الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 175 ] وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه فصل في قوله تعالى { حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا } الآية : قراءتان في هذه الآية ; بالتخفيف والتثقيل . وكانت عائشة رضي الله عنها تقرأ بالتثقيل وتنكر التخفيف كما في الصحيح عن الزهري قال : أخبرني عروة عن عائشة قالت له - وهو يسألها عن قوله : { وظنوا أنهم قد كذبوا } مخففة قالت - معاذ الله لم تكن الرسل تظن ذلك بربها - قلت : فما هذا النصر - { حتى إذا استيئس الرسل } بمن كذبهم من قومهم وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك لعمري لقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن .

                وفي الصحيح أيضا عن ابن جريج سمعت ابن أبي مليكة يقول قال ابن عباس : { حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا } خفيفة ذهب بها هنالك وتلا { حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب } فلقيت عروة فذكرت ذلك له فقال : قالت عائشة : معاذ الله والله ما وعد الله رسوله من شيء قط إلا علم أنه كائن قبل أن يكون ; ولكن لم يزل البلاء بالرسل حتى ظنوا وخافوا أن يكون من معهم يكذبهم ; فكانت تقرؤها : { وظنوا أنهم قد كذبوا } مثقلة .

                فعائشة جعلت استيأس الرسل من الكفار المكذبين وظنهم التكذيب من المؤمنين بهم ولكن القراءة الأخرى ثابتة لا يمكن إنكارها وقد تأولها ابن عباس وظاهر الكلام معه والآية التي تليها إنما فيها استبطاء النصر وهو قولهم : { متى نصر الله } فإن هذه كلمة تبطئ لطلب التعجيل .

                وقوله : { وظنوا أنهم قد كذبوا } قد يكون مثل قوله : { إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان } والظن لا يراد به في الكتاب والسنة الاعتقاد الراجح كما هو في اصطلاح طائفة من أهل الكلام في العلم ويسمون الاعتقاد المرجوح وهما بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم { إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث } وقد قال تعالى : { وإن الظن لا يغني من الحق شيئا } .

                [ ص: 177 ] فالاعتقاد المرجوح هو ظن وهو وهم وهذا الباب قد يكون من حديث النفس المعفو عنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل } وقد يكون من باب الوسوسة التي هي صريح الإيمان كما ثبت { في الصحيح أن الصحابة قالوا يا رسول الله : إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يحرق حتى يصير حممة أو يخر من السماء إلى الأرض : أحب إليه من أن يتكلم به . قال : أوقد وجدتموه ؟ قالوا : نعم . قال ذلك صريح الإيمان } وفي حديث آخر : { إن أحدنا ليجد ما يتعاظم أن يتكلم به . قال : الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة .

                } فهذه الأمور التي هي تعرض ثلاثة أقسام : منها ما هو ذنب يضعف به الإيمان وإن كان لا يزيله . واليقين في القلب له مراتب ومنه ما هو عفو يعفى عن صاحبه ومنه ما يكون يقترن به صريح الإيمان .

                ونظير هذا : ما في الصحيح عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ; ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي ونحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال له ربه : { أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } } وقد ترك البخاري ذكر قوله : " بالشك " لما خاف فيها من توهم بعض الناس .

                ومعلوم أن إبراهيم كان مؤمنا كما أخبر الله عنه بقوله : { أولم تؤمن قال بلى } ولكن طلب طمأنينة قلبه كما قال : { ولكن ليطمئن قلبي } فالتفاوت بين الإيمان والاطمئنان سماه النبي صلى الله عليه وسلم شكا لذلك بإحياء الموتى كذلك الوعد بالنصر في الدنيا : يكون الشخص مؤمنا بذلك ; ولكن قد يضطرب قلبه فلا يطمئن فيكون فوات الاطمئنان ظنا أنه قد كذب فالشك مظنة أنه يكون من باب واحد وهذه الأمور لا تقدح في الإيمان الواجب وإن كان فيها ما هو ذنب فالأنبياء عليهم السلام معصومون من الإقرار على ذلك كما في أفعالهم على ما عرف من أصول السنة والحديث .

                وفي قصص هذه الأمور عبرة للمؤمنين بهم فإنهم لا بد أن يبتلوا بما هو أكثر من ذلك ولا ييأسوا إذا ابتلوا بذلك ويعلمون أنه قد ابتلي به من هو خير منهم وكانت العاقبة إلى خير فليتيقن المرتاب ويتوب المذنب ويقوى إيمان المؤمنين فبها يصح الاتساء بالأنبياء كما في قوله : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر

                } [ ص: 179 ] وفي القرآن من قصص المرسلين التي فيها تسلية وتثبيت ليتأسى بهم في الصبر على ما كذبوا وأوذوا كما قال تعالى : { ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا } ولنا لأنه أسوة في ذلك ما هو كثير في القرآن ; ولهذا قال : { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } وقال : { ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك } وقال : { فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم } { وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك

                } وإذا كان الاتساء بهم مشروعا في هذا وفي هذا فمن المشروع التوبة من الذنب والثقة بوعد الله وإن وقع في القلب ظن من الظنون وطلب مزيد الآيات لطمأنينة القلوب كما هو المناسب للاتساء والاقتداء دون ما كان المتبوع معصوما مطلقا . فيقول التابع : أنا لست من جنسه فإنه لا يذكر بذنب فإذا أذنب استيأس من المتابعة والاقتداء ; لما أتى به من الذنب الذي يفسد المتابعة على القول بالعصمة بخلاف ما إذا قيل : إن ذلك مجبور بالتوبة فإنه تصح معه المتابعة كما قيل : أول من أذنب وأجرم ثم تاب وندم آدم أبو البشر ومن أشبه أباه ما ظلم .

                [ ص: 180 ] والله تعالى قص علينا قصص توبة الأنبياء لنقتدي بهم في المتاب وأما ما ذكره سبحانه أن الاقتداء بهم في الأفعال التي أقروا عليها فلم ينهوا عنها ولم يتوبوا منها فهذا هو المشروع . فأما ما نهوا عنه وتابوا منه فليس بدون المنسوخ من أفعالهم وإن كان ما أمروا به أبيح لهم ثم نسخ تنقطع فيه المتابعة ; فما لم يؤمروا به أحرى وأولى .

                وأيضا فقوله : { وظنوا أنهم قد كذبوا } قد يكونون ظنوا في الموعود به ما ليس هو فيه بطريق الاجتهاد منهم ; فتبين الأمر بخلافه فهذا جائز عليهم كما سنبينه فإذا ظن بالموعود به ما ليس هو فيه ثم تبين الأمر بخلافه ظن أن ذلك كذب وكان كذبا من جهة ظن في الخبر ما لا يجب أن يكون فيه .

                فأما الشك فيما يعلم أنه أخبر به فهذا لا يكون وسنوضح ذلك إن شاء الله تعالى .

                ومما ينبغي أن يعلم أنه سبحانه ذكر هنا شيئان : " أحدهما " استيئاس الرسل . و " الثاني " ظن أنهم كذبوا . وقد ذكرنا لفظ " الظن " فأما لفظ ( استيأسوا فإنه قال سبحانه : { حتى إذا استيئس الرسل } ولم يقل يئس الرسل ولا ذكر ما استيأسوا منه وهذا اللفظ قد ذكره في هذه السورة { فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين

                } وقد يقال : الاستيئاس ليس هو الإياس ; لوجوه : " أحدها " أن إخوة يوسف لم ييأسوا منه بالكلية فإن قول كبيرهم : { فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين } دليل على أنه يرجو أن يحكم الله له وحكمه هنا لا بد أن يتضمن تخليصنا ليوسف منهم وإلا فحكمه له بغير ذلك لا يناسب قعوده في مصر لأجل ذلك .

                وأيضا : ف " اليأس " يكون في الشيء الذي لا يكون ولم يجئ ما يقتضي ذلك فإنهم قالوا : { قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين } { قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون } فامتنع من تسليمه إليهم . ومن المعلوم أن هذا لا يوجب القطع بأنه لا يسلم إليهم فإنه يتغير عزمه ونيته وما أكثر تقليب القلوب وقد يتبدل الأمر بغيره حتى يصير الحكم إلى غيره وقد يتخلص بغير اختياره والعادات قد جرت بهذا على مثل من عنده من قال لا يعطيه . فقد [ ص: 182 ] يعطيه وقد يخرج من يده بغير اختياره وقد يموت عنه فيخرج والعالم مملوء من هذا .

                " الوجه الثاني " قال لهم يعقوب : { يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون } . فنهاهم عن اليأس من روح الله ولم ينههم عن الاستيئاس وهو الذي كان منهم . وأخبر أنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون .

                ومن المعلوم أنهم لم يكونوا كافرين فهذا هو " الوجه الثالث " أيضا .

                وهو أنه أخبر أنه { لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون } فيمتنع أن يكون للأنبياء يأس من روح الله وأن يقعوا في الاستيئاس بل المؤمنون ما داموا مؤمنين لا ييأسون من روح الله وهذه السورة تضمنت ذكر المستيئسين وأن الفرح جاءهم بعد ذلك لئلا ييأس المؤمن ; ولهذا فيها : { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } فذكر استيئاس الإخوة من أخي يوسف وذكر استيئاس الرسل يصلح أن يدخل فيه ما ذكره ابن عباس وما ذكرته عائشة جميعا .

                " الوجه الرابع " أن الاستيئاس استفعال من اليأس والاستفعال [ ص: 183 ] يقع على وجوه : يكون لطلب الفعل من الغير فالاستخراج والاستفهام والاستعلام يكون في الأفعال المتعدية يقال : استخرجت المال من غيري وكذلك استفهمت ولا يصلح هذا أن يكون معنى الاستيئاس فإن أحدا لا يطلب اليأس ويستدعيه ; ولأن استيأس فعل لازم لا متعد .

                ويكون للاستفعال لصيرورة المستفعل على صفة غيره وهذا يكون في الأفعال اللازمة كقولهم : استحجر الطين أي صار كالحجر . واستنوق الفحل أي صار كالناقة . وأما النظر فيما استيأسوا منه فإن الله تعالى ذكر ذلك في قصة إخوة يوسف حيث قال : { فلما استيأسوا منه } .

                وأما الرسل فلم يذكر ما استيأسوا منه بل أطلق وصفهم بالاستيئاس فليس لأحد أن يقيده بأنهم استيأسوا مما وعدوا به وأخبروا بكونه ولا ذكر ابن عباس ذلك .

                وثبت أن قوله : { وظنوا أنهم قد كذبوا } لا يدل على ظاهره فضلا عن باطنه : أنه حصل في قلوبهم مثل تساوي الطرفين فيما أخبروا به فإن لفظ الظن في اللغة لا يقتضي ذلك ; بل يسمى ظنا ما هو من أكذب الحديث عن الظان ; لكونه أمرا مرجوحا في نفسه . واسم [ ص: 184 ] اليقين والريب والشك ونحوها يتناول علم القلب وعمله وتصديقه وعدم تصديقه وسكينته وعدم سكينته ليست هذه الأمور بمجرد العلم فقط كما يحسب ذلك بعض الناس كما نبهنا [ عليه ] في غير هذا الموضع .

                إذ المقصود هنا الكلام على قوله : { حتى إذا استيئس الرسل } . فإذا كان الخبر عن استيئاسهم مطلقا فمن المعلوم أن الله إذا وعد الرسل والمؤمنين بنصر مطلق - كما هو غالب إخباراته - لم يقيد زمانه ولا مكانه ولا سنته ولا صفته فكثيرا ما يعتقد الناس في الموعود به صفات أخرى لم ينزل عليها خطاب الحق بل اعتقدوها بأسباب أخرى كما اعتقد طائفة من الصحابة إخبار النبي صلى الله عليه وسلم لهم أنهم يدخلون المسجد الحرام ويطوفون به أن ذلك يكون عام الحديبية ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج معتمرا ورجا أن يدخل مكة ذلك العام ويطوف ويسعى . فلما استيأسوا من دخوله مكة ذلك العام - لما صدهم المشركون حتى قاضاهم النبي صلى الله عليه وسلم على الصلح المشهور - بقي في قلب بعضهم شيء حتى { قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم ألم تخبرنا أنا ندخل البيت ونطوف ؟ قال : بلى . فأخبرتك أنك تدخله هذا العام ؟ . قال : لا . قال : فإنك داخله ومطوف } وكذلك قال له أبو بكر .

                وكان أبو بكر رضي الله عنه أكثر علما وإيمانا من عمر حتى تاب [ ص: 185 ] عمر مما صدر منه وإن كان عمر - رضي الله عنه - محدثا كما جاء في الحديث الصحيح أنه قال صلى الله عليه وسلم { قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر } فهو - رضي الله عنه - المحدث الملهم الذي ضرب الله الحق على لسانه وقلبه ; ولكن مزية التصديق الذي هو أكمل متابعة للرسول وعلما وإيمانا بما جاء به درجته فوق درجته ; فلهذا كان الصديق أفضل الأمة صاحب المتابعة للآثار النبوية فهو معلم لعمر ومؤدب للمحدث منهم الذي يكون له من ربه إلهام وخطاب كما كان أبو بكر معلما لعمر ومؤدبا له حيث قال له : فأخبرك أنك تدخله هذا العام ؟ قال : لا قال إنك آتيه ومطوف .

                فبين له الصديق أن وعد النبي صلى الله عليه وسلم مطلق غير مقيد بوقت وكونه سعى في ذلك العام وقصده لا يوجب أن يعني ما أخبر به ; فإنه قد يقصد الشيء ولا يكون ; بل يكون غيره ; إذ ليس من شرط النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون كما قصده ; بل من تمام نعمة ربه عليه أن يقيده عما يقصده إلى أمر آخر هو أنفع مما قصده كما كان صلح الحديبية أنفع للمؤمنين من دخولهم ذلك العام بخلاف خبر النبي صلى الله عليه وسلم فإنه صادق لا بد أن يقع ما أخبر به ويتحقق .

                [ ص: 186 ] وكذلك ظن النبي كما { قال في تأبير النخل : إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله فإني لن أكذب على الله } فاستيئاس عمر وغيره من دخول ذلك هو استيئاس مما ظنوه موعودا به ولم يكن موعودا به .

                ومثل هذا لا يمتنع على الأنبياء أن يظنوا شيئا فيكون الأمر بخلاف ما [ ظنوه ] فقد يظنون فيما وعدوه تعيينا وصفات ولا يكون كما ظنوه فييأسون مما ظنوه في الوعد لا من تعيين الوعد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { رأيت أن أبا جهل قد أسلم ; فلما أسلم خالد ظنوه هو فلما أسلم عكرمة علم أنه هو } .

                وروى مسلم في صحيحه { أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون : فقال لو لم تفعلوا هذا لصلح قال : فخرج سبتا فمر بهم فقال : ما لفحلكم ؟ قالوا : قلت : كذا وكذا . قال : أنتم أعلم بأمر دنياكم } وروي أيضا { عن موسى بن طلحة عن أبيه طلحة ابن عبيد الله قال : مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رءوس النخل فقال : ما يصنع هؤلاء فقال : يلقحونه يجعلون الذكر في الأنثى فتلقح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أظن يغني ذلك شيئا فأخبروا بذلك فتركوه . فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال : إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه فإنني [ ص: 187 ] ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به فإني لن أكذب على الله } .

                فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا حدثنا بشيء عن الله أن نأخذ به فإنه لن يكذب على الله فهو أتقانا لله وأعلمنا بما يتقى وهو أحق أن يكون آخذا بما يحدثنا عن الله فإذا أخبره الله بوعد كان علينا أن نصدق به وتصديقه هو به أعظم من تصديقنا ولم يكن لنا أن نشك فيه وهو - بأبي - أولى وأحرى أن لا يشك فيه ; لكن قد يظن ظنا كقوله : { إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن } وإن كان أخبره به مطلقا فمستنده ظنون كقوله في حديث ذي اليدين : { ما قصرت الصلاة ولا نسيت } .

                وقد يظن الشيء ثم يبين الله الأمر على جليته كما وقع مثل ذلك في أمور كقوله تعالى : { إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا } نزلت في الوليد بن عقبة لما استعمله النبي صلى الله عليه وسلم [ وهم أن ] يغزوهم لما ظن صدقه حتى أنزل الله هذه الآية .

                وكذلك في قصة بني أبيرق التي أنزل الله فيها : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما } وذلك لما جاء قوم تركوا السارق الذي كان يسرق وأخرجوا البريء ; [ ص: 188 ] فظن النبي صلى الله عليه وسلم صدقهم حتى تبين الأمر بعد ذلك . { وقال في حديث قصر الصلاة : لم أنس ولم تقصر فقالوا : بلى قد نسيت } . وكان قد نسي فأخبر عن موجب ظنه واعتقاده حتى تبين الأمر بعد ذلك . { وروي عنه أنه قال : إني لا أنسى لأسن } وأيضا فقوله في القرآن : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } شامل للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته حيث قال في صدر الآيات : { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله } الآيات .

                وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عيسى الأنصاري عن سعيد بن جبير { عن ابن عباس قال : بينا جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضا من فوقه فرفع رأسه فقال : هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح إلا اليوم فنزل منه ملك فقال : هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم فسلم وقال : أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك : فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منها إلا أعطيته } .

                وفي صحيح مسلم عن آدم عن سعيد بن جبير { عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } دخل في قلوبهم منها شيء لم يدخل مثله فقال النبي [ ص: 189 ] صلى الله عليه وسلم قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا قال : فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } الآيات إلى قوله : { أو أخطأنا } قال قد فعلت إلى آخر السورة قال : قد فعلت } .

                وفي صحيح مسلم عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه { عن أبي هريرة قال : لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم { لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب فقالوا : أي رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب سمعنا وعصينا ؟ بل قولوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير فلما اقتراها القوم وذلت بها ألسنتهم : أنزل الله عز وجل في أثرها : { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه } إلى قوله : { وإليك المصير } فلما فعلوا ذلك نسخها سبحانه فأنزل الله { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } إلى قوله : { قبلنا } قال : نعم : { ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } قال : نعم . إلى آخر السورة قال : نعم } .

                والذي عليه جمهور أهل الحديث والفقه أنه يجوز عليهم الخطأ في [ ص: 190 ] الاجتهاد ; لكن لا يقرون عليه وإذا كان في الأمر والنهي فكيف في الخبر ؟ وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي بنحو مما أسمع فأحسب أنه صادق فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار } فنفس ما يعد الله به الأنبياء والمؤمنين حقا لا يمترون فيه كما قال تعالى في قصة نوح { ونادى نوح ربه } إلى آخر الآية . ومثل هذا الظن قد يكون من إلقاء الشيطان المذكور في قوله : { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي } إلى قوله : { صراط مستقيم } وقد تكلمنا على هذه الآية في غير هذا الموضع .

                وللناس فيها قولان مشهوران ; بعد اتفاقهم على أن التمني هو التلاوة والقرآن كما عليه المفسرون من السلف كما في قوله : { ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون } وأما من أول النهي على تمني القلب فذاك فيه كلام آخر ; وإن قيل : إن الآية تعم النوعين ; لكن الأول هو المعروف المشهور في التفسير وهو ظاهر القرآن ومراد الآية قطعا لقوله بعد ذلك : { فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم } { ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض } . وهذا كله لا يكون في مجرد القلب إذا [ ص: 191 ] لم يتكلم به النبي ; لكن قد يكون في ظنه الذي يتكلم به بعضه النخل ونحوها وهو يوافق ما ذكرناه .

                وإذا كان التمني لا بد أن يدخل فيه القول ففيه قولان : " الأول " أن الإلقاء هو في سمع المستمعين ولم يتكلم به الرسول وهذا قول من تأول الآية بمنع جواز الإلقاء في كلامه .

                و " الثاني " - وهو الذي عليه عامة السلف ومن اتبعهم - أن الإلقاء في نفس التلاوة كما دلت عليه الآية وسياقها من غير وجه كما وردت به الآثار المتعددة ولا محذور في ذلك إلا إذا أقر عليه فأما إذا نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته فلا محذور في ذلك وليس هو خطأ وغلط في تبليغ الرسالة إلا إذا أقر عليه .

                ولا ريب أنه معصوم في تبليغ الرسالة أن يقر على خطأ كما قال : { فإذا حدثتكم عن الله بشيء فخذوا به فإني لن أكذب على الله } ولولا ذلك لما قامت الحجة به فإن كونه رسول الله يقتضي أنه صادق فيما يخبر به عن الله والصدق يتضمن نفي الكذب ونفي الخطأ فيه . فلو جاز عليه الخطأ فيما يخبر به عن الله وأقر عليه لم يكن كل ما يخبر به عن الله .

                والذين منعوا أن يقع الإلقاء في تبليغه فروا من هذا وقصدوا [ ص: 192 ] خيرا وأحسنوا في ذلك ; لكن يقال لهم : ألقى ثم أحكم فلا محذور في ذلك . فإن هذا يشبه النسخ لمن بلغه الأمر والنهي من بعض الوجوه فإنه إذا موقن مصدق برفع قول سبق لسانه به ليس أعظم من إخباره برفعه .

                ولهذا قال في النسخ : { وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله } فظنهم أنهم قد كذبوا هو يتبع ما يظنونه من معنى الوعد وهذا جائز لا محذور فيه . إذا لم يقروا عليه وهذا وجه حسن وهو موافق لظاهر الآية ولسائر الأصول من الآيات والأحاديث والذي يحقق [ ذلك ] أن باب الوعد والوعيد ليس بأعظم من باب الأمر والنهي .

                فإذا كان من الجائز في باب الأمر والنهي أن يظنوا شيئا ثم يتبين الأمر لهم بخلافه ; فلأن يجوز ذلك في باب الوعد والوعيد بطريق الأولى والأحرى حتى إن باب الأمر والنهي إذا تمسكوا فيه بالاستصحاب لم يقع في ذلك ظن خلاف ما هو عليه الأمر في نفسه ; فإن الوجوب والتحريم الذي لا يثبت إلا بخطاب إذا نفوه قبل الخطاب كان ذلك اعتقادا مطابقا للأمر في نفسه وباب الوعد إذا لم يخبروا به قد يظنون انتفاءه كما ظن الخليل جواز المغفرة لأبيه حتى استغفر له ونهينا عن الاقتداء . كما { قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك } وحتى استأذن ربه في الاستغفار لأمه فلم يؤذن له [ ص: 193 ] في ذلك وحتى صلى على المنافقين قبل أن ينهى عن ذلك وكان يرجو لهم المغفرة حتى أنزل الله عز وجل : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } إلى قوله : { لأواه حليم } وقال عن المنافقين : { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا } الآية . وقال { سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم } فإذا كان صلى على المنافقين واستغفر لهم راجيا أن يغفر لهم قبل أن يعلم ذلك .

                ولهذا سوغ العلماء أن يروى في باب الوعد والوعيد من الأحاديث ما لم يعلم أنه كذب وإن كان ضعيف الإسناد . بخلاف باب الأمر والنهي فإنه لا يؤخذ فيه إلا بما يثبت أنه صدق ; لأن باب الوعد والوعيد إذا أمكن أن يكون الخبر صدقا وأمكن أن يوجد الخبر كذبا لم يجز نفيه ; لا سيما بلا علم كما لم يجز الجزم بثبوته بلا علم ; إذ لا محذور فيه . منابت الناس اللفظ تعيين الوعد والوعيد فلا يجوز منع ذلك بمنع الحديث إذا أمكن أن يكون صدقا ; لأن في ذلك إبطالا لما هو حق وذلك لا يجوز . ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم { حدثوا عن بني إسرائيل [ ص: 194 ] ولا حرج } وهذا الباب وهو " باب الوعد والوعيد " هو في الكتاب بأسماء مطلقة للمؤمنين والصابرين والمجاهدين والمحسنين فما أكثر من يظن من الناس أنه من أهل الوعد ويكون اللفظ في ظنه أنه متصف بما يدخل في الوعد لا في اعتقاد صدق الوعد في نفسه .

                وهذا كقوله : { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } وقوله : { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين } الآيتين فقد يظن الإنسان في نفسه أو غيره كمال الإيمان المستحق للنصر وإن جند الله الغالبون ويكون الأمر بخلاف ذلك .

                وقد يقع من النصر الموعود به ما لا يظن أنه من الموعود به فالظن المخطئ فهم ذلك كثير جدا أكثر من باب الأمر والنهي مع كثرة ما وقع من الغلط في ذلك وهذا مما لا يحصر الغلط فيه إلا الله تعالى وهذا عام لجميع الآدميين ; لكن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه لا يقرون ; بل يتبين لهم وغير الأنبياء قد لا يتبين له ذلك في الدنيا .

                ولهذا كثر في القرآن ما يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بتصديق الوعد [ ص: 195 ] والإيمان وما يحتاج إليه ذلك من الصبر إلى أن يجيء الوقت ومن الاستغفار لزوال الذنوب التي بها تحقيق اتصافه بصفة الوعد . كما قال تعالى : { فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون } وقال تعالى : { فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك } الآية . والآيات في هذا الباب كثيرة معلومة . والله تعالى أعلم .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية