الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 303 ] فصل ومما يجب أن يعلم أن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الإنس والجن فلم يبق إنسي ولا جني إلا وجب عليه الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واتباعه فعليه أن يصدقه فيما أخبر ويطيعه فيما أمر ومن قامت عليه الحجة برسالته فلم يؤمن به فهو كافر سواء كان إنسيا أو جنيا .

                ومحمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الثقلين باتفاق المسلمين وقد استمعت الجن القرآن وولوا إلى قومهم منذرين لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه ببطن نخلة لما رجع من الطائف وأخبره الله بذلك في القرآن بقوله { وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين } { قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم } { يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم } { ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء } { أولئك في ضلال مبين } .

                وأنزل الله تعالى بعد ذلك { قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا } { يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا } { وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا } { وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا } { وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا } { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا } أي السفيه منا في أظهر قولي العلماء .

                وقال غير واحد من السلف : كان الرجل من الإنس إذا نزل بالوادي قال : أعوذ بعظيم هذا الوادي من شر سفهاء قومه فلما استغاثت الإنس بالجن ازدادت الجن طغيانا وكفرا كما قال تعالى : { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا } { وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا } { وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا } وكانت الشياطين ترمي بالشهب قبل أن ينزل القرآن ; لكن كانوا أحيانا يسترقون السمع قبل أن يصل الشهاب إلى أحدهم فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم ملئت السماء حرسا شديدا وشهبا وصارت الشهب مرصدة لهم قبل أن يسمعوا كما قالوا : { وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا } [ ص: 305 ] وقال تعالى في الآية الأخرى : { وما تنزلت به الشياطين } { وما ينبغي لهم وما يستطيعون } { إنهم عن السمع لمعزولون } قالوا : { وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا } { وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا } أي على مذاهب شتى كما قال العلماء منهم المسلم والمشرك والنصراني والسني والبدعي { وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا } أخبروا أنهم لا يعجزونه : لا إن أقاموا في الأرض ولا إن هربوا منه { وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا } { وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون } أي الظالمون يقال أقسط إذا عدل وقسط إذا جار وظلم { فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا } { وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا } { وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا } { لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا } { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا } { وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا } { قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا } { قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا } { قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا } أي ملجأ ومعاذا { إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا } { حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا } .

                [ ص: 306 ] ثم لما سمعت الجن القرآن أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به وهم جن نصيبين كما ثبت ذلك في الصحيح من حديث ابن مسعود وروي { أنه قرأ عليهم سورة الرحمن وكان إذا قال : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } قالوا : ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد } .

                { ولما اجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم سألوه الزاد لهم ولدوابهم فقال : لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه تجدونه أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علفا لدوابكم قال النبي صلى الله عليه وسلم فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد لإخوانكم من الجن } وهذا النهي ثابت عنه من وجوه متعددة وبذلك احتج العلماء على النهي عن الاستنجاء بذلك وقالوا فإذا منع من الاستنجاء بما للجن ولدوابهم فما أعد للإنس ولدوابهم من الطعام والعلف أولى وأحرى .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية