بعضه آخذ بحجز بعض بلا شبهة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو السعود: أي: ما تركنا في القرآن شيئا من الأشياء المهمة التي من جملتها بيان أنه تعالى مراع لمصالح جميع مخلوقاته.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشهاب في قول البيضاوي (فإنه قد دون فيه ما يحتاج إليه من أمر الدين مفصلا [ ص: 2300 ] أو مجملا): يشير إلى أن ما ثبت بالأدلة الثلاثة ثابت بالقرآن، لإشارته بنحو قوله: فاعتبروا يا أولي الأبصار إلى القياس. وقوله: وما آتاكم الرسول فخذوه إلى السنة. بل قيل: إنه بهذه الطريقة يمكن استنباط جميع الأشياء منه. كما سأل بعض الملحدين بعضهم عن طبخ الحلوى، أين ذكر في القرآن؟ فقال: في قوله تعالى: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      واستظهر الرازي أن المراد (بالكتاب) القرآن. واحتج بأن الألف واللام إذا دخلا على الاسم المفرد، انصرف إلى المعهود السابق، والمعهود السابق من الكتاب عند المسلمين هو القرآن. فوجب أن يكون المراد من (الكتاب) في هذه الآية القرآن. إذا ثبت هذا، فلقائل أن يقول: كيف قال تعالى: ما فرطنا في الكتاب من شيء مع أنه ليس فيه تفاصيل علم [ ص: 2301 ] الطب، وتفاصيل علم الحساب، ولا تفاصيل كثير من المباحث والعلوم. وليس فيه أيضا تفاصيل مذاهب الناس ودلائلهم في علم الأصول والفروع؟

                                                                                                                                                                                                                                      والجواب: أن قوله: ما فرطنا في الكتاب من شيء يجب أن يكون مخصوصا ببيان الأشياء التي يجب معرفتها، والإحاطة بها، وبيانه من وجهين:

                                                                                                                                                                                                                                      الأول: أن لفظ (التفريط) لا يستعمل نفيا ولا إثباتا، إلا فيما يجب أن يبين؛ لأن أحدا لا ينسب إلى التفريط والتقصير في أن لا يفعل ما لا حاجة إليه، وإنما يذكر هذا اللفظ فيما إذا قصر فيما يحتاج إليه.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: أن جميع آيات القرآن، أو الكثير منها، دالة بالمطابقة أو التضمين أو الالتزام على أن المقصود من إنزال هذا الكتاب بيان الدين، ومعرفة الله، ومعرفة أحكام الله. وإذا كان هذا التقييد معلوما من كل القرآن، كان المطلق ههنا محمولا على ذلك المقيد. أما قوله: إن هذا الكتاب غير مشتمل على جميع علوم الأصول والفروع، فنقول: أما علم الأصول فإنه بتمامه حاصل فيه؛ لأن الدلائل الأصلية مذكورة فيه على أبلغ الوجوه. فأما روايات المذاهب، وتفاصيل الأقاويل، فلا حاجة إليها. وأما تفاصيل علم الفروع، فقال العلماء: إن القرآن دل على أن الإجماع، وخبر الواحد، والقياس، حجة في الشريعة. فكل ما دل عليه أحد هذه الأصول الثلاثة، كان ذلك في الحقيقة موجودا في القرآن.

                                                                                                                                                                                                                                      وذكر الواحدي رحمه الله لهذا المعنى أمثلة ثلاثة:

                                                                                                                                                                                                                                      المثال الأول: روي أن ابن مسعود كان يقول: ما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه؟ [ ص: 2302 ] يعني: الواشمة والمستوشمة; والواصلة والمستوصلة.

                                                                                                                                                                                                                                      وروي أن امرأة قرأت القرآن، ثم أتته، فقالت: يا ابن أم عبد! تلوت البارحة ما بين الدفتين، فلم أجد فيه لعن الواشمة والمستوشمة! فقال. لو تلوتيه لوجدتيه، قال الله تعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه وإن مما آتانا به رسول الله أنه قال: لعن الله الواشمة والمستوشمة.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الرازي: وأقول: يمكن وجدان هذا المعنى في كتاب الله بطريق أوضح من ذلك؛ لأنه تعالى قال في سورة النساء: وإن يدعون إلا شيطانا مريدا لعنه الله فحكم [ ص: 2303 ] عليه باللعن، ثم عدد بعده قبائح أفعاله، وذكر من جملتها قوله: ولآمرنهم فليغيرن خلق الله . وظاهر هذه الآية يقتضي أن تغيير الخلق يوجب اللعن. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      قلت: وتتمة الحديث تؤيد ذلك أيضا. ولفظه: لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله. رواه الإمام أحمد والشيخان وأصحاب السنن عن ابن مسعود.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال الرازي:

                                                                                                                                                                                                                                      المثال الثاني: ذكر أن الشافعي رحمه الله كان جالسا في المسجد الحرام فقال: لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم فيه من كتاب الله تعالى. فقال رجل: ما تقول في المحرم إذا قتل الزنبور؟ فقال: لا شيء عليه، فقال: أين هذا في كتاب الله؟ فقال: قال الله تعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه ثم ذكر إسنادا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي. ثم ذكر إسنادا إلى عمر رضي الله عنه أنه قال: للمحرم قتل الزنبور. قال الواحدي: فأجابه من كتاب الله مستنبطا بثلاث درجات.

                                                                                                                                                                                                                                      وأقول هاهنا طريق آخر أقرب منه، وهو أن الأصل في أموال المسلمين العصمة. قال تعالى: لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت وقال: ولا يسألكم أموالكم [ ص: 2304 ] وقال: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم فنهى عن أكل أموال الناس. إلا بطريق التجارة، فعند عدم التجارة وجب أن يبقى على أصل الحرمة. وهذه العمومات تقتضي أن لا يجب على المحرم الذي قتل الزنبور شيء؛ وذلك لأن التمسك بهذه العمومات يوجب الحكم بمرتبة واحدة. المثال الثالث: قال الواحدي: روي في حديث العسيف الزاني أن أباه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اقض بيننا بكتاب الله. فقال عليه السلام: والذي نفسي بيده! لأقضين بينكما بكتاب الله. [ ص: 2305 ] ثم قضى بالجلد والتغريب على العسيف، وبالرجم على المرأة إن اعترفت. قال الواحدي: وليس للجلد والتغريب ذكر في نص الكتاب. وهذا يدل على أن كل ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم فهو عين كتاب الله. قال الرازي: وهذا حق؛ لأنه تعالى قال: لتبين للناس ما نزل إليهم ، وكل ما بينه الرسول عليه الصلاة والسلام كان داخلا تحت هذه الآية. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وبالجملة، فالقرآن الكريم كلية الشريعة، والمجموع فيه أمور كليات؛ لأن الشريعة تمت بتمام نزوله، فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها، وجدناها قد تضمنها القرآن على الكمال. وقد جود البحث في هذه المسألة المهمة، العلامة الشاطبي في "الموافقات" في الطرف الثاني، في الأدلة على التفصيل. فارجع إليه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد نقلنا شذرة منه في مقدمة هذا التفسير. فتذكر!.

                                                                                                                                                                                                                                      السابع: قال أبو البقاء: من في قوله تعالى: من شيء زائدة. و (شيء) هنا واقع موقع المصدر. أي: تفريطا. وعلى هذا التأويل لا يبقى في الآية حجة لمن ظن أن الكتاب يحتوي على ذكر كل شيء صريحا. ونظير ذلك: لا يضركم كيدهم شيئا أي: [ ص: 2306 ] ضررا. وقد ذكرنا له نظائر. ولا يجوز أن يكون: شيئا مفعولا به؛ لأن: فرطنا تتعدى بنفسها، بل بحرف الجر، وقد عديت ب (في) إلى: الكتاب ، فلا تتعدى بحرف آخر، ولا يصح أن يكون المعنى: ما تركنا في الكتاب من شيء؛ لأن المعنى على خلافه، فبان أن التأويل ما ذكرنا. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الخفاجي: التفريط التقصير. وأصله أن يتعدى ب (في) وقد ضمن هنا معنى (أغفلنا وتركنا). ف: من شيء في موضع المفعول به، و: من زائدة. والمعنى: ما تركنا في الكتاب شيئا يحتاج إليه من دلائل الألوهية والتكاليف.

                                                                                                                                                                                                                                      هذا ما ارتضاه أبو حيان والزمخشري، وعدل عنه البيضاوي؛ لأنه لا يتعدى. فجعل التقدير (تفريطا) فحذف المصدر، وأقيم: شيئا مقامه، وتبع فيه أبا البقاء، إذ اختار هذا، وأورد عليه في "الملتقط" أنه ليس كما ذكرنا؛ لأنه إذا تسلط النفي على المصدر، كان منفيا على جهة العموم، ويلزمه نفي أنواع المصدر، ونفي جميع أفراده، وليس بشيء؛ لأنه يريد أن المعنى حينئذ: أن جميع أنواع التفريط منفية عن القرآن، وهو مما لا شبهة فيه، ولا يلزمه أن يذكر فيه كل شيء كما لزم على الوجه الآخر، حتى يحتاج إلى التأويل. كما أن نفي تعديه لا يضر من قال إنه مفعول به على التضمين، كما مر، وأما ما قيل: إن (فرط) يتعدى بنفسه، لما وقع في القاموس (فرط الشيء، وفرط فيه تفريطا ضيعه وقدم العجز فيه وقصر) فلا نسلم أنه يتعدى بنفسه، وتفرد صاحب القاموس بأمر، لا يسمع في مقابلة الزمخشري وغيره. مع أنه يحتمل أن تعديته المذكورة فيه ليست وضعية، بل مجازية، أو بطريق التضمين. انتهى كلام الشهاب.

                                                                                                                                                                                                                                      أقول: ما للمجد في القاموس، ليس من تفرداته وعندياته، إذ اللغة مرجعها السماع، [ ص: 2307 ] لا الاجتهاد. وموازنته بين الزمخشري وغيره، من باب معرفة الحق بالرجال، الذي الصواب عكسه، على أنه ليس في "الكشاف"

                                                                                                                                                                                                                                      ما يقتضي ما زعمه. وقد استشهد شارح القاموس، الزبيدي شاهدا على تعديته بنفسه، تأييدا لكلام المجد، قول صخر الغي:


                                                                                                                                                                                                                                      ذلك بزي فلن أفرطه أخاف أن ينجزوا الذي وعدوا



                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن سيده: يقول. لا أضيعه، وقوله: بزي، أراد سلاحي. ثم قال الزبيدي: وقال أبو عمرو: فرطتك في كذا وكذا، أي: تركتك. وبه فسر أيضا قول صخر. انتهى. وأنشد أبو السعود قول ساعدة بن جؤية:


                                                                                                                                                                                                                                      معه سقاء لا يفرط حمله



                                                                                                                                                                                                                                      أي: لا يتركه. وبه يعلم سقوط ما لأبي البقاء، وسقوط دعوى أن أصله أن يتعدى ب (في) ودعوى التضمين السابقة، وتكليف كون: شيء واقعا موقع المصدر.

                                                                                                                                                                                                                                      هذا وقرئ: "فرطنا" بالتخفيف، وهو بمعنى المشدد، وإنما توسعنا فيما روي على القول الثاني في معنى الكتاب، لشهرة الآية في هذا المعنى، وإن كان الأظهر الأول، لما ذكرناه، ولأن السورة مكية، والأحكام فيها لم تتم. والله أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      الثامن: دلت الآية على حشر الدواب والبهائم والطير كلها، أي: بعثها يوم القيامة. كقوله تعالى: وإذا الوحوش حشرت

                                                                                                                                                                                                                                      وروى الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى شاتين [ ص: 2308 ] تنتطحان، فقال: يا أبا ذر! هل تدري فيم تنتطحان؟ قال: لا. قال: لكن الله يدري، وسيقضي بينهما» . ورواه عبد الرزاق وابن جرير، وزاد: ولقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يقلب طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما.

                                                                                                                                                                                                                                      وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في مسند أبيه عن عثمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الجماء لتقص من القرناء يوم القيامة» .

                                                                                                                                                                                                                                      وروى عبد الرزاق عن أبي هريرة في هذه الآية قال: «يحشر الخلق كلهم يوم القيامة: الدواب والبهائم والطير وكل شيء، فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء، ثم يقول: كوني ترابا! فلذلك يقول الكافر: يا ليتني كنت ترابا » . وقد روي هذا مرفوعا في حديث الصور. أفاده ابن كثير.

                                                                                                                                                                                                                                      قلت: روى الإمام أحمد، والبخاري في "الأدب المفرد" ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء، من الشاة القرناء، تنطحها» .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2309 ] وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس في الآية قال: حشرها الموت. وروي عن مجاهد والضحاك مثله. والأول أظهر.

                                                                                                                                                                                                                                      التاسع: "في الإكليل": استدل بهذه الآية على مسألة أخرى، أخرجه أبو الشيخ عن أنس أنه سئل: من يقبض أرواح البهائم؟ قال: ملك الموت. فبلغ الحسن فقال: صدق! وإن ذلك في كتاب الله. ثم تلا هذه الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية