الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فصل والجهمية والمعتزلة مشتركون في نفي الصفات وابن كلاب ومن تبعه - كالأشعري وأبي العباس القلانسي ومن تبعهم - أثبتوا الصفات ; لكن لم يثبتوا الصفات الاختيارية مثل كونه يتكلم بمشيئته ومثل كون فعله الاختياري يقوم بذاته ومثل كونه يحب ويرضى عن المؤمنين بعد إيمانهم ويغضب ويبغض الكافرين بعد كفرهم ومثل كونه يرى أفعال العباد بعد أن يعملوها كما قال تعالى : { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } فأثبت رؤية مستقبلة وكذلك قوله تعالى { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون } ومثل كونه نادى موسى حين أتى لم يناده قبل ذلك بنداء قام بذاته ; فإن المعتزلة والجهمية يقولون : خلق نداء في الهواء . والكلابية والسالمية يقولون : النداء قام بذاته وهو قديم ; لكن سمعه موسى فاستجدوا سماع موسى وإلا فما زال عندهم مناديا . [ ص: 132 ] والقرآن والأحاديث وأقوال السلف والأئمة كلها تخالف هذا وهذا وتبين أنه ناداه حين جاء وأنه يتكلم بمشيئته في وقت بكلام معين كما قال : { ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } وقال تعالى : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } . والقرآن فيه مئون من الآيات تدل على هذا الأصل وأما الأحاديث فلا تحصى . وهذا قول أئمة السنة والسلف وجمهور العقلاء ; ولهذا قال عبد الله بن المبارك والإمام أحمد بن حنبل وغيرهما : لم يزل متكلما إذا شاء وكيف شاء وهذا قول عامة أهل السنة ; فلهذا اتفقوا على أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ولم نعرف عن أحد من السلف أنه قال : هو قديم لم يزل . والذين قالوا من المتأخرين : هو قديم كثير منهم من لم يتصور المراد ; بل منهم من يقول : هو قديم في علمه ومنهم من يقول : قديم أي متقدم الوجود متقدم على ذات زمان المبعث ; لا أنه أزلي لم يزل ومنهم من يقول بل مرادنا بقديم أنه غير مخلوق وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع . و " المقصود هنا " أنه على هذا الأصل إذا خلق المخلوقات رآها وسمع أصوات عباده وكان ذلك بمشيئته وقدرته ; إذ كان خلقه لهم بمشيئته وقدرته وبذلك صاروا يرون ويسمع كلامهم وقد جاء في [ ص: 133 ] القرآن والسنة في غير موضع أنه يخص بالنظر والاستماع بعض المخلوقات كقوله : { ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : ملك كذاب وشيخ زان وعائل مستكبر } وكذلك في " الاستماع " قال تعالى : { وأذنت لربها وحقت } أي استمعت . وقال النبي صلى الله عليه وسلم { ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به } وقال : { لله أشد إذنا إلى صاحب القرآن من صاحب القينة إلى قينته } فهذا تخصيص بالإذن وهو الاستماع لبعض الأصوات دون بعض . وكذلك ( سمع الإجابة كقوله : { سمع الله لمن حمده } وقول الخليل : { إنك سميع الدعاء } وقوله : " إن ربي سميع قريب " يقتضي التخصيص بهذا السمع فهذا التخصيص ثابت في الكتاب والسنة وهو تخصيص بمعنى يقوم بذاته بمشيئته وقدرته - كما تقدم - وعند النفاة هو تخصيص بأمر مخلوق منفصل لا بمعنى يقوم بذاته .

                وتخصيص من يحب بالنظر والاستماع المذكور يقتضي أن هذا النوع منتف عن غيرهم . لكن مع ذلك هل يقال : إن نفس الرؤية والسمع الذي هو مطلق الإدراك هو من لوازم ذاته فلا يمكن وجود مسموع ومرئي إلا [ ص: 134 ] وقد تعلق به كالعلم ؟ أو يقال : إنه أيضا بمشيئته وقدرته فيمكنه أن لا ينظر إلى بعض المخلوقات ؟ هذا فيه قولان : والأول قول من لا يجعل ذلك متعلقا بمشيئته وقدرته وأما الذين يجعلونه متعلقا بمشيئته وقدرته فقد يقولون : متى وجد المرئي والمسموع وجب تعلق الإدراك به . والقول الثاني : أن جنس السمع والرؤية يتعلق بمشيئته وقدرته فيمكن أن لا ينظر إلى شيء من المخلوقات وهذا هو المأثور عن طائفة منالسلف كما روى ابن أبي حاتم عن أبي عمران الجوني قال : ما نظر الله إلى شيء من خلقه إلا رحمه ولكنه قضى أن لا ينظر إليهم . وقد يقال : هذا مثل الذكر والنسيان فإن الله تعالى قال : { فاذكروني أذكركم } وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة } فهذا الذكر يختص بمن ذكره فمن لا يذكره لا يحصل له هذا الذكر ومن آمن به وأطاعه ذكره برحمته ومن أعرض عن الذكر الذي أنزله أعرض عنه كما قال : { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى } { قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا } { قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } ومثله قوله : { المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم } . وقد فسروا هذا النسيان بأنه وهذا النسيان ضد ذلك الذكر وفي الصحيح في حديث الكافر يحاسبه قال : { أفظننت أنك ملاقي ؟ قال : لا . قال فاليوم أنساك كما نسيتني } فهذا يقتضي أنه لا يذكره كما يذكر أهل طاعته هو متعلق بمشيئته وقدرته أيضا وهو سبحانه قد خلق هذا العبد وعلم ما سيعمله قبل أن يعمله ولما عمل علم ما عمل ورأى عمله فهذا النسيان لا يناقض ما علمه سبحانه من حال هذا .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية