الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      [84] ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين

                                                                                                                                                                                                                                      [85] وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين

                                                                                                                                                                                                                                      [86] وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين

                                                                                                                                                                                                                                      ووهبنا له أي: لإبراهيم عوضا عن قومه، لما اعتزلهم وما يعبدون إسحاق ويعقوب أي: ولدا، وولد ولد، لتقر عينه ببقاء العقب: كلا هدينا أي: كلا منهما هديناه الهداية الكبرى، بلحوقهما بدرجة أبيهما في النبوة، كما قال تعالى: فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2393 ] قال ابن كثير: يذكر تعالى أنه وهب لإبراهيم إسحاق، وذلك بعد أن طعن في السن، وأيس وامرأته سارة من الولد، فجاءته الملائكة وهم ذاهبون إلى قوم لوط، فبشروهما بإسحاق، فتعجبت المرأة من ذلك: قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد فبشروهما فتعجبت، وبشروهما مع وجوده بنبوته، وبأن له نسلا وعقبا، كما قال تعالى: وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين وهذا أكمل في البشارة، وأعظم في النعمة. وقال: فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب أي: ويولد لهذا المولود ولد في حياتكما، فتقر أعينكما به، كما قرت بوالده، وإن الفرح بولد الولد شديد، لبقاء النسل والعقب. ولما كان ولد الشيخ والشيخة قد يتوهم أنه لا يعقب لضعفه، وقعت البشارة به، وبولد اسمه يعقوب، الذي فيه اشتقاق العقب والذرية، وكانت هذه المجازاة لإبراهيم عليه السلام حين اعتزل قومه وتركهم، ونزح عنهم، وهاجر من بلادهم، ذاهبا إلى عبادة الله في الأرض، فعوضه الله عز وجل عن قومه وعشيرته بأولاد صالحين، من صلبه، على دينه، لتقر بهم عينه، كما قال تعالى: فلما اعتزلهم وما يعبدون الآية...

                                                                                                                                                                                                                                      ونوحا هدينا من قبل أي: من قبله، هديناه كما هديناه. وعد هداه نعمة على إبراهيم، من حيث إنه أبوه، وشرف الوالد يتعدى إلى الولد.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2394 ] قال ابن كثير: كل منهما له خصوصية عظيمة، أما نوح عليه السلام فإن الله تعالى لما أغرق أهل الأرض، إلا من آمن به، وهم الذين صحبوه في السفينة، جعل الله ذريته هم الباقين، فالناس كلهم من ذريته، وأما الخليل إبراهيم عليه السلام، فلم يبعث الله عز وجل بعده نبيا إلا من ذريته، كما قال تعالى: وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب الآية... وقال تعالى: ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب وقال تعالى: أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: ومن ذريته الضمير لإبراهيم أو لنوح، على ما يأتي. داود عطف على: نوحا أي: وهدينا داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين .

                                                                                                                                                                                                                                      وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين

                                                                                                                                                                                                                                      وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين

                                                                                                                                                                                                                                      اعلم أن المقصود من هذه الآيات، وما قبلها، وما يلحقها، تعديد أنواع نعم الله تعالى على إبراهيم عليه الصلاة والسلام، جزاء اعتزاله قومه وما يعبدون، وقيامه بنصرة التوحيد، ودحض الشرك. فذكر تعالى أولا رفع درجته، بإيتائه الحجة على قومه، وتخصيصه بها، ثم جعله عزيزا في الدنيا، حسبا ونسبا، أصلا وفرعا؛ لأنه تولد من نوح أول المرسلين [ ص: 2395 ] رسالة عامة، ووهبت له الذرية الطاهرة، أنبياء البشر. ولذا ذهب الأكثرون إلى أن الضمير في: ومن ذريته لإبراهيم؛ لأن مساق النظم لبيان شؤونه العظيمة، كأنه قيل: ولم نزل نرفع درجاته بعد ذلك إذ هدينا من ذريته داود... إلخ، فهو المقصود بالذكر في هذه الآيات. وذكر نوح عليه السلام؛ لأن كون إبراهيم من أولاده أحد موجبات رفعته كما تقدم. والغاية هي إلزام من ينتمي إليه من المشركين.

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يقال: إن لوطا ليس من ذرية إبراهيم لأنه ابن أخيه؛ لأنه يقال: إن العرب تجعل العم أبا، كما أخبر تعالى عن أبناء يعقوب أنهم قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق مع أن إسماعيل عم يعقوب، ودخل في آبائه تغليبا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال محيي السنة رحمه الله تعالى: ومن ذريته أي: ذرية نوح صلى الله عليه وسلم، ولم يرد من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ لأنه ذكر في جملتهم يونس صلى الله عليه وسلم، وكان من الأسباط، في زمن شعياء، أرسله الله تعالى إلى أهل نينوى من الموصل.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال: إن لوطا عليه السلام كان ابن أخي إبراهيم عليه السلام، آمن بإبراهيم، وشخص معه مهاجرا إلى الشام، فأرسله الله إلى أهل سدوم.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن قال: الضمير لإبراهيم صلى الله عليه وسلم، يقدر: ومن ذرية إبراهيم وداود وسليمان هدينا؛ لأن إبراهيم هو المقصود بالذكر. وذكر نوح لتعظيم إبراهيم. ولذلك ختم بيونس ولوط، وجعلهما معطوفين على: نوحا هدينا من تعطف الجملة على الجملة. وصاحب (الكشف) أخرج (إلياس) صلى الله عليه وسلم. وليس كذلك. لما في "جامع الأصول" عن الكسائي، أنهما من ذريته. فبقي لوط خارجا، لما كان ابن أخيه آمن به، وهاجر معه، أمكن أن يجعل من ذريته على سبيل التغليب. كما ذكره الطيبي.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2396 ] وبالجملة، فالآية المذكورة من المنن على إبراهيم على كلا الوجهين؛ لأن شرف الذرية، وشرف الأقارب شرف، لكنه على الأول أظهر، ويكون تطرية في مدح إبراهيم صلى الله عليه وسلم بالعود إليه مرة بعد أخرى.

                                                                                                                                                                                                                                      تنبيهات:

                                                                                                                                                                                                                                      الأول: قال الحافظ ابن كثير: في ذكر عيسى عليه السلام، في ذرية إبراهيم أو نوح (على القول الآخر) دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجل؛ لأن انتساب عيسى ليس إلا من جهة أمه مريم عليهما السلام، وقد روى ابن أبي حاتم أن الحجاج أرسل إلى يحيى بن يعمر فقال: بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم، تجده في كتاب الله وقد قرأته من أوله إلى آخره فلم أجده؟! قال: أليس تقرأ سورة الأنعام: ومن ذريته داود وسليمان حتى بلغ: ويحيى وعيسى قال: بلى! قال: أليس من ذرية إبراهيم، وليس له أب؟ قال: صدقت! فلهذا إذا أوصى الرجل لذريته أو وقف على ذريته، أو وهبهم دخل أولاد البنات فيهم. فأما إذا أعطى الرجل بنيه، أو وقف عليهم، فإنه يختص بذلك بنوه لصلبه، وبنو بنيه، واحتجوا بقول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      بنونا بنو أبنائنا. وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد



                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخرون: ويدخل بنو البنات فيهم، لما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 2397 ] قال للحسن بن علي: إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين. فسماه (ابنا) فدل على دخوله في الأبناء. وقال آخرون: هذا تجوز: انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي "العناية": أورد على الاستدلال بتناول الذرية أولاد البنت من هذه الآية، بأن عيسى عليه السلام ليس له أب يصرف إضافته إلى الأم إلى نفسه، فلا يظهر قياس غيره عليه. والمسألة مختلف فيها، والقائل بها استدل بهذه الآية، وآية المباهلة، حيث دعا النبي صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين رضي الله عنهما بعدما نزل: ندع أبناءنا وأبناءكم . إن لم نقل إنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: إنما لم يذكر إسماعيل عليه السلام مع إسحاق، بل أخر ذكره عنه؛ لأن المقصود بالذكر ههنا أنبياء بني إسرائيل، وهم بأسرهم أولاد إسحاق ويعقوب، وأما إسماعيل فلم يخرج من صلبه من الأنبياء إلا خاتمهم وأفضلهم صلى الله عليه وسلم. ولا يقتضي المقام ذكره صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أمر أن يحتج على العرب في نفي الشرك بأن إبراهيم لما ترك قومه وما يعبدون إلى عبادة الله وحده، رزقه الله النعم العظيمة في الدين والدنيا، ومنها إيتاؤه أولادا أنبياء. فإذا كان المحتج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يذكر في هذا المعرض. ولهذا السبب لم يذكر إسماعيل مع إسحاق. أفاده الرازي.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: اعلم أنه تعالى ذكر هنا ثمانية عشر نبيا من الأنبياء عليهم السلام من غير ترتيب، لا بحسب الزمان، ولا بحسب الفضل؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب. ولكن هنا لطيفة في هذا الترتيب، وهي أن الله تعالى خص كل طائفة من طوائف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بنوع من الكرامة والفضل، فذكر أولا نوحا وإبراهيم وإسحاق ويعقوب لأنهم أصول [ ص: 2398 ] الأنبياء، وإليهم ترجع أنسابهم جميعا. ثم من المراتب المعتبرة، بعد النبوة، الملك والقدرة والسلطان. وقد أعطى الله داود وسليمان من ذلك حظا وافرا. ومن المراتب الصبر عند نزول البلاء والمحن والشدائد، وقد خص الله بهذه أيوب عليه السلام. ثم عطف على هاتين المرتبتين من جمع ببينهما، وهو يوسف عليه السلام، فإنه صبر على البلاء والشدة إلى أن آتاه الله ملك مصر مع النبوة، ثم من المراتب المعتبرة في تفضيل الأنبياء عليهم السلام كثرة المعجزات، وقوة البراهين، وقد خص الله موسى وهارون من ذلك بالحظ الوافر. ثم من المراتب المعتبرة الزهد في الدنيا، والإعراض عنها، وقد خص الله بذلك زكريا ويحيى وعيسى وإلياس عليهم السلام، ولهذا السبب وصفهم بأنهم من الصالحين، ثم ذكر الله من بعد هؤلاء الأنبياء، من لم يبق له أتباع ولا شريعة، وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط. فإذا اعتبرنا هذه اللطيفة على هذا الوجه، كان هذا الترتيب من أحسن شيء يذكر، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه - أفاده الخازن وأصله للرازي -.

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع: استدل بقوله تعالى: وكلا فضلنا على العالمين من يرى أن الأنبياء أفضل من الملائكة؛ لأن العالم اسم لكل موجود سوى الله تعالى، فيدخل فيه الملك.

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس: نكتة ذكر "الهداية" في قوله تعالى: كلا هدينا هو تعديد النعم على إبراهيم صلى الله عليه وسلم بشرف الأصول والفروع - كما أسلفنا - والولد لا يعد نعمة ما لم يكن مهديا.

                                                                                                                                                                                                                                      السادس: قال السيوطي في "الإكليل": استدل بقوله تعالى: كلا هدينا ونوحا هدينا من أنكر إفادة التقديم الحصر.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية