الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                و " الوحي " وحيان : وحي من الرحمن ووحي من الشيطان قال تعالى : { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم } وقال تعالى : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا } وقال تعالى : { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين } وقد كان المختار بن أبى عبيد من هذا الضرب حتى قيل لابن عمر وابن عباس قيل لأحدهما إنه يقول إنه يوحى إليه فقال : { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم } وقيل للآخر : إنه يقول إنه ينزل عليه فقال { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين } . فهؤلاء يحتاجون إلى الفرقان الإيماني القرآني النبوي الشرعي أعظم من حاجة غيرهم وهؤلاء لهم حسيات يرونها ويسمعونها والحسيات يضطر إليها الإنسان بغير اختياره كما قد يرى الإنسان أشياء ويسمع أشياء بغير اختياره كما أن النظار لهم قياس ومعقول وأهل السمع لهم أخبار منقولات وهذه الأنواع الثلاثة هي طرق العلم : الحس والخبر والنظر وكل إنسان [ يستدل ] من هذه الثلاثة في بعض الأمور ; لكن يكون بعض الأنواع أغلب على بعض الناس في الدين وغير الدين كالطب فإنه تجربات وقياسات وأهله منهم من تغلب عليه التجربة ومنهم من يغلب عليه القياس والقياس أصله التجربة والتجربة لا بد فيها من قياس ; لكن مثل قياس العاديات لا تعرف فيه العلة والمناسبة وصاحب القياس من يستخرج العلة المناسبة ويعلق الحكم بها والعقل خاصة القياس والاعتبار والقضايا الكلية فلا بد له من الحسيات التي [ ص: 76 ] هي الأصل ليعتبر بها والحس إن لم يكن مع صاحبه عقل وإلا فقد يغلط .

                والناس يقولون : غلط الحس والغلط تارة من الحس وتارة من صاحبه ; فإن الحس يرى أمرا معينا فيظن صاحبه فيه شيئا آخر فيؤتى من ظنه فلا بد له من العقل .

                ولهذا النائم يرى شيئا وتلك الأمور لها وجود وتحقيق ; ولكن هي خيالات وأمثلة ; فلما عزب ظنها الرائي نفس الحقائق كالذي يرى نفسه في مكان آخر يكلم أمواتا ويكلمونه ويفعل أمورا كثيرة وهو في النوم يجزم بأنه نفسه الذي يقول ويفعل لأن عقله عزب عنه وتلك الصورة التي رآها مثال صورته وخيالها ; لكن غاب عقله عن نفسه حتى ظن أن ذلك المثال هو نفسه فلما ثاب إليه عقله علم أن ذلك خيالات ومثالات ، ومن الناس من لا يغيب عقله بل يعلم في المنام أن ذلك في المنام وهذا كالذي يرى صورته في المرآة أو صورة غيره فإذا كان ضعيف العقل ظن أن تلك الصورة هي الشخص حتى أنه يفعل به ما يفعل بالشخص .

                وهذا يقع للصبيان والبله كما يخيل لأحدهم في الضوء شخص يتحرك ويصعد وينزل فيظنونه شخصا حقيقة ولا يعلمون أنه خيال فالحس إذا أحس [ حسا ] صحيحا لم يغلط لكن معه عقل لم يميز بين هذا العين والمثال ; فإن العقل قد عقل قبل [ ص: 77 ] هذا أن مثل هذا يكون مثالا وقد عقل لوازم الشخص بعينه وأنه لا يكون في الهواء ولا في المرآة ولا يكون بدنه في غير مكانه وأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين .

                وهؤلاء الذين لهم مكاشفات ومخاطبات يرون ويسمعون ما له وجود في الخارج وما لا يكون موجودا إلا في أنفسهم كحال النائم وهذا يعرفه كل أحد ولكن قد يرون في الخارج أشخاصا يرونها عيانا وما في خيال الإنسان لا يراه غيره ويخاطبهم أولئك الأشخاص ويحملونهم ويذهبون بهم إلى عرفات فيقفون بها وإما إلى غير عرفات ويأتوهم بذهب وفضة وطعام ولباس وسلاح وغير ذلك ويخرجون إلى الناس ويأتونهم أيضا بمن يطلبونه مثل من يكون له إرادة في امرأة أو صبي فيأتونه بذلك إما محمولا في الهواء وإما بسعي شديد ويخبر أنه وجد في نفسه من الباعث القوي ما لم يمكنه المقام معه أو يخبر أنه سمع خطابا وقد يقتلون له من يريد قتله من أعدائه أو يمرضونه .

                فهذا كله موجود كثيرا ; لكن من الناس من يعلم أن هذا من الشيطان وأنه من السحر وأن ذلك حصل بما قاله وعمله من السحر . ومنهم من يعلم أن ذلك من الجن ويقول : هذا كرامة أكرمنا بتسخير الجن لنا ومنهم من لا يظن أولئك الأشخاص إلا آدميين أو [ ص: 78 ] ملائكة فإن كانوا غير معروفين قال هؤلاء رجال الغيب وإن تسموا فقالوا : هذا هو الخضر وهذا هو إلياس وهذا هو أبو بكر وعمر وهذا هو الشيخ عبد القادر أو الشيخ عدي أو الشيخ أحمد الرفاعي أو غير ذلك ظن أن الأمر كذلك . فهنا لم يغلط لكن غلط عقله حيث لم يعرف أن هذه شياطين تمثلت على صور هؤلاء وكثير من هؤلاء يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه أو غيره من الأنبياء أو الصالحين يأتيه في اليقظة ومن يرى ذلك عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو الشيخ وهو صادق في أنه إياه من قال إنه النبي أو الشيخ أو قيل له ذلك فيه لكن غلط حيث ظن صدق أولئك .

                والذي له عقل وعلم يعلم أن هذا ليس هو النبي صلى الله عليه وسلم تارة لما يراه منهم من مخالفة الشرع مثل أن يأمروه بما يخالف أمر الله ورسوله وتارة يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يأتي أحدا من أصحابه بعد موته في اليقظة ولا كان يخاطبهم من قبره فكيف يكون هذا لي وتارة يعلم أن الميت لم يقم من قبره وأن روحه في الجنة لا تصير في الدنيا هكذا . وهذا يقع كثيرا لكثير من هؤلاء ويسمون تلك الصورة رقيقة [ ص: 79 ] فلان وقد يقولون : هو معناه تشكل وقد يقولون : روحانيته . ومن هؤلاء من يقول : إذا مت فلا تدعوا أحدا يغسلني ولا فلانا يحضرني فإني أنا أغسل نفسي فإذا مات رأوه قد جاء وغسل ذلك البدن ويكون ذلك جنيا قد قال لهذا الميت إنك تجيء بعد الموت واعتقد ذلك حقا ; فإنه كان في حياته يقول له أمورا وغرض الشيطان أن يضل أصحابه وأما بلاد المشركين كالهند فهذا كثيرا ما يرون الميت بعد موته جاء وفتح حانوته ورد ودائع وقضى ديونا ودخل إلى منزله ثم ذهب وهم لا يشكون أنه الشخص نفسه وإنما هو شيطان تصور في صورته . ومن هؤلاء من يكون في جنازة أبيه أو غيره والميت على سريره وهو يراه آخذا يمشي مع الناس بيد ابنه وأبيه قد جعل شيخا بعد أبيه فلا يشك ابنه أن أباه نفسه هو كان الماشي معه الذي رآه هو دون غيره وإنما كان شيطانا ويكون مثل هذا الشيطان قد سمى نفسه خالدا وغير خالد وقال لهم إنه من رجال الغيب وهم يعتقدون أنه من الإنس الصالحين ويسمونه خالدا الغيبي وينسبون الشيخ إليه فيقولون : محمد الخالدي ونحو ذلك .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية