الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                ولهذا تنازع العلماء في نفي المحارب من الأرض هل هو طرده بحيث لا يأوي في بلد أو حبسه أو بحسب ما يراه الإمام من هذا وهذا ففي مذهب أحمد ثلاث روايات الثالثة أعدل وأحسن فإن نفيه بحيث لا يأوي في بلد لا يمكن لتفرق الرعية واختلاف هممهم ; بل قد يكون بطرده يقطع الطريق وحبسه قد لا يمكن ; لأنه يحتاج إلى مؤنة إلى طعام وشراب وحارس ; ولا ريب أن النفي أسهل إن أمكن .

                [ ص: 311 ] وقد روي { أن هيتا لما اشتكى الجوع أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخل المدينة من الجمعة إلى الجمعة يسأل ما يقيته إلى الجمعة الأخرى } ومعلوم أن قوله : { أو ينفوا من الأرض } لا يتضمن نفيه من جميع الأرض وإنما هو نفيه من بين الناس وهذا حاصل بطرده وحبسه .

                وهذا الذي جاءت به الشريعة من النفي هو نوع من الهجرة أي هجره وليس هذا كنفي الثلاثة الذين خلفوا ولا هجره كهجرهم فإنه منع الناس من مخالطتهم ومخاطبتهم حتى أزواجهم ولم يمنعهم من مشاهدة الناس وحضور مجامعهم في الصلاة وغيرها وهذا دون النفي المشروع فإن النفي المشروع مجموع من الأمرين وذلك أن الله خلق الآدميين محتاجين إلى معاونة بعضهم بعضا على مصلحة دينهم ودنياهم فمن كان بمخالطته للناس لا يحصل منه عون على الدين بل يفسدهم ويضرهم في دينهم ودنياهم استحق الإخراج من بينهم وذلك أنه مضرة بلا مصلحة ; فإن مخالطته لهم فيها فسادهم وفساد أولادهم ; فإن الصبي إذا رأى صبيا مثله يفعل شيئا تشبه به وسار بسيرته مع الفساق فإن الاجتماع بالزناة واللوطيين فيه أعظم الفساد والضرر على النساء والصبيان والرجال فيجب أن يعاقب اللوطي والزاني بما فيه تفريقه وإبعاده .

                وجماع الهجرة هي هجرة السيئات وأهلها وكذلك هجران الدعاة إلى [ ص: 312 ] البدع وهجران الفساق وهجران من يخالط هؤلاء كلهم أو يعاونهم وكذلك من يترك الجهاد الذي لا مصلحة لهم بدونه فإنه يعاقب بهجرهم له لما لم يعاونهم على البر والتقوى فالزناة واللوطية وتارك الجهاد وأهل البدع وشربة الخمر هؤلاء كلهم ومخالطتهم مضرة على دين الإسلام وليس فيهم معاونة لا على بر ولا تقوى فمن لم يهجرهم كان تاركا للمأمور فاعلا للمحظور فهذا ترك المأمور من الاجتماع وذلك فعل المحظور منه فعوقب كل منها بما يناسب جرمه فإن العقوبة إنما تكون على ترك مأمور أو فعل محظور كما قال الفقهاء : إنما يشرع التعزير في معصية ليس فيها حد فإن كان فيها كفارة فعلى قولين في مذهب أحمد وغيره .

                قال : وما جاءت به الشريعة من المأمورات والعقوبات والكفارات وغير ذلك فإنه يفعل منه بحسب الاستطاعة فإذا لم يقدر المسلم على جهاد جميع المشركين فإنه يجاهد من يقدر على جهاده وكذلك إذا لم يقدر على عقوبة جميع المعتدين فإنه يعاقب من يقدر على عقوبته فإذا لم يمكن النفي والحبس عن جميع الناس كان النفي والحبس على حسب القدرة مثل أن يحبس بدار لا يباشر إلا أهلها لا يخرج منها أو أن لا يباشر إلا شخصا أو شخصين فهذا هو الممكن ; فيكون هو المأمور به وإن أمكن أن يجعل في مكان قد قل فيه القبيح ولا يعدم بالكلية كان ذلك هو المأمور به فإن الشريعة جاءت بتحصيل [ ص: 313 ] المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها فالقليل من الخير خير من تركه ودفع بعض الشر خير من تركه كله وكذلك المرأة المتشبهة بالرجال تحبس شبيها بحالها إذا زنت سواء كانت بكرا أو ثيبا فإن جنس الحبس مما شرع في جنس الفاحشة .

                ومما يدخل في هذا أن عمر بن الخطاب نفى نصر بن حجاج من المدينة ومن وطنه إلى البصرة لما سمع تشبيب النساء به وتشبهه بهن وكان أولا قد أمر بأخذ شعره ; ليزيل جماله الذي كان يفتن به النساء فلما رآه بعد ذلك من أحسن الناس وجنتين غمه ذلك فنفاه إلى البصرة فهذا لم يصدر منه ذنب ولا فاحشة يعاقب عليها ; لكن كان في النساء من يفتتن به فأمر بإزالة جماله الفاتن فإن انتقاله عن وطنه مما يضعف همته وبدنه ويعلم أنه معاقب وهذا من باب التفريق بين الذين يخاف عليهم الفاحشة والعشق قبل وقوعه وليس من باب المعاقبة وقد كان عمر ينفي في الخمر إلى خيبر زيادة في عقوبة شاربها .

                ومن أقوى ما يهيج الفاحشة إنشاد أشعار الذين في قلوبهم مرض من العشق ومحبة الفواحش ومقدماتها بالأصوات المطربة فإن المغني إذا غنى بذلك حرك القلوب المريضة إلى محبة الفواحش فعندها يهيج مرضه ويقوى بلاؤه وإن كان القلب في عافية من ذلك جعل فيه مرضا كما قال بعض السلف : الغناء رقية الزنا .

                [ ص: 314 ] ورقية الحية هي ما تستخرج بها الحية من جحرها ورقية العين والحمة هي ما تستخرج به العافية ورقية الزنا هو ما يدعو إلى الزنا ويخرج من الرجل هذا الأمر القبيح والفعل الخبيث كما أن الخمر أم الخبائث قال ابن مسعود : " الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل " وقال تعالى لإبليس : { واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد } واستفزازه إياهم بصوته يكون بالغناء - كما قال من قال من السلف - وبغيره من الأصوات كالنياحة وغير ذلك فإن هذه الأصوات كلها توجب انزعاج القلب والنفس الخبيثة إلى ذلك وتوجب حركتها السريعة واضطرابها حتى يبقى الشيطان يلعب بهؤلاء أعظم من لعب الصبيان بالكرة والنفس متحركة ; فإن سكنت فبإذن الله وإلا فهي لا تزال متحركة .

                وشبهها بعضهم بكرة على مستوى أملس لا تزال تتحرك عليه وفي الحديث المرفوع : { القلب أشد تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانا } وفي الحديث الآخر : { مثل القلب مثل ريشة بفلاة من الأرض تحركها الريح } وفي صحيح البخاري عن سالم عن ابن عمر قال : { كانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ومقلب القلوب } وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : { اللهم مصرف القلوب اصرف قلوبنا إلى طاعتك } وفي الترمذي [ ص: 315 ] عن أبي سفيان { قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك . قال فقلت : يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا ؟ قال : نعم . القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء } .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية