الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 162 ] وسئل شيخ الإسلام قدس الله روحه عمن قال : اختلاف المسلمين في كلام الله تعالى على " ثلاثة أنحاء " فقوم إلى أنه قديم الحرف والصوت وهم الحشوية وقوم إلى أنه حادث بالصوت والحرف وهم الجهمية ومن تابعهم وقوم إلى أنه قديم لا بصوت ولا حرف إلا معنى قائم بذات الله وهم الأشعرية ؟

                [ ص: 192 ]

                التالي السابق


                فأجاب رضي الله عنه وأرضاه : - الحمد لله رب العالمين . قول القائل : إن اختلاف المسلمين في كلام الله على " ثلاثة أنحاء " إلخ هو كلام بحسب ما بلغه من ذلك وأكثر من تكلم في هذه المسألة من المتأخرين إنما يذكر فيها بعض اختلاف الناس . فقوم يحكون أربعة أقوال كأبي المعالي ونحوه . وقوم يحكون خمسة أو ستة كالشهرستاني ونحوه .

                [ ص: 163 ] والأقوال التي قالها المنتسبون إلى القبلة في هذه المسألة تبلغ سبعة أو أكثر .

                [ الأول ] " قول المتفلسفة " ومن وافقهم من متصوف ومتكلم كابن سينا وابن عربي الطائي وابن سبعين وأمثالهم ممن يقول [ بقول ] الصابئة الذين يقولون إن كلام الله ليس له وجود خارج عن نفوس العباد ; بل هو ما يفيض على النفوس من المعاني : إعلاما وطلبا : إما من العقل الفعال كما يقوله كثير من المتفلسفة وإما مطلقا كما يقوله بعض متصوفة الفلاسفة . وهذا قول الصابئة ونحوهم . وهؤلاء يقولون : الكلام الذي سمعه موسى لم يكن موجودا إلا في نفسه وصاحب " مشكاة الأنوار " وأمثاله في كلامه ما يضاهي كلام هؤلاء أحيانا وإن كان أحيانا يكفرهم وهذا القول أبعد عن الإسلام ممن يقول : القرآن مخلوق .

                و ( القول الثاني قول الجهمية من المعتزلة وغيرهم الذين يقولون : كلام الله مخلوق يخلقه في بعض الأجسام فمن ذلك الجسم ابتدأ لا من الله ولا يقوم - عندهم - بالله كلام ولا إرادة وأول هؤلاء " الجعد بن درهم " الذي ضحى به خالد بن عبد الله القسري - لما خطب الناس يوم عيد النحر - وقال : ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم [ ص: 164 ] يكلم موسى تكليما تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا ثم نزل فذبحه .

                وهؤلاء هم الذين دعوا من دعوه من الخلفاء إلى مقالتهم حتى امتحن الناس في القرآن بالمحنة المشهورة في إمارة المأمون والمعتصم والواثق حتى رفع الله شأن من ثبت فيها من أئمة السنة : كالإمام أحمد - رحمه الله - وموافقيه وكشفها الله عن الناس في إمارة المتوكل وظهر في الأمة " مقالة السلف " : إن القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود . أي هو المتكلم به لم يبتدأ من بعض المخلوقات - كما قالت الجهمية - بل هو منه نزل كما قال تعالى : { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } وقال : { والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق } وقال : { حم } { تنزيل من الرحمن الرحيم } وقوله : { قل نزله روح القدس من ربك بالحق } .

                ثم لما شاعت المحنة كثر اضطراب الناس وتنازعهم في ذلك حتى صار أهل السنة والجماعة - المتفقون على أن كلام الله منزل غير مخلوق - يقول كل منهم قولا يخالف به صاحبه وقد لا يشعر أحدهم بخلاف الأدلة وصار أتباع الأئمة الأربعة - كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد مع كون الظاهر المشهور عندهم أن القرآن كلام الله غير مخلوق - بين كل طائفة منهم تنازع في تحقيق ذلك كما سننبه على ذلك .

                [ ص: 165 ] و [ القول الثالث ] قول أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب البصري ومن اتبعه : كالقلانسي وأبي الحسن الأشعري وغيرهم أن كلام الله معنى قائم بذات الله هو الأمر بكل مأمور أمر الله به والخبر عن كل مخبر أخبر الله عنه إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا .

                والأمر والنهي والخبر ليست أنواعا له ينقسم الكلام إليها وإنما كلها صفات له إضافية كما يوصف الشخص الواحد بأنه ابن لزيد وعم لعمرو وخال لبكر والقائلون بهذا القول منهم من يقول : إنه معنى واحد في الأزل وإنه في الأزل أمر ونهي وخبر كما يقوله الأشعري .

                ومنهم من قال : بل يصير أمرا ونهيا عند وجود المأمور والمنهي .

                ومنهم من يقول : هو عدة معان الأمر والنهي والخبر والاستخبار .

                وقد ألزم الناس أصحاب هذا القول أن يجعلوا العلم والقدرة والإرادة والحياة شيئا واحدا فاعترف محققوهم بصحة الإلزام .

                [ ص: 166 ] وجمهور العقلاء - من أهل السنة وأهل البدعة - يقولون إن فساد هذا القول معلوم بالضرورة كما يقولون : إن فساد قول من يقول : إن الأصوات المسموعة من العباد قديمة معلوم بالضرورة كما يقولون : إن فساد قول من يقول إن المتكلم يكون متكلما بكلام يقوم بغيره وإن العالم يكون عالما بعلم يقوم بغيره والقادر يكون قادرا بقدرة تقوم بغيره معلوم بالضرورة .

                وكما يقول جمهور العقلاء : إن فساد قول من يقول : إن العلم هو القدرة والقدرة هي الإرادة وإن العلم هو العالم والقدرة هي القادر معلوم بالضرورة .

                [ القول الرابع ] قول طوائف من أهل الكلام والحديث من السالمية وغيرهم يقولون : إن كلام الله حروف وأصوات قديمة أزلية ولها مع ذلك معان تقوم بذات المتكلم وهؤلاء يوافقون الأشعرية والكلابية في أن تكليم الله لعباده ليس إلا مجرد خلق إدراك للمتكلم ليس هو أمرا منفصلا عن المستمع .

                ثم إن جمهور هؤلاء لا يقولون إن تلك الأصوات [ هي ] المسموعة من القارئين [ بل ] يفرقون بين هذا وهذا . ومنهم طائفة وهم أهل [ ص: 167 ] يقولون : إن الصوت القديم يسمع من القارئ . ثم قد يقولون تارة : إن القديم نفس الصوت المسموع من القارئ وتارة يقولون : إنه يسمع من القارئ صوتان قديما ومحدثا . وكثير منهم أو أكثرهم لا يقولون بحلول القديم في المحدث ; بل يقولون ظهر فيه كما يظهر الوجه في المرآة .

                ومنهم من يقول بحلول القديم في المحدث وليس هذا القول ولا الأقوال قبله قول أحد من سلف الأمة ولا أئمتها ولم يقل ذلك لا الإمام أحمد ولا أئمة أصحابه ولا غيره من الأئمة ; بل هم متفقون على الإنكار على من قال إن لفظي بالقرآن غير مخلوق فكيف بمن قال صوتي غير مخلوق ؟ فكيف بمن قال صوتي قديم .

                وأما القول بأن المداد الذي في المصحف قديم : فهذا ما رأيناه في كتاب أحد من طوائف الإسلام ولا نقله أحد عن رجل معروف من العلماء أنه سمعه منه ; ولكن طائفة يسكتون عن التكلم في المداد بنفي أو إثبات ويقولون : لا نقول إنه قديم ; ولكن نسكت سدا للذريعة . وقد حكاه طائفة عمن سموهم الحشوية القول بقدم المداد وقالوا : إنهم يقولون : إن المداد الذي في المصحف قديم وإنه لما كان في المحبرة كان محدثا فلما صار في الورق صار قديما .

                [ ص: 168 ] ورأينا طوائف يكذبون هؤلاء في النقل وكأن حقيقة الأمر أن أولئك يقولون قول غيرهم بمجرد ما بلغهم من إطلاق قولهم أو لما ظنوه لازما لهم أو لما سمعوه ممن يجازف في النقل ولا يحرره وربما سمعوه من بعض عوامهم إن كان ذلك قد وقع .

                وهذا الباب وقع فيه غلط بهذا السبب حتى غلط الناس على من يعظمونه ; وبهذا السبب غلط أبا طالب " الإمام أحمد " فيما نقله عنه فإنه قرأ عليه : { قل هو الله أحد } وسأله هذا مخلوق ؟ فقال له أحمد هذا ليس بمخلوق . فبلغه أن أبا طالب حكى عنه أنه قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فغضب عليه أحمد وقال . أنا قلت لك لفظي بالقرآن غير مخلوق ؟ فقال : لا . ولكن قرأت عليك : { قل هو الله أحد } فقلت لك : هذا غير مخلوق فقلت نعم . فقال : فلم حكيت عني أني قلت لك لفظي بالقرآن غير مخلوق ؟ فقال : لم أحكه عنك وإنما حكيته عن نفسي قال : فلا تقل هذا فإني لم أسمع عالما يقول هذا ; ولكن قل : القرآن حيث تصرف كلام الله غير مخلوق .

                ولهذا قال البخاري في " كتاب خلق الأفعال " إن " اللفظية " هؤلاء يذكرون قولهم عن أحمد وهم لا يفهمون دقة قوله وموضع الشبهة أنه إذا قال هذا فالإشارة تكون إلى الكلام من حيث هو كلام مع قطع النظر عما بلغ به من حركات العبد وصوته كما أن [ ص: 169 ] الرجل إذا كتب اسم الله - تبارك وتعالى - وسمع قائلا يذكر الله فقال هذا ربي كان صادقا ولو قيل له : أتعبد هذا ؟ لقال نعم . - لأن المشار إليه هو المسمى بذلك - ألا تعلم المكتوب ؟ والاسم يراد به من الكلام المؤلف المسمى فإذا قال : { محمد رسول الله والذين معه } فالمراد أن المسمى الذي اسمه محمد هو رسول الله ; ليس المراد أن نفس اللفظ والخط هو رسول الله .

                ومن هنا تنازع الناس في " الاسم " هل هو المسمى أو غيره وكان الصواب أن يمنع من كلا الإطلاقين ويقال كما قال الله تعالى : { ولله الأسماء الحسنى } وكما قال صلى الله عليه وسلم { إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة } . والذين أطلقوا أنه المسمى كان أصل مقصودهم أن المراد به هو المسمى وأنه إذا ذكر الاسم فالإشارة به إلى مسماه وإذا قال العبد حمدت الله ودعوت الله وعبدت الله فهو لا يريد إلا أنه عبد المسمى بهذا الاسم .

                والذين نفوا ذلك رأوا أن نفس اللفظ أو الخط ليس هو الأعيان المسماة بذلك وآخرون فرقوا بين التسمية والاسم فجعلوا الألفاظ هي التسمية وجعلوا الاسم هو الأعيان المسماة بالألفاظ فخرجوا عن موجب اللغة المعروفة التي جاء بها الكتاب والسنة .

                [ ص: 170 ] وأصل مقصود الطوائف كلها صحيح ; إلا من توسل منهم بقوله إلى قول باطل : مثل قول الجهمية إن الاسم غير المسمى ; فإنهم توسلوا بذلك إلى أن يقولوا : أسماء الله غيره . ثم قالوا : وما كان غير الله فهو مخلوق بائن عنه فلا يكون الله تعالى سمى نفسه باسم ولا تكلم باسم من أسمائه ولا يكون له كلام تكلم به ; بل لا يكون كلامه إلا ما كان مخلوقا بائنا عنه .

                فهؤلاء لما علم السلف أن مقصودهم باطل أنكروا إطلاقهم القول بأن كلام الله غير الله وأن علم الله غير الله وأمثال ذلك ; لأن لفظ " الغير " مجمل يحتمل الشيء البائن عن غيره ويحتمل الشيء الذي ليس هو إياه ولا هو بائن عنه . فمن قال : إنه غيره ليجعله بائنا عنه كان كلا المعنيين صحيحا وإن كان في العبارة تقصير .

                وهكذا أنكر الأئمة قول من قال : لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق . وقالوا : من قال هو مخلوق فهو جهمي ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع . وكذلك قالوا في " التلاوة والقراءة " لأن اللفظ والتلاوة والقراءة يراد بهما المصدر الذي هو فعل العبد وأفعال العباد مخلوقة فمن جعل شيئا من أفعالهم وأصواتهم وغير ذلك من صفاتهم غير مخلوق فهو مبتدع ويراد ب " اللفظ " نفس الملفوظ كما يراد بالتلاوة والقراءة نفس الكلام وهو القرآن نفسه . ومن قال كلام [ ص: 171 ] الله الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم وقرأه المسلمون مخلوق فهو جهمي .

                ومن المعلوم أنه إذا سمع الناس كلام محدث يحدث بحديث النبي صلى الله عليه وسلم كقوله : { إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى } قالوا : هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو هذا كلامه بعينه . لأنهم قد علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بذلك الكلام لفظه ومعناه وتكلم بصوته ثم المبلغ له عنه بلغه بصوت نفسه فالكلام كلام النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي تكلم بمعانيه وألف حروفه بصوته والمبلغ له بلغه بفعل نفسه وصوت نفسه .

                فإذا قالوا : هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم كانت إشارتهم إلى نفس الكلام الذي هو الكلام حروفه ونظمه ومعانيه لا إلى ما اختص به المبلغ من حركاته وأصواته ; بل يضيفون الصوت إلى المبلغ فيقولون صوت حسن وما كان في الكلام من فصاحة حروفه ونظمه وبلاغة معانيه فإنما يضاف إلى المتكلم به ابتداء لا إلى المبلغ له ; ولكن يضاف إلى المبلغ حسن الأداء : كتجويد الحروف وتحسين الصوت . ولهذا قال تعالى : { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } .

                [ ص: 172 ] { وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس فيقول : ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي ؟ } وقال النبي صلى الله عليه وسلم { زينوا القرآن بأصواتكم } وقال : { الله أشد أذنا إلى الرجل يحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته } .

                فبين الله ورسوله أن القرآن المسموع كلام الله لا كلام أحد من المخلوقين والناس يقرءونه بأصواتهم فمن قال : إن هذا القرآن المسموع ليس هو كلام الله أو هو كلام القارئين كان فساد قوله معلوما بالضرورة شرعا وعقلا كما أن من قال : إن هذا الصوت المسموع ليس هو صوت العبد أو هو صوت الله كان فساد قوله معلوما بالضرورة شرعا وعقلا ; بل هذا هو كلام الله لا كلام غيره سمعه جبريل من الله وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم من جبريل وسمعه المسلمون من نبيهم . ثم بلغه بعضهم إلى بعض وليس لأحد من الوسائط فيه إلا التبليغ بأفعاله وصوته لم يحدث منهم أحد شيئا من حروفه ولا نظمه ولا معانيه ; بل جميع ذلك كلام الله تعالى .

                [ القول الخامس ] قول الهشامية والكرامية ومن وافقهم أن كلام الله حادث قائم بذات الله بعد أن لم يكن متكلما بكلام ; بل ما زال عندهم قادرا على الكلام وهو عندهم لم يزل متكلما بمعنى أنه لم يزل قادرا على الكلام وإلا فوجود الكلام عندهم في الأزل ممتنع ; كوجود [ ص: 173 ] الأفعال عندهم وعند من وافقهم من أهل الكلام كالمعتزلة وأتباعهم . وهم يقولون : إنه حروف وأصوات حادثة بذات الرب بقدرته ومشيئته . ولا يقولون : إن الأصوات المسموعة والمداد الذي في المصحف قديم ; بل يقولون : إن ذلك محدث .

                [ القول السادس ] قول الجمهور وأهل الحديث وأئمتهم : إن الله تعالى لم يزل متكلما إذا شاء وأنه يتكلم بصوت كما جاءت به الآثار والقرآن وغيره من الكتب الإلهية كلام الله تكلم الله به بمشيئته وقدرته ليس ببائن عنه مخلوقا . ولا يقولون إنه صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما ولا أن كلام الله تعالى من حيث هو هو حادث ; بل ما زال متكلما إذا شاء وإن كان كلم موسى وناداه بمشيئته وقدرته فكلامه لا ينفد كما قال تعالى : { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا } .

                ويقولون : ما جاءت به النصوص النبوية الصحيحة ودلت عليه العقول الزكية الصريحة فلا ينفون عن الله تعالى صفات الكمال سبحانه وتعالى . فيجعلونه كالجمادات التي لا تتكلم ولا تسمع ولا تبصر . فلا تكلم عابديها ولا تهديهم سبيلا ولا ترجع إليهم قولا ولا تملك لهم ضرا ولا نفعا .

                [ ص: 174 ] ومن جعل كلام الله لا يقوم إلا بغير الله كان المتصف به هو ذلك الغير فتكون الشجرة هي القائلة لموسى { إنني أنا الله } ولهذا اشتد نكير السلف على من قال ذلك . وقالوا هذا نظير قول فرعون : { أنا ربكم الأعلى } أي هذا كلام قائم بغير الله ; ولهذا صرح بحقيقة ذلك الاتحادية : كابن عربي ونحوه الذين يقولون :

                وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه

                .

                وأهل هذا القول - الموافقون للسلف والأئمة - لا يقولون إن الرب كان مسلوبا صفات الكمال في الأزل وإنه كان عاجزا عن الكلام حتى حدث له قدرة عليه كالطفل . والذين يقولون : إن القرآن مخلوق يجعلون الكلام لغيره فيسلبونه صفات الكمال ويقولون : إنه لا يقدر على الكلام في الأزل لا على كلام مخلوق ولا غيره . وهم إن لم يصرحوا بالعجز عن الكلام في الأزل فهو لازم لقولهم . والكرامية فروا من الأول ; وجعلوه متكلما بكلام يقوم به ; لكن لم يجعلوه متكلما في الأزل ; بل ولا قادرا على الكلام في الحقيقة في الأزل .

                والكلابية ومن وافقهم من السالمية ونحوهم وصفوه بالكلام في الأزل وقالوا : إنه موصوف به أزلا وأبدا لكن لم يجعلوه قادرا على الكلام ولا متكلما بمشيئته واختياره ولا يقدر أن يحدث شيئا [ ص: 175 ] يكون به مكلما لغيره ; لكن يخلق لغيره إدراكا بما لم يزل كما يزيل العمى عن الأعمى الذي لا يرى الشمس التي كانت ظاهرة متجلية لا أن الشمس في نفسها تجلت وظهرت وهذا يقول كثير من هؤلاء في رؤيته إنها ليست إلا مجرد خلق الإدراك ليس هناك حجب منفصلة عن الرائي فلا يكشف حجابا ولا يرفع حجابا .

                والقرآن مع الحديث ومع العقل يرد على هؤلاء ; كقوله تعالى : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا } ولو كان الحجاب هو عدم الرؤية : لكان الوحي وإرسال الرسل من وراء حجاب . وقال تعالى : { فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا } وفي الصحيح : { إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد ; يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون : ما هو ؟ ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويدخلنا الجنة وينجينا من النار ؟ قال : فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر } والآثار في ذلك كثيرة .

                و " أيضا " فقول الكلابية : إن الحقائق المتنوعة شيء واحد وقول الآخرين إن الأصوات المتضادة تجتمع في آن واحد مما يقول أكثر العلماء العقلاء إنه معلوم الفساد بالضرورة وقد بسط الكلام على هذه الأقوال في غير هذا الموضع .

                [ ص: 176 ] و " المقصود هنا " الجواب عن قول هذا القائل : فقوم إلى أنه قديم الصوت والحرف وهم الحشوية . إن أراد بذلك قول من يقول إن نفس الأصوات مجتمعة في الأزل : فهذا قول من تقدم من السالمية وغيرهم من أهل الكلام والحديث .

                وأما قول القائل : " حشوية " فهذا اللفظ ليس له مسمى معروف لا في الشرع ولا في اللغة ولا في العرف العام ; ولكن يذكر أن أول من تكلم بهذا اللفظ عمرو بن عبيد . وقال : كان عبد الله بن عمر حشويا . وأصل ذلك : أن كل طائفة قالت قولا تخالف به الجمهور والعامة [ ينسب ] إلى أنه قول الحشوية أي الذين هم حشو في الناس ليسوا من المتأهلين عندهم ; فالمعتزلة تسمي من أثبت القدر حشويا والجهمية يسمون مثبتة الصفات حشوية والقرامطة - كأتباع الحاكم - يسمون من أوجب الصلاة والزكاة والصيام والحج حشويا .

                وهذا كما أن الرافضة يسمون قول أهل السنة والجماعة قول الجمهور وكذلك الفلاسفة تسمي ذلك قول الجمهور فقول الجمهور وقول العامة من جنس واحد .

                فإن كان قائل ذلك يعتقد أن الخاصة لا تقوله ; وإنما تقوله العامة والجمهور فأضافه إليهم وسماهم حشوية . والطائفة تضاف تارة إلى الرجل الذي هو رأس مقالتها كما يقال : الجهمية والإباضية والأزارقة والكلابية والأشعرية والكرامية [ ص: 177 ] ويقال في أئمة المذاهب : مالكية وحنفية وشافعية وحنبلية . وتارة تضاف إلى قولها وعملها كما يقال : الروافض والخوارج والقدرية والمعتزلة ونحو ذلك . ولفظة الحشوية لا ينبني لا عن هذا ولا عن هذا .

                وأما قوله : وقوم ذهبوا إلى أنه حادث بالصوت والحرف - وهم الجهمية - فهو كلام من لا يعرف مقالات الناس . فإن الجهمية يقولون : إن الله لا يتكلم وليس له كلام وإنما خلق شيئا فعبر عنه ومنهم قال : إنه يتكلم بكلام يخلقه في غيره وهو قول المعتزلة .

                وأما الكرامية فتقول : إن القرآن كلام الله غير مخلوق وهو متكلم به بحرف وصوت . ويقولون مع ذلك : إنه حادث قائم به وهم ليسوا من الجهمية ; بل يردون عليهم أعظم الرد وهم أعظم مباينة لهم من الأشعرية . ويقولون مع ذلك : إن القرآن حادث في ذات الله .

                ثم من هؤلاء من يقول : إن كلام الله كله حادث ومنهم من لا يقول ذلك وهذا القول معروف عن أبي معاذ التومني وزهير البابي وداود بن علي الأصبهاني بل والبخاري صاحب الصحيح وغيره وطوائف كثيرة يذكر عنهم هذا فليس كل من قال : إنه حادث كان من الجهمية ولا يقول إنه مخلوق .

                [ ص: 178 ] وأما قوله : وقوم نحوا إلى أنه قديم لا بصوت ولا حرف إلا معنى قائم بذات الله - وهم الأشعرية - فهذا صحيح ; ولكن هذا القول أول من قاله في الإسلام عبد الله بن كلاب ; فإن السلف والأئمة كانوا يثبتون لله تعالى ما يقوم به من الصفات والأفعال المتعلقة بمشيئته وقدرته .

                والجهمية تنكر هذا وهذا فوافق ابن كلاب السلف على القول بقيام الصفات القديمة وأنكر أن يقوم به شيء يتعلق بمشيئته وقدرته . وجاء أبو الحسن الأشعري بعده - وكان تلميذا لأبي علي الجبائي المعتزلي ثم إنه رجع عن مقالة المعتزلة وبين تناقضهم في مواضع كثيرة وبالغ في مخالفتهم في مسائل القدر والإيمان والوعد والوعيد حتى نسبوه بذلك إلى قول المرجئة والجبرية والواقفة - وسلك في الصفات طريقة ابن كلاب . وهذا القول في القرآن هو قول ابن كلاب في الأصل وهو قول من اتبعه كالأشعري وغيره .

                وقوله : فمن قال إن الحرف والصوت الملفوظ بهما عين الكلام القديم فلأهل الحق فيه رأيان : رأي بتكفيره ورأي بتبديعه إلى قوله : وليعلم أن الحرف اللساني والحرف البناني كلاهما مقيد بزمام تصرفه .

                [ ص: 179 ] فيقال : أما القول بأن المداد المكتوب قديم فما علمنا قائلا معروفا قال به وما رأينا ذلك في كتاب أحد من المصنفين لا من أصحاب أبي حنيفة ولا مالك ولا الشافعي ولا أحمد ; بل رأينا في كتب طائفة من المصنفين من أصحاب مالك والشافعي وأحمد إنكار القول بأن المداد قديم وتكذيب من نقل ذلك وفي كلام بعضهم ما يدل على أن في المصحف حرفا قديما ليس هو المداد .

                ثم منهم من يقول : هو ظاهر فيه ليس بحال ومنهم من يقول هو حال . وفي كلام بعضهم ما يقتضي أن يكون ذلك هو الشكل : شكل الحرف وصورته ; لا مادته التي هي مداده وهذا القول أيضا باطل كما أن القول بأن شيئا من أصوات الآدميين قديم هو قول باطل وهو قول قاله طائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وجمهور هؤلاء ينكرون هذا القول . وكلام الإمام أحمد وجمهور أصحابه في إنكار هذا القول كثير مشهور .

                ولا ريب أن من قال إن أصوات العباد قديمة فهو مفتر مبتدع له حكم أمثاله كما أن من قال : إن هذا القرآن ليس هو كلام الله فهو مفتر مبتدع له حكم أمثاله .

                ومن قال : إن القرآن العربي ليس هو كلام الله بل بعضه كلام [ ص: 180 ] الله وبعضه ليس كلام الله فهو مفتر مبتدع له حكم أمثاله .

                ومن قال : إن معنى آية الكرسي وآية الدين و { قل هو الله أحد } و { تبت يدا أبي لهب وتب } معنى واحد فهو مفتر مبتدع له حكم أمثاله . وأما " التكفير " : فالصواب أنه من اجتهد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقصد الحق فأخطأ : لم يكفر ; بل يغفر له خطؤه . ومن تبين له ما جاء به الرسول فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين : فهو كافر . ومن اتبع هواه وقصر في طلب الحق وتكلم بلا علم : فهو عاص مذنب . ثم قد يكون فاسقا وقد تكون له حسنات ترجح على سيئاته .

                ف " التكفير " يختلف بحسب اختلاف حال الشخص فليس كل مخطئ ولا مبتدع ولا جاهل ولا ضال يكون كافرا ; بل ولا فاسقا بل ولا عاصيا لا سيما في مثل " مسألة القرآن " وقد غلط فيها خلق من أئمة الطوائف المعروفين عند الناس بالعلم والدين . وغالبهم يقصد وجها من الحق فيتبعه ويعزب عنه وجه آخر لا يحققه فيبقى عارفا ببعض الحق جاهلا ببعضه ; بل منكرا له .

                ومن ههنا نشأ نزاعهم فالذين قالوا إنه مخلوق : رأوا أن [ ص: 181 ] الكلام لا يكون إلا بقدرة المتكلم . ومشيئته وإن كلاما لازما لذات المتكلم لا يعقل ; فإنه إن جعل معنى واحدا كان مكابرة للعقل وكذلك إن جعل أصواتا أزلية ثم ظنوا أن ما كان بقدرة الرب ومشيئته لا يكون إلا منفصلا عنه وما انفصل عنه فهو مخلوق . ولهذا أنكروا أن يجيء أو يأتي أو ينزل وغير ذلك مما جاء به الكتاب والسنة .

                وآخرون وافقوهم على هذا الأصل الذي أحدثه أولئك وهو أنه لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته ; لكن رأوا أن كلاما لا يقوم بالمتكلم لا يكون كلاما له . فقالوا : إن كلامه قائم به .

                ثم رأى " فريق " أن قدم الأصوات ممتنع فجعلوا القديم هو المعنى ثم رأوا أن تعدد المعاني القديمة ممتنع وأنه يفضي إلى وجود معاني لا نهاية لها فقالوا هو معنى واحد .

                ورأى " فريق آخر " أن كون المعاني المتنوعة معنى واحدا ممتنع وكون الرب لم يتكلم بحروف القرآن بل خلقها في غيره موافقة لمن جعل الكلام لا يقوم بالمتكلم ; فإن تلك الحروف المنظومة - كالقرآن العربي - إن قالوا هو كلام الله لزم أن لا يكون كلامه قائما به بل بغيره ; وإن قالوا ليس كلاما لله لزم أن يكون كلاما لمن خلقت فيه فلا يكون الكلام العربي كلاما لله ; بل كلاما لمن خلق فيه . وهذا [ ص: 182 ] هو الذي أنكروه على من قال القرآن مخلوق . والذي قال إنه مخلوق لم يقل إلا هذا ; فلزمهم أن يوافقوا في الحقيقة قول من يقول : القرآن مخلوق وإن ضموا إلى ذلك قولا لا حقيقة له يخالف العقل والنقل : وهو إثبات معنى واحد يكون هو جميع معاني التوراة والإنجيل والقرآن ; لكنهم إنما قالوا ذلك فرارا من أقوال ظنوها باطلة فلم يقصدوا إلا الفرار عما رأوه باطلا فوقعوا في أقوال لها لوازم تقتضي بطلانها أيضا .

                فلما رأى هذا " الفريق الثاني " ما أجاب به هؤلاء قالوا : إنه حروف وأصوات قديمة أزلية . فرد عليهم غيرهم . وقالوا : إن الأصوات متضادة في نفسها والضدان لا يجتمعان وأقل ما في الأمور القديمة أن تكون مجتمعة وقالوا لهم : الأصوات مستلزمة للحركات المستلزمة للقدرة والإرادة فلا تكون الأصوات إلا بقدرة وإرادة وما كان كذلك لم يكن قديم العين ; لكن النزاع في كونه قديم النوع . وقالوا : الأصوات هي في نفسها يمتنع بقاؤها وما امتنع بقاؤه امتنع قدمه فامتنع قدم الأصوات .

                وقال " آخرون " : إذا كان الأمر كذلك كان متكلما بحروف وأصوات حادثة بمشيئته وقدرته قائمة بذاته لكن يمتنع قدم شيء من ذلك ; لأن الحوادث لا تكون أزلية ورأوا أن هذا القول ينجيهم من [ ص: 183 ] سائر ما وقع فيه غيرهم وليس فيه ما ينكر أولئك عليهم إلا أن يقوم بذات الرب ما يتعلق بمشيئته وقدرته .

                فإن المعتزلة نفت أن يقوم به شيء من المعاني وعبروا عن ذلك بأنه لا يقوم به شيء من الأعراض والحوادث فسموا ما يقوم به من العلم والقدرة والحياة أعراضا . وما يقوم به من الخلق والإحسان والإتيان والمجيء والنزول حوادث . وقالوا - لسلف الأمة وأئمتها وجمهورها : - إن قلتم الكلام المعين لازم له فقد قلتم إنه تقوم به الأعراض وإن قلتم يتكلم باختياره وقدرته فقد قلتم تقوم به الحوادث .

                فقال هؤلاء : كلام المعتزلة وقولهم لا تقوم به هذه الأمور : كلام باطل مخالف للكتاب والسنة ولإجماع سلف الأمة . وهو أيضا مخالف لصريح العقل ; فإن إثبات عالم بلا علم وقادر بلا قدرة وحي بلا حياة ممتنع في صريح العقل . وكذلك إثبات خالق وعادل بلا خلق ولا عدل وإثبات فاعل لا يقوم به فعل وإثبات رب لا يقدر على التصرف بنفسه ; بل يكون بمنزلة الجماد سلب لصفات الكمال عنه كما أن إثبات رب لا يعلم ولا يقدر سلب لصفات الكمال عنه .

                [ ص: 184 ] قال هؤلاء : فإذا قلنا إنه تكلم بالكلام حروفه ومعانيه . بمشيئته وقدرته سلمنا من هذه المحاذير ولم يكن منا محذور شرعي ولا عقلي .

                فقال لهم " الفريق السابع " : ولكن جعلتموه عاجزا عن الكلام في الأزل مسلوبا للكمال ولزمكم أن يقال : إذا كان من الأزل إلى الأبد لم يتكلم ثم تكلم كان ذلك أمرا حادثا فيحتاج إلى سبب حادث والقول في ذلك الحادث كالقول في الأول ; فيلزم تسلسل الحوادث . فإن كان ذلك ممتنعا بطل قولكم وإن كان جائزا فقولوا لم يزل متكلما إذا شاء كما قاله أئمة السنة وجماهير أهل الحديث فإنكم حينئذ تكونون قد وصفتم ربكم بصفات الكمال أزلا وأبدا .

                قالوا : وهذا القول خير من سائر الأقوال مع موافقته المعقول وصحيح المنقول . فقال لهم أولئك : هذا يستلزم حوادث لا أول لها . وذلك ممتنع فقال لهم هؤلاء : هذا كلام مبتدع وإنما أخذتموه عن المعتزلة لم يأت به كتاب ولا سنة ولا قاله أحد من سلف الأمة وأئمتها ولا دل عليه العقل : بل العقل يدل على نقيضه .

                والذين قالوا هذا القول من المعتزلة ومن تبعهم من الكرامية والأشعرية : ظنوا أنهم بهذا القول يثبتون حدوث العالم . بناء على أن الأجسام لا تخلو من الأعراض المحدثة وما لا يخلو من الحوادث فهو [ ص: 185 ] محدث وهذا القول هو الذي سلط عليهم " الفلاسفة الدهرية " القائلين بقدم العالم ; فإن هذا القول الذي قالوه وجعلوه مستلزما لحدوث العالم هو مناقض لحدوث العالم بل هو مناقض لإثبات الصانع . فهم قصدوا نصر الإسلام بما ينافي دين الإسلام .

                ولهذا كثر ذم السلف لمثل هذا الكلام وهذا هو أصل " الكلام المذموم " عند سلف الأمة وأئمتها ; وذلك لأن الشيء إذا كان يمكن وجوده ويمكن عدمه فلا يوجد إلا بمقتض يستلزم وجوده وإن جاز وجوده بدون ذلك أمكن أن تكون المخلوقات - التي يمكن وجودها وعدمها - وجدت بلا فاعل فلا بد للممكنات من وجود واجب يحصل به وجودها ولا تكون مع وجود المقتضي التام محتملة للوجود والعدم ; بل يكون وجودها لازما حتما . فإن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وإذا شاء الرب شيئا لم يمكن أن لا يكون ; بل يجب كونه بمشيئة الرب تعالى المستلزمة لقدرته .

                قالوا : وإذا كان كذلك : فالحادث الذي يمكن وجوده ويمكن عدمه إذا حدث بدون سبب حادث مع استواء نسبته إلى جميع الأوقات واستواء نسبة جميع الحوادث والأوقات إلى مشيئة الرب وقدرته لزم من ذلك أن يكون قد تخصص بعض الحوادث بالحدوث وبعض [ ص: 186 ] الأزمنة بالحدوث من غير مخصص يقتضي ذلك ومن غير سبب حادث يقتضي الحدوث .

                وهذا مع أنه فاسد في صريح العقول : فهو يبطل ما استدلوا به على إثبات الصانع فلا بد حينئذ أن يكون لحدوث الحوادث سبب حادث ; وحينئذ فما من حادث إلا وهو مسبوق بحادث . وحينئذ : فهذا يقتضي أن الله إذا كان متكلما بمشيئته وقدرته أمكن أنه لا يزال متكلما بمشيئته وقدرته ولم يجز أن يصير متكلما بعد أن لم يكن متكلما بحال ; لأن ذلك يقتضي حدوث الحادث بلا سبب حادث وهو ممتنع ويقتضي أنه تجدد له من صفات الكمال ما أمكن ثبوته في الأزل ; وذلك ممتنع . وذلك لأن صفات الكمال التي يمكن اتصاف الرب بها لا يجوز أن يتوقف ثبوتها له على غيره ; لأنه يلزم أن يكون ذلك الغير هو المعطي له صفات الكمال ومعطي غيره صفات الكمال أولى بأن يكون هو الرب تعالى ورب العالمين الخالق ما سواه الذي يعطيه صفات الكمال لا يكون غيره ربا له بوجه من الوجوه سبحانه وتعالى عن ذلك .

                وحينئذ فيجب اتصافه بالكلام إذا شاء أزلا وأبدا .

                قال هؤلاء : وهذا الأصل يبطل حجة الفلاسفة الدهرية التي [ ص: 187 ] احتجوا بها على قدم العالم وعجزتم أنتم معاشر المعتزلة وأتباعكم - من المتكلمين القائلين بامتناع دوام الحوادث - عنها فإنهم ألزموكم على أصولكم ; إذ قدرتم ثبوت موجود لا يتكلم بمشيئته وقدرته ولا يفعل شيئا بل يمتنع منه في الأزل كل شيء يكون منه : من كلام أو فعل . فقالوا : إذا قدرنا وجود هذا وأنه يبقى دائما أبدا لا يتكلم ولا يفعل شيئا ثم تكلم وفعل ; فلا بد من سبب أوجب حدوث هذا الكلام والفعل إما حدوث قدرة أو إرادة أو علم أو غير ذلك من الأسباب . فأما إذا قدر حاله فيما لا يزال كحاله فيما لم يزل : امتنع أن يتجدد له كلام أو فعل أو غير فعل .

                فهذه حجة الفلاسفة عليكم ; وأنتم لم تجيبوهم إلا بالمكابرة أو بالإلزام " فالمكابرة " دعواكم حدوث الحوادث بلا حدوث سبب ; بل جعلتم نفس القدرة أو الإرادة القديمة : تخصص أحد المتماثلين عن المثل الآخر بلا سبب أصلا مع أن نسبتها إلى جميع المتماثلات نسبة واحدة . وهذا مع أنه معلوم البطلان بالضرورة : فهو يسد عليكم طريق " إثبات الصانع " فإنه مبني على أن الحوادث لا بد لها من محدث والمخصص لا بد له من مخصص والترجيح لا بد له من مرجح ; إذا كان المخصص أو المرجح من الممكنات أو المحدثات .

                وأما " الإلزام " فقولكم إن هذا الإشكال لازم للفلاسفة كما هو [ ص: 188 ] لازم لنا . فإن الحوادث إذا امتنع حدوثها عن علة تامة أزلية - وليس عندكم إلا العلة التامة الأزلية - لزم ألا يكون للحوادث محدث . وأما نحن إذا سلكنا طريق سلف الأمة وأئمتها فنقول لهؤلاء الفلاسفة : بل خلق الله السموات والأرض في ستة أيام كما أخبرت به الرسل فحدثت بأسباب حدثت قبل ذلك وإذا قلنا : إنه لم يزل متكلما إذا شاء - و { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } - كان ما يحدث حادثا بما شاء أن يتكلم به من كلامه ; لا سيما إذا قيل بنظير ذلك في إرادته - سبحانه وتعالى - وأمكننا أن نجيب الفلاسفة بجواب آخر مركب عنا وعنكم .

                فنقول لهم . وجود حوادث لا أول لها ممكن أو ممتنع ؟ .

                فإن قلتم ممتنع : لزمكم القول بحدوث العالم وأمكن حينئذ صحة قول الكرامية ونحوهم .

                وإن قلتم : هو ممكن . قيل : فممكن حينئذ أن يكون هذا العالم حدث بسبب حادث قبله . وكذلك السبب الآخر لا إلى غاية والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع .

                و " المقصود هنا " التنبيه على أن هذه مقامات دقيقة مشكلة [ ص: 189 ] بسببها افترقت الأمة واختلفت . فإذا اجتهد الرجل في متابعة الرسول والتصديق بما جاء به وأخطأ في المواضع الدقيقة التي تشتبه على أذكياء المؤمنين غفر الله له خطاياه ; تحقيقا لقوله : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } وقد ثبت في الصحيح أن الله قال : " قد فعلت "



                وأما قول القائل : ومن قال : كلام الله منزه عن سمات الحدوث إذ الصوت والحرف لازمهما الحدوث فكما لذاته التنزيه عن سمات الخلق كذلك لقوله الحق .

                فيقال له : لا نزاع بين المسلمين ; بل وسائر أهل الملل وغيرهم من العقلاء أن الخالق منزه عن سمات الحدوث فإن قدمه ضروري ; فيمتنع أن يقوم دليل على حدوثه و " السمة " هي العلامة والدليل . ولكن منازعوك في الصوت والحرف : جمهور الخلائق ; إذ لم يوافق الكلابية على قولهم أحد من الطوائف لا الجهمية ولا المعتزلة ولا الضرارية ولا النجارية ولا الكرامية ولا السالمية ولا جمهور المرجئة والشيعة ولا جمهور أهل الحديث والفقه والتصوف ولا الفلاسفة : لا الإلهيون ولا الطبائعيون على اختلاف أصنافهم .

                وخصومهم منهم من يقول : الحروف محدثة مخلوقة في محل منفصل عن الله كما يقولون هم ذلك ; لكن يقولون : هذا كلام الله ليس لله [ ص: 190 ] كلام غيره كما أجمع المسلمون على أن هذا كلام الله بل أجمعت الأمم على أن الكلام لا يعقل إلا كذلك .

                فإن قلتم : هذا هو كلام الله . لزمكم أن يكون كلامه مخلوقا وإن قلتم : ليس ذلك كلام الله خالفتم المعلوم بالاضطرار من الشرع واللغة وإن قلتم نسمي هذا كلام الله وهذا كلام الله كلاهما حقيقة بطريق الاشتراك اللفظي . قيل لكم : فإذا ثبت أن الكلام المخلوق في غيره هو كلام له حقيقة بطل أصل حجتكم التي احتججتم بها حيث قلتم الكلام لا يكون كلاما إلا لمن قام به ولا يكون المتكلم متكلما بكلام يحل في غيره .

                وقالوا لكم أيضا : إثبات المعنى الذي أثبتموه غير هذه الحروف والأصوات يحتاج إلى إثبات وجوده ثم إثبات قدمه ثم إثبات حدوثه وكل من هذه المقامات أنتم فيها منقطعون كما هو مبسوط في موضعه وكما اعترف بذلك فضلاء هذه المقالة .

                و " الفريق الثاني " يقول لكم : إنا نسلم لكم أن الحروف والأصوات محدثة ; لكن نقول هي كلام الله القائم بذاته فإن قلتم هذا يستلزم كونه محلا للحوادث قالوا لكم : ونفس هذا من كلام المعتزلة الذي تلقيتموه عنهم وليس لكم على ذلك حجة لا عقلية ولا شرعية [ ص: 191 ] وقد اعترف فضلاؤكم بأن هذا القول يلزم جمهور الطوائف . وقال لكم منازعوكم : قد دل على هذا الأصل الأدلة الشرعية والعقلية .

                و " الفريق الثالث " يقول لكم : هب أنها محدثة أهي محدثة الأعيان أم نوعها محدث ؟ فإن قلتم : إن كل فرد من أفرادها محدث لم ينفعكم . وإن قلتم بل النوع محدث لامتناع حوادث لا تتناهى . قيل لكم : هذا مما ينازعكم فيه جمهور أهل الحديث مع جمهور الفلاسفة وينازعكم فيه أئمة الملل وأئمة النحل وينازعكم فيه الأئمة من أهل التوراة والإنجيل والقرآن والأئمة ; من الصابئة والفلاسفة والمجوس وغيرهم وإنما ابتدع هذا القول في الإسلام طائفة من أهل الكلام الذين ذمهم أئمة الدين وأعلام المسلمين وهذا القول ليس معلوما بالكتاب والسنة والإجماع ولا قاله أحد من السلف والأئمة وإنما هو قول مبتدع ومبتدعه يزعم أن العقل دل عليه . ويثبت به حدوث العالم والعلم بإثبات الصانع .

                وهؤلاء يقولون له : العقل يدل على نقيضه وأنه مناف مضاد لحدوث العالم ولإثبات الصانع . وهذا مبسوط في موضعه ; وإنما المقصود التنبيه على ما في هذا الكلام من موارد النزاع ومواقع الإجماع .



                [ ص: 192 ] وقول القائل : كما لذاته التنزيه عن سمات الخلق فكذلك لقوله الحق . فهذا من جنس سجع الكهان الذي لا يقيم حقا ولا يبطل باطلا فهل تقول إن كل ما وصف به الرب من الصفات يتصف به كل ما له من الكلمات أو غيرها من الصفات ؟ وإذا قيل : إن الرب تعالى إله قادر خالق معبود فهل يجب أن يكون شيء من كلماته وصفاته إلها قادرا خالقا معبودا ؟ وهذا القول يضاهي قول النصارى الذين قالوا : كما أن أقنوم الوجود إله فكذلك أقنوم الكلمة والروح فيثبتون للصفات الإلهية التي أثبتوها للذات والرب تعالى له كلام قائم بمحل لا يوجد بغيره إذ لا بد للكلام من محل لا يوجد الكلام بدونه فهل يجب أن يفتقر الرب إلى محل يقوم به كما يفتقر الكلام إلى ذلك ؟ ولكن يجب تنزيه كلامه عن كل نقص وعيب ; إذ هو المستحق للكمال في ذاته وصفاته وأفعاله . ويمتنع أن يخلو عن صفات الكمال من الحياة والعلم والقدرة والكلام وغير ذلك من صفات الكمال مع أنه يتصف بها بعض مخلوقاته فالموصوف الواجب الوجود القديم الأزلي أحق بصفات الكمال من المخلوقات وكل كمال ثبت لمخلوق فمن الخالق استفاده والخالق أوهبه إياه وأعطاه فواهب الكمال ومعطيه أحق به وأولى .

                وهذا مما يعبر عنه كل قوم باصطلاحهم حتى تقول المتفلسفة : [ ص: 193 ] كل كمال ثبت للمعلول فهو [ من ] كمال العلة . ومعلوم أن المخلوق الذي خلق من قبل ولم يك شيئا ليس له من نفسه شيء أصلا ; بل كل ما له فمن خالقه سبحانه وتعالى .

                وأما قوله : ولتعلم أن الحرف اللساني والحرف البناني : كلاهما مقيد بزمان يصرفه المولى متكلم قبل الزمان فتعالى كلامه عن أن تكتنفه الحدثان فقد عرف منازعة المنازعين له في هذا ولم يذكر إلا مجرد الدعوى وقد علم أن تصور الدعوى معلوم الفساد بالضرورة عند أكثر العقلاء وأن الدليل عليها مقدمات ينازعه فيها جمهور العقلاء وآخرها ينتهي إلى مقدمات تلقوها عن شيوخهم المعتزلة ; فإن الكلابية والأشعرية إنما أخذوا مقدمات هذا الكلام ومادته منهم . وقد عرف حالهم في ذلك .

                وقوله المولى متكلم قبل الزمان إن أراد أنه سبحانه وتعالى قبل السموات والأرض والليل والنهار وقبل جميع المخلوقات فهذا حق ; لكن من أين له أن كل ما كلم به عباده ويكلمهم به يوم القيامة يجب أن يكون قبل جميع المخلوقات ؟ ومن أين له أنه قبل خلق العالم كان مناديا لموسى قائلا له : { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري } ؟ [ ص: 194 ] وإن أراد أنه سبحانه وتعالى قبل ما يوصف بالقبل فهذا ممتنع فإنه سبحانه موصوف بأنه الأول قبل كل شيء وإن أراد بذلك أن الزمان مقدار الفعل والحركة وأن ذلك ممتنع في الأزل فقد عرف أن أئمة الملل والنحل ينازعونه في هذا مع اتفاق أهل الملل على أن الله خالق السموات والأرض في ستة أيام وقوله : إن الحرف والصوت أداتان يعبر بهما عن المعنى القائم بذات الله كما يعبر الإنسان عما قام به من الطلب . تارة بالبنان وتارة باللسان وتارة بالرأس عند طلب الرواح وعند طلب الإتيان فهذا مذهب الحق ومركب الصدق .

                فيقال له : هذا عليه اعتراضات : " أحدها " أن يقال : ما ذلك المعنى القائم بالذات ؟ أهو واحد كما يقوله الأشعري وهو عنده مدلول التوراة والإنجيل والقرآن ومدلول آية الكرسي والدين ومدلول سورة الإخلاص وسورة الكوثر ؟ أم هو معان متعددة ؟ فإن قال بالأول : كان فساده معلوما بالاضطرار ثم يقال : التصديق فرع التصور ونحن لا نتصور هذا فبين لنا معناه . ثم تكلم على إثباته فإن قال : هو نظير المعاني الموجودة فينا كان هذا الكلام بعد النزول عما يحتمله من التشبيه والتمثيل باطلا ; لأن الذي فينا معان متعددة متنوعة وإما معنى واحد هو أمر بكل مأمور به وخبر عن كل مخبر عنه فهذا غير متصور .

                [ ص: 195 ] " الثاني " أن يقال : هب أنه متصور . فما الدليل على ثبوته ؟ وما الدليل على قدمه ؟ .

                " الثالث " أن يقال : قولك الصوت والحرف عبارة عنه . أتعني به الأصوات المسموعة من القراء أو الحروف الموجودة في التلاوة والمصاحف وإما حروفا وأصواتا غير هذه . فإن قلت بالأول كان باطلا من وجوه : " أحدها " : أنه كل من أجاد القراءة عبر عما في نفس الله من غير أن يكون الله عبر عما في نفسه فيكون المخلوق أقدر من الخالق .

                " الثاني " أن كثيرا من القراء أو أكثرهم لا يفقهون أكثر معاني القرآن والتعبير عما في نفس المعبر فرع على معرفته فمن لم يفهم جميع معاني القرآن - كلام الله - فكيف يعبر عن تلك المعاني " الثالث " أن الناس لا يفهمون معاني القرآن إلا بدلالة ألفاظ القرآن على معانيه ; فإذا سمعوا ألفاظه وتدبروه كان اللفظ لهم دليلا على المعاني والمستدل باللفظ على المعنى الذي أراده المتكلم يمتنع أن يكون هو المعبر باللفظ عن المعنى فإن المعبر باللفظ عن المعنى يعرف المعنى أولا [ ص: 196 ] ثم يدل غيره عليه بالعبارة والناس في القرآن على ضد هذه الحال ; فيمتنع أن يكونوا هم المعبرين به .

                " الرابع " أن كل واحد منهم يعلم أنه تعلم القرآن العربي من غيره وأنه ليس له فيه إلا الحفظ والتبليغ والأداء ; بل يعلم أنه إذا حفظ خطب الخطباء وشعر الشعراء لم يكن هو المعبر عما في أنفسهم بذلك الكلام ; بل يكون الكلام كلامهم وهو قد حفظه وأداه وبلغه . فكيف بكلام رب العالمين " الخامس " إن كل واحد يعلم بالاضطرار أن نفس القرآن العربي كان موجودا قبل وجود كل القراء وأن الناس إنما تلقوه عن محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم تسليما .

                و " بالجملة " فالدلالة على فساد هذا القول أكثر من أن تحصر .

                وإن قلت : بل الحروف والأصوات المعبر بها عن المعاني التي أرادها الله من حروف وأصوات كانت موجودة قبل وجود القراء : ولكن كل من القراء حفظ ذلك النظم العربي الذي كان موجودا قبله قيل لك . فحينئذ قد كان ثم حروف وأصوات غير هذه الأصوات المسموعة من القراء وغير المداد المكتوب في المصاحف وهذا هو [ ص: 197 ] الحق الذي اتفق عليه جميع الخلق .

                فقول القائل : إنه ما ثم إلا المعنى القائم بالذات أو هذه الحروف والأصوات ليس بحق . ويقال له حينئذ : فتلك الحروف والأصوات أهي من كلام الله الذي تكلم به ؟ أم هي مخلوقة خلقها في غيره ؟ فإن قلت : هي من كلام الله تعالى لزمك ما فررت منه حيث أقررت أن لله كلاما هو حروف وأصوات كما يقوله جمهور المسلمين . وإن قلت : ليست كلاما لله فهذه أولى من أن تكون كلاما لله . وحينئذ فلا يكون هذا القرآن كلام الله وهذا مما يعلم بطلانه بالضرورة من دين الإسلام .



                وأما قوله : من قال لفظي عين كلام الله : فقد انسلخ عن ربقة العقل وغرق في بحر العماية والجهل . فيقال : قول القائل : [ لفظي ] " عين كلام الله " كلام مجمل . فإن " اللفظ " في الأصل مصدر لفظ يلفظ لفظا كما أن " التلاوة والقراءة " في الأصل مصدر تلا يتلو وقرأ يقرأ ويعبر باللفظ والتلاوة والقراءة عن نفس الكلام الملفوظ به المتلو المقروء .

                فإن الناس إذا قالوا : اللفظ يدل على المعنى . لم يريدوا باللفظ المصدر ; بل يريدون به الملفوظ به . وإذا قالوا لمن سمعوه يتكلم : هذه ألفاظ حسنة أرادوا به ما يلفظه كما قال تعالى : { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } يراد باللفظ نفس الفعل وقد يراد به نفس القول الذي لفظه اللافظ . وهذا ك " القرآن " قد يراد به المصدر وقد يراد به الكلام المقروء . وقال تعالى : { إن علينا جمعه وقرآنه } { فإذا قرأناه فاتبع قرآنه } والقرآن هنا مصدر كما في الآية عن ابن عباس قال : علينا أن نجمعه في صدرك ثم أن تقرأه بلسانك فإذا قرأه جبريل فاستمع لقراءته . ثم إن علينا أن نبينه .

                وقد يراد ب " القرآن " نفس الكلام المقروء كما قال : { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } وقوله : { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } وقال تعالى : { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله } وقال تعالى : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله } ونظائره كثيرة .

                وإذا كان كذلك : فقول القائل لفظي : هو عين كلام الله . إن أراد به المصدر فقد أخطأ فإن نفس حركاته ليست هي كلام الله وهذا لا يقوله أحد يفهم ما يقول .

                وإن أراد " الثاني " : كان المعنى أن هذا القرآن الذي أتلوه هو عين كلام الله وهذا هو الذي يقصده الناس إذا قالوا : الذي يقرأ [ ص: 199 ] القراء عين كلام الله وهذا الذي نسمعه من القراء عين كلام الله وهذا الذي يقرأ في الصلاة عين كلام الله لا يقصد أحد أن يجعل حركات العباد نفس كلامه .

                ثم إذا قال القائل هذا فقد وافق قول الله تعالى : { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } بل قد علم بالاضطرار من دين الإسلام : أن هذا الذي يقرؤه المسلمون ويكتبونه في مصاحفهم هو كلام الله لا كلام غيره . تارة يسمع منه كما سمعه موسى بن عمران وتارة يسمع من المتلقين عنه كما سمعه الصحابة من الرسول فهذا الذي نسمعه هو كلام الله متلقى عنه مسموعا من المبلغ عنه . قال تعالى : { وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ } وقال تعالى : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } وقال تعالى : { ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم } . والناس يعلمون أن الكلام كلام من قاله آمرا بأمره مخبرا بخبره مبتدئا به لا كلام من بلغه عن غيره وأداه .

                فالناس يقرءون القرآن وليس هو كلامهم ; ولكنه كلام يقرءونه بأفعالهم وأصواتهم . وإذا كان كلام النبي صلى الله عليه وسلم وكلام غيره إذا رواه الناس عنه وبلغوه وقرءوه فهو كلام النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من المتكلمين بذلك الكلام والنبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 200 ] تكلم بلفظه ونظمه ومعناه وتكلم به بحروف وأصوات مع أن أصوات الرواة ليست صوت النبي صلى الله عليه وسلم .

                فالقرآن إذا قرأه الناس وبلغوه بأصواتهم وأفعالهم : كان أولى بأن يكون كلام الله وإن كانوا لم يسمعوه من الله ; بل من الخلق . ومما ينبغي أن يعلم : أن قول الله ورسوله والمؤمنين إن هذا كلام الله ; بل قول الناس لما بلغ من كلام المخلوقين إن هذا كلام فلان حق كما اتفق على ذلك الناس ; لكن عرضت شبهة لكثير من المتنطعين فلم يفرقوا بين ما إذا سمع كلام المتكلم به وبين ما إذا سمع من غيره فظنوا أنه إذا قال : { فأجره حتى يسمع كلام الله } كان بمنزلة سماع موسى كلام الله .

                فقالت " طائفة " المسموع أصوات العباد وكلام الله ليس هو أصوات العباد فلا يكون المسموع كلام الله .

                وقالت " طائفة " بل هذا كلام الله وهذا مخلوق ; فكلام الله مخلوق .

                وقالت " طائفة " : بل هذا كلام الله وكلام الله غير مخلوق فهذا غير مخلوق .

                [ ص: 201 ] وهذا إذا أطلقوه " مجملا " فهو حق ; لكن قال بعضهم : هذا لفظي أو تلاوتي أو صوتي ; فلفظي أو تلاوتي أو صوتي غير مخلوق ; فضلوا كما ضل غيرهم ; ولو اهتدوا لعلموا أنا إذا قلنا : هذا كلام الله فلم نشر إليه بما امتاز قارئ عن قارئ إذا كان من المعلوم أنه ما يسمع من كل قارئ فهو كلام الله مع العلم بأن صوت هذا القارئ ليس هو صوت هذا القارئ فقد اتحد من جهة كونه كلام الله . واختلف من جهة أصوات القراء .

                وهو كلام الله باعتبار الحقيقة المتحدة لا باعتبار ما اختلف فيه أحوال القراء . وهذا لأن الكلام إنما يقصد به لفظه ومعناه ولفظه هو الحروف المقروءة المنظومة . وإن كانت الحروف أصواتا مقطعة أو هي أطراف الأصوات المقطعة فهي من الكلام باعتبار صورتها الخاصة من التقطيع والتأليف لا باعتبار المادة الصوتية التي يشترك فيها جميع الصائتين ; ولهذا ما كان في الكلام من بلاغة وبيان وحسن تأليف ونظم وكمال معان وغير ذلك فهو للمتكلم بلفظه ومعناه ليس هو لمجرد صفات الذي بلغه وأداه .

                وأما قول القائل : من قال إن مذهب جهم بن صفوان هو مذهب الأشعري أو قريب أو سواء معه فهو جاهل بمذهب الفريقين ; إذ الجهمية [ ص: 202 ] قائلون بخلق القرآن وبخلق جميع والأشعري يقول بقدم القرآن وإن كلام الإنسان مخلوق للرحمن فوضح للبيب كل من المذاهب الثلاثة .

                فيقال : لا ريب أن قول ابن كلاب والأشعري ونحوهما من المثبتة للصفات ليس هو قول الجهمية بل ولا المعتزلة بل هؤلاء لهم مصنفات في الرد على الجهمية والمعتزلة وبيان تضليل من نفاها بل هم تارة يكفرون الجهمية والمعتزلة وتارة يضللونهم . لا سيما والجهم هو أعظم الناس نفيا للصفات بل وللأسماء الحسنى . قوله من جنس قول الباطنية القرامطة حتى ذكروا عنه أنه لا يسمى الله شيئا ولا غير ذلك من الأسماء التي يسمى بها المخلوق . لأن ذلك بزعمه من التشبيه الممتنع . وهذا قول القرامطة الباطنية .

                وحكي عنه أنه لا يسميه إلا " قادرا فاعلا " ; لأن العبد عنده ليس بقادر ولا فاعل إذ كان هو رأس المجبرة . وقوله في الإيمان شر من قول المرجئة فإنه لا يجعل الإيمان إلا مجرد تصديق القلب . و ابن كلاب " إمام الأشعرية أكثر مخالفة لجهم وأقرب إلى السلف [ ص: 203 ] من الأشعري نفسه والأشعري أقرب إلى السلف من القاضي أبي بكر الباقلاني . والقاضي أبو بكر وأمثاله أقرب إلى السلف من أبي المعالي وأتباعه فإن هؤلاء نفوا الصفات : كالاستواء والوجه واليدين .

                ثم اختلفوا هل تتأول أو تفوض ؟ على قولين أو طريقين فأول قولي أبي المعالي هو تأويلها كما ذكر ذلك في " الإرشاد " وآخر قوليه تحريم التأويل ذكر ذلك في " الرسالة النظامية " واستدل بإجماع السلف على أن التأويل ليس بسائغ ولا واجب .

                وأما الأشعري نفسه وأئمة أصحابه فلم يختلف قولهم في إثبات الصفات الخبرية وفي الرد على من يتأولها كمن يقول : استوى بمعنى استولى . وهذا مذكور في كتبه كلها ك " الموجز الكبير " و " المقالات الصغيرة والكبيرة " و " الإبانة " وغير ذلك . وهكذا نقل سائر الناس عنه حتى المتأخرون كالرازي والآمدي ينقلون عنه إثبات الصفات الخبرية ولا يحكون عنه في ذلك قولين .

                فمن قال : إن الأشعري كان ينفيها وأن له في تأويلها قولين : فقد افترى عليه ; ولكن هذا فعل طائفة من متأخري أصحابه كأبي المعالي ونحوه ; فإن هؤلاء أدخلوا في مذهبه أشياء من أصول المعتزلة .

                [ ص: 204 ] و " الأشعري " ابتلي بطائفتين : طائفة تبغضه وطائفة تحبه كل منهما يكذب عليه ويقول : إنما صنف هذه الكتب تقية وإظهارا لموافقة أهل الحديث والسنة من الحنبلية وغيرهم . وهذا كذب على الرجل فإنه لم يوجد له قول باطن يخالف الأقوال التي أظهرها ولا نقل أحد من خواص أصحابه ولا غيرهم عنه ما يناقض هذه الأقوال الموجودة في مصنفاته . فدعوى المدعي أنه كان يبطن خلاف ما يظهر دعوى مردودة شرعا وعقلا ; بل من تدبر كلامه في هذا الباب - في مواضع - تبين له قطعا أنه كان ينصر ما أظهره ; ولكن الذين يحبونه ويخالفونه في إثبات الصفات الخبرية يقصدون نفي ذلك عنه لئلا يقال : إنهم خالفوه مع كون ما ذهبوا إليه من السنة قد اقتدوا فيه بحجته التي على ذكرها يعولون وعليها يعتمدون .

                و " الفريق الآخر " : دفعوا عنه لكونهم رأوا المنتسبين إليه لا يظهرون إلا خلاف هذا القول ولكونهم اتهموه بالتقية وليس كذلك بل هو انتصر للمسائل المشهورة عند أهل السنة التي خالفهم فيها المعتزلة ; كمسألة " الرؤية " و " الكلام " وإثبات " الصفات " ونحو ذلك ; لكن كانت خبرته بالكلام خبرة مفصلة وخبرته بالسنة خبرة مجملة ; فلذلك وافق المعتزلة في بعض أصولهم التي التزموا لأجلها خلاف السنة واعتقد أنه يمكنه الجمع بين تلك الأصول وبين الانتصار [ ص: 205 ] للسنة كما فعل في مسألة الرؤية والكلام والصفات الخبرية وغير ذلك .

                والمخالفون له من أهل السنة والحديث ومن المعتزلة والفلاسفة يقولون : إنه متناقض وإن ما وافق فيه المعتزلة يناقض ما وافق فيه أهل السنة كما أن المعتزلة يتناقضون فيما نصروا فيه دين الإسلام فإنهم بنوا كثيرا من الحجج على أصول تناقض كثيرا من دين الإسلام ; بل جمهور المخالفين للأشعري من المثبتة والنفاة يقولون : إنما قاله في مسألة الرؤية والكلام : معلوم الفساد بضرورة العقل .

                ولهذا يقول أتباعه : إنه لم يوافقنا أحد من الطوائف على قولنا في " مسألة الرؤية والكلام " ; فلما كان في كلامه شوب من هذا وشوب من هذا : صار يقول من يقول إن فيه نوعا من التجهم . وأما من قال : إن قوله قول جهم فقد قال الباطل . ومن قال : إنه ليس فيه شيء من قول جهم فقد قال الباطل والله يحب الكلام بعلم وعدل وإعطاء كل ذي حق حقه وتنزيل الناس منازلهم .

                وقول جهم هو النفي المحض لصفات الله تعالى وهو حقيقة قول القرامطة الباطنية ومنحرفي المتفلسفة : كالفارابي وابن سينا . وأما مقتصدة الفلاسفة كأبي البركات صاحب المعتبر وابن رشد الحفيد - ففي قولهم من الإثبات ما هو خير من قول جهم ; فإن المشهور عنهم إثبات الأسماء [ ص: 206 ] الحسنى وإثبات أحكام الصفات ففي الجملة قولهم خير من قول جهم وقول ضرار بن عمرو الكوفي خير من قولهم .

                وأما ابن كلاب والقلانسي والأشعري فليسوا من هذا الباب بل هؤلاء معروفون بالصفاتية مشهورون بمذهب الإثبات ; لكن في أقوالهم شيء من أصول الجهمية وما يقول الناس إنه يلزمهم بسببه التناقض وإنهم جمعوا بين الضدين وإنهم قالوا ما لا يعقل ويجعلونهم مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء فهذا وجه من يجعل في قولهم شيئا من أقوال الجهمية كما أن الأئمة - كأحمد وغيره - كانوا يقولون : افترقت الجهمية على " ثلاث فرق " : فرقة يقولون : القرآن مخلوق . وفرقة تقف ولا تقول مخلوق ولا غير مخلوق . وفرقة تقول : ألفاظنا بالقرآن مخلوقة .

                ومن المعلوم أنهم إنما أرادوا بذلك افتراقهم في " مسألة القرآن " خاصة وإلا فكثير من هؤلاء يثبت الصفات والرؤية والاستواء على العرش وجعلوه من الجهمية في بعض المسائل : أي أنه وافق الجهمية فيها ; ليتبين ضعف قوله لا أنه مثل الجهمية ولا أن حكمه حكمهم ; فإن هذا لا يقوله من يعرف ما يقول .

                ولهذا عامة كلام أحمد إنما هو يجهم اللفظية لا يكاد يطلق القول بتكفيرهم كما يطلقه بتكفير المخلوقية وقد نسب إلى هذا القول غير واحد من المعروفين بالسنة والحديث : كالحسين الكرابيسي [ ص: 207 ] ونعيم ابن حماد الخزاعي والبويطي والحارث المحاسبي ومن الناس من نسب إليه البخاري .



                والقول بأن " اللفظ غير مخلوق " نسب إلى محمد بن يحيى الذهلي وأبي حاتم الرازي ; بل وبعض الناس ينسبه إلى أبي زرعة أيضا ويقول إنه هو وأبو حاتم هجرا البخاري لما هجره محمد بن يحيى الذهلي والقصة في ذلك مشهورة .

                وبعد موت " أحمد " وقع بين بعض أصحابه وبعضهم وبين طوائف من غيرهم بهذا السبب وكان أهل الثغر مع محمد بن داود المصيصي شيخ أبي داود يقولون بهذا . فلما ولي صالح بن أحمد قضاء الثغر : طلب منه أبو بكر المروذي أن يظهر لأهل الثغر " مسألة أبي طالب " فإنه قد شهدها صالح وعبد الله ابنا أحمد والمروذي وفوران وغيرهم . وصنف المروذي كتابا في الإنكار على من قال : إن لفظي بالقرآن غير مخلوق وأرسل في ذلك إلى العلماء بمكة والمدينة والكوفة والبصرة وخراسان وغيرهم ; فوافقوه . وقد ذكر ذلك أبو بكر الخلال في " كتاب السنة " وبسط القول في ذلك .

                ومع هذا فطوائف من المنتسبين إلى السنة وإلى اتباع أحمد كأبي عبد الله بن منده وأبي نصر السجزي وأبي إسماعيل الأنصاري [ ص: 208 ] وأبي العلاء الهمداني وغيرهم يقولون : لفظنا بالقرآن غير مخلوق . ويقولون : إن هذا قول أحمد . ويكذبون - أو منهم من يكذب - برواية أبي طالب ويقولون : إنها مفتعلة عليه أو يقولون رجع عن ذلك كما ذكر ذلك أبو نصر السجزي في كتابه " الإبانة " المشهور .

                وليس الأمر كما قاله هؤلاء ; فإن أعلم الناس بأحمد وأخص الناس وأصدق الناس في النقل عنه هم الذين رووا ذلك عنه ; ولكن أهل خراسان لم يكن لهم من العلم بأقوال أحمد ما لأهل العراق الذين هم أخص به . وأعظم ما وقعت فتنة " اللفظ " بخراسان وتعصب فيها على البخاري - مع جلالته وإمامته - وإن كان الذين قاموا عليه أيضا أئمة أجلاء فالبخاري - رضي الله عنه - من أجل الناس .

                وإذا حسن قصدهم واجتهد هو وهم أثابه الله وإياهم على حسن القصد والاجتهاد . وإن كان قد وقع منه أو منهم بعض الغلط والخطأ فالله يغفر لهم كلهم ; لكن من الجهال من لا يدري كيف وقعت الأمور حتى رأيت بخط بعض الشيوخ الذين لهم علم ودين يقول : مات البخاري بقرية خرتنك فأرسل أحمد إلى أهل القرية يأمرهم أن [ لا ] يصلوا عليه لأجل قوله في " مسألة اللفظ " وهذا من أبين الكذب على أحمد والبخاري وكاذبه جاهل بحالهما . فإن البخاري - رضي الله عنه - توفي سنة ست وخمسين بعد موت أحمد بخمسة عشر [ ص: 209 ] سنة فإن أحمد توفي سنة إحدى وأربعين وكان أحمد مكرما للبخاري معظما . وأما تعظيم البخاري وأمثاله لأحمد فهذا أظهر من أن يذكر .

                والبخاري ذكر في كتابه في " خلق الأفعال " أن كلتا الطائفتين لا تفهم كلام أحمد . ومن الطائفة الأخرى المنتسبة إلى السنة وأتباع أحمد : أبو نعيم الأصبهاني وأبو بكر البيهقي وغيرهما ممن يقول : إنهم متبعون لأحمد وإن قولهم في " مسألة اللفظ " موافق لقول أحمد . ووقع بين ابن منده وأبي نعيم بسبب ذلك مشاجرة حتى صنف أبو نعيم كتابه في " الرد على الحروفية الحلولية " وصنف أبو عبد الله كتابه في الرد على " اللفظية " .

                والمنتصرون للسنة - من أهل الكلام والفقه : كالأشعري والقاضي أبي بكر بن الطيب والقاضي أبي يعلى وغيرهم - يوافقون أحمد على الإنكار على الطائفتين على من يقول : لفظي بالقرآن مخلوق وعلى من يقول : لفظي بالقرآن غير مخلوق ولكن يجعلون سبب الكراهة كون القرآن لا يلفظ ; لأن اللفظ الطرح والرمي .

                ثم هؤلاء منهم من ينكر تكلم الله بالصوت . ومنهم من يقر بذلك ; بل منهم من يقول إن الصوت المسموع هو الصوت القديم وينكرون مع ذلك على من يقول : لفظي بالقرآن غير مخلوق لظنهم أن الكراهة [ ص: 210 ] في ذلك لما فيه من الطرح والرمي وليس الأمر على ما ظنوه . فإن الإمام أحمد وغيره من الأئمة لم ينكروا قول القائل : لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق لكون اللفظ الطرح فإنه لو كان كذلك لما أنكروا إلا مجرد ما يتصرف من حروف لفظ يلفظ وليس كذلك ; بل أنكروا على من قال التلاوة والقراءة مخلوقة وعلى من قال : تلاوتي وقراءتي غير مخلوقة مع جواز قول المسلمين : قرأت القرآن وتلوته .

                و " أيضا " فإنه يجوز أن يقال : لفظت الكلام وتلفظت به كما قال تعالى : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ولكن الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة قالوا : من قال : لفظي بالقرآن وتلاوتي أو قراءتي مخلوقة فهو جهمي . ومن قال : إنه غير مخلوق فهو مبتدع لأن " اللفظ " و " التلاوة " و " القراءة " يراد به مصدر لفظ يلفظ لفظا ومصدر قرأ يقرأ قراءة وتلا يتلو تلاوة ومسمى المصدر هو فعل العبد وحركاته ليس هو بقديم باتفاق سلف الأمة وأئمتها حتى القدرية القائلون بأن أفعال العباد غير مخلوقة . يقولون : إن ذلك ليس بقديم . ويقولون إنه مخلوق لله .

                والسلف والأئمة - كحماد بن زيد والمعتمر بن سليمان ويحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل وغيرهم - أنكروا على من قال : إن [ ص: 211 ] أقوال العباد وأفعالهم غير مخلوقة وقال يحيى بن سعيد : ما زلت أسمع أصحابنا يقولون : إن أفعال العباد مخلوقة . وقال بعض هؤلاء : من قال إن هذا غير مخلوق فهو بمنزلة من قال : إن سماء الله وأرضه غير مخلوقة . وقد يراد بالتلاوة والقراءة واللفظ نفس القرآن الذي أنزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو كلام الله .



                ومن قال إن كلام الله الذي أنزله على نبيه مخلوق فهو جهمي ; ولهذا قال أحمد وغيره من السلف : القرآن كلام الله حيث تصرف غير مخلوق ولم يقل أحد من السلف والأئمة إن أصوات العباد بالقرآن غير مخلوقة أو قديمة ولا قال أيضا أحد منهم : إن المداد الذي يكتب به القرآن قديم أو غير مخلوق . فمن قال إن شيئا من أصوات العباد أو أفعالهم أو حركاتهم أو مدادهم : قديم أو غير مخلوق فهو مبتدع ضال مخالف لإجماع السلف والأئمة .

                وقد بدع أحمد بن حنبل من هو أحسن حالا من هؤلاء وأمر بهجرهم إن لم يرجعوا عن بدعتهم .

                و " مسألة القرآن " قد كثر فيها اضطراب الناس حتى قال بعضهم : مسألة الكلام حيرت عقول الأنام . وغالبهم يقصدون وجها من [ ص: 212 ] الحق ويعزب عنهم وجه آخر وكلام الأئمة من أشد الكلام كأحمد بن حنبل ومن قبله من أئمة المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر الأئمة الذين لهم في الأمة لسان صدق : مثل سعيد بن المسيب وعلي بن الحسين وعلقمة والأسود والحسن البصري وابن سيرين وغيرهم من التابعين .

                ومثل مالك والثوري والأوزاعي والليث بن سعد وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وأبي حنيفة وابن أبي ليلى وشريك وأمثالهم من تابعي التابعين ومثل الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم وأبي عبيد وأمثالهم من أتباع تابعي التابعين . وهم أئمة أهل القرون الثلاثة الذين دخلوا في ثناء النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : { خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم } .

                ومن تدبر كلام أئمة المسلمين في هذا الباب وغيرهم وجده أشد الكلام المطابق لصريح المعقول وصحيح المنقول . وهذه الجملة لا تحتمل البسط هنا فقد بسطت في غير هذا الموضع وبين أن " الكلام المذموم " الذي ذمه السلف هو الكلام الباطل المخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول ; وأن ما ثبت بالأدلة القطعية لا يتعارض ولا يتناقض أصلا فلا يتعارض دليلان يقينيان أصلا سواء كانا عقليين [ ص: 213 ] أو سمعيين أو كان أحدهما عقليا والآخر سمعيا ومن ظن أنهما يتعارضان كان ذلك خطأ منه ; لاعتقاده في أحدهما أنه يقيني ولا يكون كذلك ولا سيما إذا كانا جميعا غير يقينيين .

                واختلاف الناس في هذا الباب وغيره كثير منه يكون " اختلاف تنوع " مثل أن يقصد هذا حقا فيما يثبته والآخر يقصد حقا فيما نقضه وكلاهما صادق . لكن يظنان أن بينهما نزاعا معنويا ولا يكون الأمر كذلك وكثير من النزاع يعود إلى إطلاقات لفظية لا إلى معان عقلية وأحسن الناس طريقة من كان إطلاقه موافقا للإطلاقات الشرعية والمعاني التي يقصدها معان صحيحة تطابق الشرع والعقل وأصل منشأ نزاع المسلمين في هذا الباب : أن المتكلمين - من الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم - سلكوا في إثبات حدوث العالم وإثبات الصانع طريقا مبتدعة في الشرع مضطربة في العقل وأوجبوها وزعموا أنه لا يمكن معرفة الصانع إلا بها وتلك الطريق فيها مقدمات مجملة لها نتائج مجملة فغلط كثير من سالكيها في مقصود الشارع ومقتضى العقل فلم يفهموا ما جاءت به النصوص النبوية ولم يحرروا ما اقتضته الدلائل العقلية وذلك أنهم قالوا : لا يمكن معرفة [ ص: 214 ] الصانع إلا بإثبات حدوث العالم ولا يمكن إثبات حدوث العالم إلا بإثبات حدوث الأجسام .

                قالوا : والطريق إلى ذلك هو الاستدلال بحدوث الأعراض على حدوث ما قامت به الأعراض فمنهم من استدل بالحركة والسكون فقط ومنهم من احتج بالأكوان التي هي عندهم الاجتماع والافتراق والحركة والسكون . ومنهم من احتج بالأعراض مطلقا . ومبنى الدليل على أن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث ; لامتناع حوادث لا أول لها .

                فيقول لهم المعارضون - من أهل الملل وغيرهم القائلون بأن السموات والأرض محدثة عن عدم والقائلون بأن الأفلاك قديمة أزلية - حدوث الحوادث بعد أن لم تكن أمر حادث . فلا بد له من سبب حادث وإلا لزم ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح .

                وقال لهم القائلون بحدوث الأفلاك من أهل الملل وغيرهم : أنتم أثبتم حدوث العالم بطريق وحدوث العالم لا يتم إلا مع نقيض ما أثبتموه . فما جعلتموه دليلا على حدوث العالم لا يدل على حدوثه ; بل ولا يستلزم حدوثه . والدليل لا بد أن يكون مستلزما المدلول ; بحيث يلزم من تحقق الدليل تحقق المدلول ; بل هو مناف لحدوث العالم مناقض له وهو يقتضي امتناع حدوث العالم بل امتناع حدوث [ ص: 215 ] شيء من الأشياء . وهذا يقتضي بطلانه في نفسه وإنه لو صح لم يدل إلا على نقيض المطلوب ونقيض ما يقوله كل عاقل .

                فإن كل عاقل يعلم حدوث الحوادث في الجملة سواء قيل بقدم الأفلاك أم لم يقل بذلك ; وذلك أن مبنى دليلكم على أن القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح وأن الإرادة الأزلية - التي نسبتها إلى جميع المرادات على السواء - رجحت مرادا على مراد بلا مرجح غير المرجح الذي نسبته إلى جميع المرجحات نسبة واحدة لا يتفاضل .

                ومن المعلوم أن القول بترجيح وجود الممكن على عدمه بلا مرجح أو ترجيح أحد المتماثلين على الآخر بلا سبب يقتضي ذلك باطل في بديهة العقل . ولو قيل : إن ذلك صحيح لبطل الدليل الذي يستدل به على ثبوت الصانع وحدوث العالم فإن مبنى الدليل على أن المحدث لا بد له من محدث وذلك يستلزم أن ترجيح الحدوث على العدم لا بد له من مرجح ولا بد أن يكون المحدث المرجح قد حدث منه ما يستلزم وجود المحدث الذي جعله موجودا وإذا لم يلزم وجوده كان وجوده جائزا ممكنا : فكان محتملا للوجود والعدم .

                فترجيح الوجود على العدم لا بد له من مرجح محدث له فكل [ ص: 216 ] ما أمكن حدوثه إن لم يحصل له ما يستلزم حدوثه لم يحصل فما شاء الله كان لا محالة ووجب وجوده بمشيئة الله وما لم يشأ لم يكن ; بل يمتنع وجوده مع عدم مشيئة الله تعالى له فما شاء الله حدوثه كان لازم الحدوث واجب الحدوث بمشيئة الله لا بنفسه وما لم يشأ حدوثه كان ممتنع الحدوث لازم العدم واجب العدم ; لأنه لم توجد مشيئة الله المستلزمة لحدوثه .

                ثم إن الفلاسفة الدهرية القائلين بقدم العالم قالوا : ما ذكرتموه من الدليل لا يدل على الحدوث ; بل يقتضي عدم الحدوث ; لأن حدوث الحوادث بعد أن لم تكن عن ذات لم تزل معطلة من الفعل باطل فيكون العالم قديما وعبروا عن ذلك بأن جميع الأمور المعتبرة في كونه فاعلا إن وجدت في الأزل لزم وجود الفعل في الأزل وإلا لزم تخلف المقتضى عن المقتضي التام .

                وحينئذ فإذا وجدت بعد ذلك لزم الترجيح بلا مرجح وإن لم توجد في الأزل فوجودها بعد ذلك أمر حادث ; فيقتضي أمرا حادثا وإلا لزم الحدوث بلا محدث وحينئذ فيلزم تسلسل الحوادث فإن القول في هذا الحادث كالقول في غيره . وهذا مما تنكره المعتزلة وموافقوهم المتكلمون . قالوا : فأنتم بين أمرين : إما إثبات التسلسل في الحوادث وإما إثبات الترجيح بلا مرجح وكلاهما ممتنع عندكم .

                [ ص: 217 ] ثم زعم هؤلاء الفلاسفة أن العالم قديم بناء على هذه الحجة ومن سلك سبيل السلف والأئمة أثبت ما أثبتته الرسل من حدوث العالم بالدليل العقلي الذي لا يحتمل النقيض وبين خطأ المتكلمين من المعتزلة ونحوهم الذين خالفوا السلف والأئمة بابتداع بدعة مخالفة للشرع والعقل وبين أن ضلال الفلاسفة - القائلين بقدم العالم ومخالفتهم العقل والشرع - أعظم من ضلال أولئك وبين أن الاستدلال على حدوث العالم لا يحتاج إلى الطريق التي سلكها أولئك المتكلمون بل يمكن إثبات حدوثه بطرق أخرى عقلية صحيحة لا يعارضها عقل صريح ولا نقل صحيح . وثبت بذلك أن ما سوى الله فإنه محدث كائن بعد أن لم يكن سواء سمي جسما أو عقلا أو نفسا أو غير ذلك .

                فإن أولئك المتكلمين من المعتزلة وأتباعهم لما لم يكن في حجتهم إلا إثبات حدوث أجسام العالم قالت الفلاسفة ومن وافقهم من المتأخرين - كالشهرستاني والرازي والآمدي وغيرهم - إنكم لم تقيموا دليلا على نفي ما سوى الأجسام . وحينئذ فإثبات حدوث أجسام العالم لا يقتضي حدوث ما سوى الله إن لم تثبتوا أن كل ما سواه جسم وأنتم لم تثبتوا ذلك ; ولهذا صار بعض المتأخرين - كالأرموي ومن وافقه من أهل مصر كأبي عبد الله القشيري - إلى أن أجسام العالم محدثة . وأما العقول والنفوس فتوقفوا عن حدوثها وقالوا بقدمها [ ص: 218 ] وإن كان حقيقة قولهم إنه موجب بالذات لها وإنه محدث للأجسام بسبب حدوث بعض التصورات والإرادات التي تحدث للنفوس فيصير ذلك سببا لحدوث الأجسام وهذا القول كما أنه معلوم البطلان في الشرع : فهو أيضا معلوم البطلان في العقل كما سنبينه إن شاء الله تعالى .

                فنقول : الدليل الدال على أن كل ما سوى الله محدث يتناول هذا وهذا .

                و " أيضا " فإذا كان موجبا بالذات كان اختصاص حدوث أجسام العالم بذلك الوقت دون ما قبله وما بعده يفتقر إلى مخصص والموجب بذاته لا يصدر عنه ما يختص بوقت دون وقت ; إذ لو جاز ذلك لم يكن موجبا بذاته ; ولجاز حدوث العالم عنه ولأن النفوس التي تثبتها الفلاسفة هي عند جمهورهم عرض قائم بجسم الفلك ; فيمتنع وجودها به بدون الفلك وعند ابن سينا وطائفة أنها جوهر قائم بنفسه لكنها متعلقة بالجسم تعلق التدبير والتصريف . وحينئذ فلو وجدت ولا تعلق لها بالجسم لم تكن نفسا ; بل كانت عقلا فعلم أن وجود النفس مستلزم لوجود الجسم .

                فإذا قال هؤلاء : إن النفس أزلية دون الأجسام كان هذا القول [ ص: 219 ] باطلا بصريح العقل مع أنه لم يعرف به قائل من العقلاء قبل هؤلاء . وإنما ألجأ هؤلاء إلى هذا ظنهم صحة دليل المتكلمين على حدوث الأجسام وصحة قول الفلاسفة بوجود موجود وممكن غير الأجسام وإثبات الموجب بالذات ; فلما بنوا قولهم على الأصل الفاسد لهؤلاء ولهؤلاء : لزم هذا مع أنهم متناقضون في الجمع بين هذين ; فإن عمدة المتكلمين على إبطال حوادث لا أول لها .

                وعمدة الفلاسفة على أن المؤثرية من لوازم الواجب بنفسه فإذا قالوا بقدم نفس لها تصورات وإرادات لا تتناهى : لزم جواز حوادث لا تتناهى ; فبطل أصل قول المتكلمين الذي بنوا عليه حدوث الأجسام ; فكان حينئذ موافقتهم المتكلمين بلا حجة عقلية فعلم أنهم جمعوا بين المتناقضين .

                وأبو عبد الله ابن الخطيب وأمثاله كانوا أفضل من هؤلاء وعرفوا أنه لا يمكن الجمع بين هذا وهذا فلم يقولوا هذا القول المتناقض ولم يهتدوا إلى مذهب السلف والأئمة وإن كانوا يذكرون أصوله في مواضع أخر ويثبتون أن جمهور العقلاء يلتزمونها فلو تفطنوا لما يقوم بذات الله من كلامه وأفعاله المتعلقة بمشيئته وقدرته ودوام اتصافه بصفة الكمال خلصوا من هذه المحارات .



                [ ص: 220 ] ونحن ننبه على بعض الطرق العقلية التي يعلم بها حدوث كل ما سوى الله تعالى . فنقول : من " الطرق " التي يعلم بها حدوث كل ما سوى الله هي أن يقال : لو كان فيما سوى الله شيء قديم لكان صادرا عن علة تامة موجبة بذاتها مستلزمة لمعلولها سواء ثبت له مشيئة أو اختيار أو لم يثبت ; فإن القديم الأزلي الممكن الذي لا يوجد بنفسه لا يتصور وجوده إن لم يكن له في الأزل مقتض تام يستلزم ثبوته .

                وهذا كما أنه معلوم بضرورة العقل فلا نزاع فيه بين العقلاء فلا يقول أحد : إن القديم الأزلي صادر عن مؤثر لا يلزمه أثره فلا يقول : إنه صادر عن علة غير تامة مستلزمة لغير معلولها ولا يقول : إنه صادر عن موجب بذاته لا يقارنه موجبه ومقتضاه ولا يقول : إنه صادر عن فاعل بالاختيار يمكن أن يتأخر مفعوله ; فإنه إذا أمكن تأخر مفعوله أمكن أن يكون ذلك القديم الأزلي قديما أزليا فيكون ثبوته في الأزل ممكنا وليس في الأزل ما يستلزم ثبوته في الأزل فيمتنع ثبوته في الأزل . فإن ثبوت الممكن الأزلي بدون مقتض تام مستلزم له ممتنع بضرورة العقل . إذ قد علم بصريح العقل أن شيئا من الممكنات لا يكون حتى يحصل المقتضي التام المستلزم لثبوته .

                [ ص: 221 ] ومن نازع في هذا من المعتزلة وغيرهم وقال إنه لا ينتهي إلى حد الوجوب ; بل يكون العقل بالوجود أولى منه بالعدم فإنه لم ينازع في أن القادر المختار يمتنع أن يكون مقدوره المعين أزليا مقارنا له ; بل هذا مما لم ينازع فيه لا هؤلاء ولا غيرهم .

                فتبين أنه لو كان شيء مما سوى الله أزليا للزم أن يكون له مؤثر تام مستلزم له في الأزل ; سواء سمي علة تامة أو موجبا بالذات أو قدر أنه فاعل بالإرادة وأن مراده المعين يكون أزليا مقارنا له .

                وإذا كان كذلك فنقول : ثبوت علة تامة أزلية ممتنع فإن العلة التامة الأزلية تستلزم معلولها لا يتخلف عنها شيء من معلولها ; فإنه إن تخلف عنها لم تكن علة تامة لمعلولها ; فيمتنع في الشيء الواحد أن يكون موجبا بذاته وأن يتخلف عنه موجبه أو شيء من موجبه ; فإن الموجب بالذات لشيء لا بد أن يكون ذلك الموجب جميعه مقارنا لذاته والعلة التامة هي التي يقارنها معلولها . ولا يتأخر عنها شيء من معلولها فلو تأخر عنها شيء من معلولها لم تكن علة تامة لذلك المستأخر . والفلاسفة يسلمون أن ليس علة تامة في الأزل لجميع الحوادث التي تحدث شيئا بعد شيء فإن ذلك جمع بين النقيضين . إذ يمتنع أن يكون علة تامة أزلية لأمر حادث عنه غير أزلي .

                [ ص: 222 ] وإن شئت قلت : يمتنع أن يكون موجبا بذاته في الأزل لأمر حادث ليس بأزلي ; سواء كان إيجابه بواسطة أو بغير واسطة فإن تلك الواسطة إن كانت أزلية كان اللازم لها أزليا وإن كانت حادثة كان القول فيها كالقول في الحادث بتوسطها وهذا الذي سلموه معلوم أيضا بصريح العقل فالمقدمة برهانية مسلمة ; لكن يقولون : إنه علة تامة ; لما هو قديم كالأفلاك عندهم . وليس علة تامة للحوادث وهذا أيضا باطل .

                وذلك أن كل ما يقال : إنه قديم كالأفلاك إما أن يجب أن يكون مقارنا للحوادث كما يقولون في الفلك : إنه يجب له لزوم الحركة وإنه لم يزل متحركا وإما أنه لا يجب أن يكون مقارنا لشيء من الحوادث ; فإن كان الأول لزم أن يكون علة تامة للحوادث وكونه علة تامة للحوادث محال ; لأن ما قارنته الحوادث ولم يخل منها بل هي لازمة له امتنع صدوره عن الموجب بدونها ووجود الملزوم بدون اللازم محال وإذا كانت الحركة لازمة للفلك كما يقولون : فوجود الفلك بدون الحركة محال فالموجب بذاته الذي هو علة تامة للفلك يجب أن يكون علة تامة موجبة للوازمه وعلة تامة في الأزل بحركته لكن العلة التامة الأزلية لا يجوز أن تكون علة تامة أزلية للحوادث لا الحركة ولا غيرها لأنه يجب وجود معلولها الذي هو موجبها ومقتضاها [ ص: 223 ] في الأزل وألا يتأخر عنها شيء من موجبها ومقتضاها ومعلولها .

                والحركة التي توجد شيئا فشيئا هي وغيرها من الحوادث التي تحدث شيئا بعد شيء ليس واحد منها قديما ; بل كل منها حادث مسبوق بآخر ; فيمتنع أن يكون شيء منها معلولا للعلة التامة الأزلية ; لامتناع أن يكون حادث من الحوادث قديما ويمتنع وجود مجموع الحوادث في الأزل ويمتنع وجود المستلزم للحوادث إلا مع حادث من الحوادث أو مع مجموع الحوادث وإذا كان كلاهما يمتنع أن يكون قديما امتنع أن يكون شيء مما يستلزم الحوادث قديما فامتنع أن يكون لشيء من الحوادث أو ما يستلزم الحوادث علة تامة قديمة ; فامتنع صدور الحوادث أو شيء منها أو من ملزوماتها عن علة تامة قديمة ; فامتنع أن يكون شيء لا يخلو عن الحوادث صادرا عن علة تامة أزلية ; فامتنع أن يكون الفلك المقارن للحوادث علة تامة أزلية قديمة . ولو كان قديما لصدر عن علة تامة قديمة فإذا لم يكن قديما إلا إذا كان المقتضي التام ثابتا في الأزل وثبوت المقتضي التام له ممتنع كما أن قدمه ممتنع .

                وأما إن قيل : أن القديم شيء غير مقارن للحوادث ولا مستلزم لها مثل أن يقال : القديم أعيان ساكنة هي المعلول الأول فيقال ذلك المعلول إما أن يجوز حدوث حال من الأحوال إما فيه أو عنه أو غير ذلك . وإما ألا يجوز .

                [ ص: 224 ] فإن جاز حدوث حال من الأحوال له امتنع حدوث ذلك الحادث عن علة تامة أزلية - وهو الموجب بالذات كما تقدم وكما هو معلوم ومتفق عليه بين العقلاء - ولا بد من محدث والمحدث إن كان سوى الله فالقول في حدوثه إن كان محدثا أو في حدوث ذلك الإحداث له بعد أن لم يكن كالقول في حدوث ذلك الحادث وإن كان هو الله تعالى امتنع أن يكون موجبا بالذات له ; إذ القديم لا يكون موجبا بالذات لحادث - كما بين - فامتنع ثبوت العلة القديمة . وإذا لم يكن الصانع موجبا بالذات - فلا يكون علة تامة - امتنع قدم شيء من العالم ; لأنه لا يكون قديم إلا عن علة تامة وإن قيل إنه لا يجوز حدوث لما فرض قديما معلولا للأول ; فهذا مع أنه لم يقل به أحد من العقلاء فهو باطل ; لوجوه : " أحدها " أن واجب الوجود تحدث له النسب والإضافات باتفاق العقلاء . فحدوث ذلك لغيره أولى .

                " الثاني " أن الحوادث مشهودة في العالم العلوي والسفلي وهذه الحوادث صادرة عن الله : إما بوسط أو بغير وسط فإذا كانت بوسط فتلك الوسائط حدثت عنها أمور بعد أن لم تكن . فلزم حدوث الأحوال للقديم سواء كان هو الصانع أو كان هو الوسائط للصانع .

                [ ص: 225 ] وإن قيل : القديم هو شيء ليس بواسطة في شيء آخر . قيل : لا بد أن يكون ذلك قابلا لحدوث الأحوال فإنه يمكن حدوث النسب والإضافات لله عز وجل بالضرورة واتفاق العقلاء فإمكان ذلك لغيره أولى وإذا كان قابلا لها أمكن أن تحدث له الأحوال كما تحدث لغيره من الممكنات ; فإن الله لا يمتنع حدوث الحوادث عنه : إما بوسط وإما بغير وسط ; فإذا كان ذلك قابلا وصدور مثل ذلك عن الصانع ممكن أمكن حدوث الحوادث عنه أو فيه بعد أن لم يكن .

                وحينئذ فالقول في حدوثها كالقول في حدوث سائر ما يحدث عنه وذلك محال من العلة التامة المستلزمة لمعلومها فقد بين هذا البرهان الباهر أن كون الأول علة تامة لشيء من العالم - محال لا فرق في ذلك بين الفلك وغيره ; سواء قدر ذلك الغير جسما أو غير جسم وسواء قدر مستلزما للحوادث فيه أو عنه - كما يقوله الفلاسفة الدهرية : كالفارابي وابن سينا وأمثالهما وسلفهما من اليونان . فإنهم يقولون : الفلك مستلزم للحوادث القديمة والعقول والنفوس مستلزمة للحوادث التي تحدث عنها فكل منها مقارن للحوادث لا يجوز تقدمه عليها مع كون ذلك جميعه معلولا للموجب بذاته فإذا تبين أن الموجب بذاته يمتنع أن يصدر عنه في الأزل حادث أو مستلزم لحادث بطل كون صانع العالم علة تامة في الأزل ومتى بطل كونه علة تامة في الأزل امتنع أن يكون فيما سواه شيء قديم بعينه فهذا بيان أن كل ما سوى الله محدث كائن بعد أن لم يكن سواء قيل [ ص: 226 ] بجواز دوام الحوادث أو قيل بامتناع ذلك .

                فإنه إن قيل بامتناع دوام الحوادث لزم حدوث كل ما لا يخلو عن الحوادث وإن قيل بجواز دوام الحوادث فكل منها حادث بعد أن لم يكن مسبوقا بالعدم وكل من العالم مستلزم لحادث بعد أن لم يكن مسبوقا بالعدم وكل من العالم وكل ما كان مصنوعا وهو مستلزم للحوادث امتنع أن يكون صانعه علة تامة قديمة موجبة له ; فإذا امتنع ذلك امتنع أن يكون قديما فامتنع أن يكون من العالم ما هو قديم بعينه .

                وأما كون الرب لم يزل متكلما إذا شاء أو لم يزل فاعلا تقوم به الأفعال بمشيئته ونحو ذلك - فهذا هو الذي قاله السلف والأئمة ; فتبين أن الذي قاله السلف والأئمة هو الحق المطابق للمنقول والمعقول .

                وأما كون قول الفلاسفة أبطل من قول المعتزلة فإنه يقال لهم : أولئك جوزوا حدوث الحوادث عن ذات لم تزل غير فاعلة ولا يقوم بها حادث ولا يصدر عنها حادث وأنتم قلتم الحوادث الدائمة المختلفة تصدر عن هذه الذات وزدتم في نفي الصفات عنها فجعلتموها وجودا مطلقا بشرط الإطلاق أو ما يشبه ذلك فقولكم في نفي الصفات عنها أعظم من قول المعتزلة .

                [ ص: 227 ] وقلتم : هو موجب بذاته علة تامة أزلية يقارنها المعلول الأزلي فلا يتأخر عنها . ومعلوم أن صدور الحوادث المختلفة عن العلة التامة البسيطة الأزلية التي لا يتخلف عنها مقتضاها ومعلولها أشد امتناعا من صدور الحوادث عن قادر مختار بعد أن لم تكن صادرة عنه فإن كان حدوث الحوادث عن القديم الذي لم يقم به حادث ممتنعا فقولكم أشد امتناعا وإن كان ممكنا فقول المعتزلة أقرب ; فإن قولهم : إن اقتضى أن لا يكون للحوادث سبب حادث فقولكم يقتضي أن لا يكون للحوادث محدث أصلا والحوادث مشهودة والمحدث لا بد أن يكون موجودا عند وجودها ولا بد أن يكون كل ما يعتبر في الأحداث موجودا عند الإحداث وذلك يمتنع صدوره عن علة تامة .

                فتبين أن المقدمات التي احتج بها الفلاسفة على المعتزلة وأتباعهم على قدم العالم يحتج بها بعينها على حدوث العالم ; فإن مبنى دليلهم على أن العلة التامة الأزلية تستلزم معلولها وأن الباري إن لم يكن علة تامة أزلية لزم الحدوث بلا سبب وإن كان علة تامة أزلية لزم مقارنة معلوله ; فيلزم قدم العالم .

                أما كونه علة تامة فممتنع ; لأن العلة التامة الأزلية يقارنها معلولها كله لا يتأخر عنها شيء من معلولها والعالم لا ينفك من حوادث مقارنة له بالضرورة واتفاق جماهير العقلاء وما كان مستلزما للحوادث امتنع كونه معلول العلة التامة الأزلية ; لامتناع كون الحوادث حادثة [ ص: 228 ] عن علة تامة أزلية فإنه ما من حادث إلا وهو مسبوق بالعدم فليس هو علة تامة لشيء منها وما من زمن يقدر إلا وفيه حادث فليس هو في شيء من الأوقات علة تامة لا في الماضي ولا المستقبل ; فامتنع أن يكون علة تامة وهو المطلوب ; فيلزم من ذلك كون كل ما سواه محدثا سواء قيل بتسلسل الحادثة أو لم يقل .

                وأما قولهم : إن لم يكن علة تامة أزلية لزم الحدوث بلا سبب . فيقال لهم : هذا إنما يلزم إذا لم يكن متكلما إذا شاء - تقوم به الأفعال الاختيارية بقدرته تعالى - وإلا فعلى هذا التقدير لم يزل ولا يزال قادرا على الفعل متكلما إذا شاء وحينئذ فما حصل بمشيئته وقدرته من أقواله وأفعاله يكون هو السبب لما بعده .

                وإن قالوا : هذا يستلزم قيام الحوادث به قيل لهم أولا : قيام الحوادث بالقديم جائز عندكم ومن أنكر ذلك من أهل الكلام فإنما أنكره لاعتقاده أن ما قامت به الحوادث فهو حادث فإن كان هذا الاعتقاد صحيحا بطل قولكم بقدم الأفلاك وإن كان باطلا بطلت حجة من قال : إن القديم لا تقوم به الحوادث ; فلا يمكنكم على التقديرين أن تقولوا إنه لا تقوم به الحوادث ; لكن أنتم نفيتم ذلك بناء على نفي الصفات وقولكم في نفي الصفات في غاية الفساد ودليلكم عليه قد بين فساده في غير هذا الموضع وبين بطلان ما ذكرتموه .

                [ ص: 229 ] و " بالجملة " فإذا كان القول بحدوث العالم مستلزما لإثبات الصفات وقيام الأفعال بالله كان ما ذكرناه من دليل حدوثه دليلا على أن العالم محدث وأن محدثه موصوف بالصفات القائمة به فاعل الأفعال الاختيارية القائمة به كما دلت على ذلك النصوص الإلهية المتواترة عن الأنبياء من القرآن والتوراة والإنجيل . وذلك ما بين موافقة العقل الصريح للنقل الصحيح والقضايا العقلية التي هي أصول فطر العقلاء ومنتهى عقلهم توافق ذلك واعتبر ذلك بما ذكره أبو عبد الله بن الخطيب الرازي في كتابه " الأربعين " في ضبط المقدمات التي يمكن الرجوع إليها في إثبات المطالب العقلية .

                قال : واعلم أن ههنا " مقدمتين " يفرع المتكلمون والفلاسفة أكثر مباحثهم عليهما .

                " المقدمة الأولى " مقدمة الكمال والنقصان كقولهم هذه الصفة من صفات الكمال فيجب إثباتها لله وهذه الصفة من صفات النقصان فيجب نفيها عن الله وأكثر مذاهب المتكلمين مفرعة على هذه المقدمة .

                إلى أن قال : " أما المقدمة الثانية " وهي مقدمة الوجوب ; والإمكان وهذه [ ص: 230 ] المقدمة في غاية الشرف والعلو وهي غاية عقول العقلاء . قالوا : الوجود إما واجب وإما ممكن والممكن لا بد له من واجب وكذلك الواجب لا بد أن يكون واجبا في ذاته وصفاته : إذ لو كان ممكنا لافتقر إلى مؤثر آخر .

                " أما المقدمة الأولى " وهي أنه واجب لذاته : فهذا له لازمان : الأول أن يكون منزها عن الكثرة في حقيقته ثم يلزم في ذاته أمور : " أحدها " أن لا يكون متحيزا ; لأن كل متحيز منقسم والمنقسم لا يكون فردا وإذا لم يكن متحيزا لم يكن في جهة .

                و " ثانيها " أن لا يكون واجب الوجود أكثر من واحد ولو كان أكثر من واحد لاشتركا في الوجوب وتباينا في التعيين وما به الاشتراك غير ما به الامتياز ; فيلزم كون كل واحد منهما مركبا في نفسه وقد فرضناه فردا هذا خالف اللازم الثاني ; لكونه واجب الوجود لذاته أن لا يكون حالا ولا محلا والأفعال الافتقار هي .

                قلت : ولقائل أن يقول : هذا هو أصل الفلاسفة في التوحيد الذي نفوا به صفاته تعالى وهو ضعيف جدا .

                [ ص: 231 ] والأصل الذي بنوا عليه ذلك ضعيف جدا وإن كان اشتبه على كثير من المتأخرين : وقولهم : إن الواجب لا يكون إلا واحدا . قصدوا به أنه ليس له علم ولا قدرة ولا حياة ولا كلام يقوم به ولا شيء من الصفات القائمة به ; لأنه لو كان كذلك لكان الواجب أكثر من واحد كما يقوله المعتزلة إنه ليس له صفات قديمة قائمة بذاته ; لأنه لو كان كذلك لكان القديم أكثر من واحد .

                ولفظ " الواجب والقديم " يراد به الإله الخالق سبحانه الواجب الوجود القديم فهذا ليس إلا واحدا ويراد به صفاته الأزلية وهي قديمة واجبة بتقدم الموصوف ووجوبه لم يجب أن تكون مماثلة له ولا تكون إلها كما أن صفة النبي ليست بنبي وصفة الإنسان والحيوان ليست بإنسان ولا حيوان وكما أن صفة المحدث إن كانت محدثة فموافقتها له في الحدوث لا يقتضي مماثلتها له وما ذكروا من الحجة على ذلك ضعيفة .

                فإذا قالوا : لو كان له علم واجب بوجوب العالم لكان الواجب أكثر من واحد . قيل له : ولم قلتم بامتناع كون الواجب أكثر من واحد ; إذ كانت الذات الواجبة إلها واحدا موصوفا بصفات الكمال .

                [ ص: 232 ] قولهم : لو كان أكثر من واحد لاشتركا في الوجوب وتباينا في التعيين وما به الاشتراك غير ما به الامتياز ; فيلزم أن يكون كل منهما مركبا في نفسه ; وقد فرضناه ; فرد هذا خلق .

                يقال له في جوابه قول القائل اشتركا في الوجوب وتباينا في التعيين تريد به أن الوجوب الذي يختص كلا منهما شاركه الآخر فيه أم تريد أنهما اشتركا في الوجوب المطلق الكلي .

                والأول باطل لا يريده عاقل . وأما الثاني فيقال : اشتراكهما في المطلق الكلي كاشتراكهما في التعيين المطلق الكلي . فإن هذا له تعيين يخصه والتعيينان يشتركان في مطلق التعيين . وكذلك هذا له حقيقة تخصه وهذا له حقيقة تخصه وهما يشتركان في مطلق الحقيقة وكذلك لهذا ذات تخصه ولهذا ذات تخصه وهما يشتركان في مطلق الذات . وكذلك سائر الأسماء التي تعم بالإطلاق وتخص بالتقييد كاسم الموجود والنفس والماهية وغير ذلك .

                وإذا كان كذلك فمعلوم أنهما اشتركا في الوجوب المطلق وامتاز كل منهما بوجوبه بتعيين يخصه . وحينئذ : فلا فرق بين الوجوب والتعيين .

                فقول القائل : اشتركا في الوجوب المطلق وتباينا بالتعيين الخاص .

                [ ص: 233 ] كقول القائل اشتركا في التعيين المطلق وتباينا بالوجوب الخاص . ومعلوم أن مثل هذا لا مندوحة عنه سواء سمي تركيبا أو لم يسم فلا يمكن موجود يخلو عن مثل هذه المشاركة والمباينة لا واجب ولا غيره وما كان من لوازم الوجود كان نفيه عن الوجود الواجب ممتنعا .

                و " أيضا " فالمشترك المطلق الكلي لا يكون كليا مشتركا إلا في الأذهان لا في الأعيان وإذا كان كذلك فليس في أحدهما شيء يشاركه الآخر فيه في الخارج ; بل كل ما اتصف به أحدهما لم يتصف الآخر بعينه ولم يشاركه فيه ; بل لا يشابهه فيه أو يماثله فيه . وإذا كان الاشتراك ليس إلا في ما في الأذهان لم يكن أحدهما مركبا في مشترك ومميز ; بل يكون كل منهما موصوفا بصفة تخصه لا يشابهه الآخر فيها وبصفة يشابهه الآخر فيها وهذا لا محذور فيه .

                وأيضا فيقال : هذا منقوض بالوجود فإن الوجود الواجب والممكن يشتركان في مسمى الوجود ويباين أحدهما الآخر بخصوصه ; فيلزم تركيب الوجود الواجب مما به الاشتراك ومما به الامتياز ; فما كان الجواب عن هذا كان الجواب عن ذلك .

                و " أيضا " فيقال : هب أنكم سميتم هذا تركيبا . فلم قلتم إن [ ص: 234 ] هذا ممتنع على موجود من الموجودات واجبا كان أو ممكنا ؟ مع أن المنازع يقول هذا المعنى الذي نفيتموه وسميتموه تركيبا هو لازم لكل موجود .

                قولهم : وقد فرضناه فردا . قيل : هب أنكم فرضتموه كذلك ; لكن مجرد فرضكم لا يقتضي أن يكون فردا بالمعنى الذي ادعيتموه إن لم يقم على ذلك [ دليل ] .




                الخدمات العلمية