الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 381 ] والنظر إلى العورات حرام داخل في قوله تعالى { قل إنما حرم ربي الفواحش } وفي قوله : { ولا تقربوا الفواحش } فإن الفواحش وإن كانت ظاهرة في المباشرة بالفرج أو الدبر وما يتبع ذلك من الملامسة والنظر وغير ذلك وكما في قصة لوط : { أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين } { أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون } وقوله : { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة } . فالفاحشة أيضا تتناول كشف العورة وإن لم يكن في ذلك مباشرة كما قال تعالى : { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا } وهذه الفاحشة هي طوافهم بالبيت عراة وكانوا يقولون لا نطوف بثياب عصينا الله فيها ; إلا الحمس فإنهم كانوا يطوفون في ثيابهم وغيرهم إن حصل له ثياب من الحمس طاف فيها وإلا طاف عريانا وإن طاف بثيابه حرمت عليه فألقاها فكانت تسمى لقاء وكذلك المرأة إذا لم يحصل لها ثياب جعلت يدها على فرجها ويدها الأخرى على دبرها وطافت وتقول :

                اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله

                وقد سمى الله ذلك فاحشة وقوله في سياق ذلك : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن } يتناول كشف العورة أيضا وإبداءها ويؤكد ذلك أن إبداء فعل النكاح باللفظ الصريح يسمى فحشاء وتفحشا فكشف الأعضاء والفعل للبصر ككشف ذلك للسمع .

                [ ص: 382 ] وكل واحد من الكشفين يسمى وصفا كما قال عليه السلام { لا تنعت المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها } ويقال : فلان يصف فلانا وثوب يصف البشرة ثم إن كل واحد من إظهار ذلك للسمع والبصر يباح للحاجة ; بل يستحب إذا لم يحصل المستحب أو الواجب إلا بذلك { كقول النبي صلى الله عليه وسلم لماعز : أنكتها } وكقوله { من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا } .

                والمقصود أن الفاحشة تتناول الفعل القبيح وتتناول إظهار الفعل وأعضاءه وهذا كما أن ذلك يتناول ما فحش وإن كان بعقد نكاح كقوله تعالى : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا } فأخبر أن هذا النكاح فاحشة وقد قيل إن هذا من الفواحش الباطنة فظهر أن الفاحشة تتناول العقود الفاحشة كما تتناول المباشرة بالفاحشة ; فإن قوله : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } يتناول العقد والوطء . وفي قوله : { ما ظهر منها وما بطن } عموم لأنواع كثيرة من الأقوال والأفعال وأمر تعالى بحفظ الفرج مطلقا بقوله : { ويحفظوا فروجهم } وبقوله : { والذين هم لفروجهم حافظون } { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } الآيات . وقال : { والحافظين فروجهم والحافظات } فحفظ الفرج مثل قوله : { والحافظون لحدود الله } وحفظها هو صرفها عما لا يحل .

                [ ص: 383 ] وأما الأبصار فلا بد من فتحها والنظر بها وقد يفجأ الإنسان ما ينظر إليه بغير قصد فلا يمكن غضها مطلقا ولهذا أمر تعالى عباده بالغض منها كما أمر لقمان ابنه بالغض من صوته . وأما قوله تعالى { إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله } الآية فإنه مدحهم على غض الصوت عند رسوله مطلقا فهم مأمورون بذلك في مثل ذلك ينهون عن رفع الصوت عنده صلى الله عليه وسلم وأما غض الصوت مطلقا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو غض خاص ممدوح ويمكن العبد أن يغض صوته مطلقا في كل حال ولم يؤمر العبد به ; بل يؤمر برفع الصوت في مواضع : إما أمر إيجاب أو استحباب فلهذا قال : { واغضض من صوتك } فإن الغض في الصوت والبصر جماع ما يدخل إلى القلب ويخرج منه فبالسمع يدخل القلب وبالصوت يخرج منه كما جمع العضوين في قوله : { ألم نجعل له عينين } { ولسانا وشفتين } فبالعين والنظر يعرف القلب الأمور واللسان والصوت يخرجان من عند القلب الأمور هذا رائد القلب وصاحب خبره وجاسوسه وهذا ترجمانه .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية