الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وقوله { ولا أنتم عابدون ما أعبد } نفي العبادة مطلقا ليس هو نفي لما قد يسمى عبادة مع التقييد . والمشرك إذا كان يعبد الله ويعبد غيره فيقال : إنه يعبد الله وغيره أو يعبده مشركا به . لا يقال : إنه يعبد مطلقا . والمعطل الذي لا يعبد شيئا شر منه . والعبادة المطلقة المعتدلة هي المقبولة وعبادة المشرك ليست مقبولة .

                ومما يوضح هذا قوله : { أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت } الآية . قالوا فيها { نعبد إلهك وإله آبائك } ثم قالوا : { إلها واحدا } .

                فهذا بدل من الأول في أظهر الوجهين . فإن النكرة تبدل من المعرفة كما في قوله { لنسفعن بالناصية } { ناصية كاذبة خاطئة } فذكرت معرفة وموصوفة . كذلك قالوا { نعبد إلهك } فعرفوه ثم قالوا { إلها واحدا } فوصفوه . والبدل في حكم تكرير العامل أحيانا كما في قوله { قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم } فالتقدير : نعبد إلهك نعبد إلها واحدا ونحن له مسلمون . فجمعوا بين الخبرين بأمرين بأنهم يعبدون إلهه وأنهم إنما يعبدون إلها واحدا .

                فمن عبد إلهين لم يكن عابدا لإلهه وإله آبائه . وإنما يعبد إلهه من عبد إلها واحدا . ولو كان من عبد الله وعبد معه غيره عابدا له لكانت عبادته نوعين عبادة إشراك وعبادة إخلاص . وإذا كان كذلك لم يكن [ ص: 575 ] قوله { إلها واحدا } بدلا . لأن هذا كل من كل ليس هو بدل بعض من كل . فعلم أن إلهه وإله آبائه لا يكون إلا إلها واحدا . والوجه الثاني : قوله { إلها واحدا } نصب على الحال لكنها حال لازمة فإنه لا يكون إلا إلها واحدا كقوله { وهو الحق مصدقا } وهو لا يكون إلا مصدقا . ومنه { ملة إبراهيم حنيفا } { ويقتلون النبيين بغير حق } . فمن عبد معه غيره فما عبده إلها واحدا ومن أشرك به فما عبده .

                وهو لا يكون إلا إلها واحدا . فإذا لم يعبده في الحال اللازمة له لم تكن له حال أخرى يعبده فيها فما عبده . فإن قيل : المشرك يجعل معه آلهة أخرى فهو يعبد في حال ليس هو فيها الواحد قيل : هذا غلط منشؤه أن لفظ " الإله " يراد به المستحق للإلهية ويراد به ما اتخذه الناس إلها وإن لم يكن إلها في نفس الأمر بل هي أسماء سموها هم وآباؤهم . فتلك ليست في نفسها آلهة وإنما هي آلهة في أنفس العابدين . فإلهيتها أمر قدره المشركون وجعلوه في أنفسهم من غير أن يكون مطابقا للخارج كالذي يجعل من ليس بعالم عالما ومن ليس بحي حيا ومن ليس بصادق ولا عدل صادقا وعدلا فيقال : هذا عندك صادق وعادل وعالم وتلك اعتقادات غير مطابقة وأقوال كاذبة غير لائقة .

                [ ص: 576 ] ولهذا يجعل سبحانه ذلك من باب الافتراء والكذب كما قال أصحاب الكهف { هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا } . وقال الخليل { إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا } . وقال { وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون } أي أي شيء يتبع الذين يشركون ؟ وإنما يتبعون الظن والخرص وهو الحزر . هذا صواب وأن ما استفهامية . وقد قيل إنها نافية وبعضهم لم يذكر غيره كأبي الفرج . وهو ضعيف كما قد بين ذلك في غير هذا الموضع .

                وقال هود { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون } .

                وإذا كانت إلهية ما سوى الله أمرا مختلقا يوجد في الذهن واللسان لا وجود له في الأعيان . وهو من باب الكذب والاعتقاد الباطل الذي ليس بمطابق . وما عند عابديها من الحب والخوف والرجاء لها تابع لذلك الاعتقاد الباطل . كمن اعتقد في شخص أنه صادق فصدقه فيما يقول وبنى على إخباره أعمالا كثيرة . فلما تبين كذبه ظهر فساد تلك الأعمال كأتباع مسيلمة والأسود وغيرهما من أصحاب الزوايا والترهات وما يشرعونه لأتباعهم مما لم يأذن به الله بخلاف الصادق والصدق .

                [ ص: 577 ] ولهذا كانت كلمة التوحيد { كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء } . وقال في كلمة الشرك { كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار } . فليس [ لها ] أساس ثابت ولا فرع ثابت إذ كانت باطلة كأقوال الكاذبين وأعمالهم . بل هي أعظم الكذب والافتراء مع الحب لها .

                والشرك أعظم الظلم . { قال ابن مسعود قلت : يا رسول الله أي الذنب أعظم . قال : أن تجعل لله ندا وهو خلقك } " .

                فنفس تألههم لها وعبادتهم إياها وتعظيمها وحبها ودعائها واعتقادها آلهة والخبر عنها بأنها آلهة موجود كما كان اعتقاد الكذابين موجودا . وأما نفس اتصافها بالإلهية فمفقود كاتصاف مسيلمة بالنبوة .

                فهنا حالان حال للعابد وحال للمعبود . فأما العابدون فكلهم في قلوبهم عبادة وتأله لمن عبدوه . وأما المعبودون فالرحمن له الإلهية وما سواه لا إلهية له بل هو ميت لا يملك لعابديه ضرا ولا نفعا .

                { قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا } وهو في أصح القولين { سبيلا } بالتقرب بعبادته وذكره . ولهذا قال بعدها { تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده } فأخبر عن الخلائق كلها أنها تسبح بحمده . وقد بسط هذا في موضع آخر .

                فقوله { نعبد إلهك } { إلها واحدا } إذا قيل إنه منصوب على الحال فإما أن يكون حالا من الفاعل العابد أو من المفعول المعبود . فالأول : نعبده في حال كوننا مخلصين لا نعبد إلا إياه . والثاني نعبده في الحال اللازمة له وهو أنه إله واحد فنعبده مخلصين معترفين له بأنه الإله وحده دون ما سواه .

                فإن كان التقدير هذا الثاني امتنع أن يكون المشرك عابدا له فإنه لا يعبده في هذه الحال وهو سبحانه ليست له حال أخرى نعبده فيها . وإن كان التقدير الأول فقد يمكن أن نعبده في حال أخرى نتخذ معه آلهة أخرى في أنفسنا .

                لكن قوله { إلها واحدا } دليل على أنها حال من المعبود بخلاف ما إذا قيل : نعبده مخلصين له الدين فإن هذه حال من الفاعل .

                ولهذا يأتي هذا في القرآن كثيرا كقوله { فاعبد الله مخلصا له الدين } وقوله { قل الله أعبد مخلصا له ديني } . فهذا حال من الفاعل [ ص: 579 ] فإنه يكون تارة مخلصا وتارة مشركا . وأما الرب تعالى فإنه لا يكون إلا إلها واحدا .

                والحال وإن كانت صفة للمفعول فهي أيضا حال للفاعل . فإنهم قالوا : نعبده في هذه الحال . فلزم أن عبادتهم له ليست في غير هذا الحال . وبين أن قوله { نعبد إلهك وإله آبائك } . . . { إلها واحدا } هي حال متعلقة بالفاعل والمفعول جميعا بالعابد والمعبود . فإن العامل فيها المتعلق بها العبادة وهي فعل العابد والذي يقال له المفعول في العربية هو المعبود .

                كما قيل في الجملة { ونحن له مسلمون } . قيل : هي واو العطف وقيل واو الحال أي نعبده في هذه الحال . قالوا : وهي حال من فاعل " نعبد " أو مفعوله لرجوع الهاء إليه في " له " وهذا الترديد غلط إذ هي حال منهما جميعا . فإنهم إذا عبدوه وهم مسلمون فهم مسلمون حال كونهم عابدين وحال كونه معبودا إذ كونهم عابدين وكونه معبودا ليس مختصا بمقارنة أحدهما دون الآخر .

                فالظرف والحال هنا كلمة وليست مفردا ولهذا اشتبه عليهم . فإن المفرد لا يمكن أن يكون في اللفظ صفة لهذا وهذا . فإذا قلت : ضربت زيدا قاعدا فالقعود حال للفاعل أو المفعول . وإذا قلت : ضربته والناس [ ص: 580 ] قعود فليس هذه الحال من أحدهما دون الآخر بل هي مقارنة للضرب المتعلق بها كأنه قال : ضربته في زمان قعود الناس . فهو ظرف للفعل المتعلق بالفاعل والمفعول بخلاف ما إذا قلت : ضربته في حال قعودي أو قعوده فهذا يختلف .

                والآية فيها { إلها واحدا } . فهذه حال من المعبود بلا ريب . فلزم أنهم إنما عبدوه في حال كونه إلها واحدا وهذه لازمة له .

                وإذا قيل المراد : في حال كونه معبودا واحدا لا نتخذ معه معبودا آخر فهذه حال ليست لازمة لكنه صفة للعابدين لا له . قيل : هذا ليس فيه مدح له ولا وصف له بأنه يستحق الإلهية . لكن فيها وصفهم فقط .

                وأيضا فقوله { إلها واحدا } كقوله { وإلهكم إله واحد } فهو في نفسه إله واحد وإن جعل معه المشركون آلهة بالافتراء والحب . فيجب أن يكون المراد ما دل عليه هذا الاسم .

                ولو أرادوا ذلك المعنى لقالوا : نعبده مخلصين له الدين . وهذا المعنى قد ذكروه في الجملة الثانية وهي قولهم { ونحن له مسلمون } لا سيما إذا جعلت حالا أي نعبده إلها واحدا في حال إسلامنا له .

                [ ص: 581 ] وإسلامهم له يتضمن إخلاص الدين له وخضوعهم واستسلامهم لأحكامه بخلاف غير المسلمين .

                ولهذا قال آمرا للمؤمنين أن يقولوا { آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } .

                ثم قال { صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون } { قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون } .

                وفي هذه الآيات معان جليلة ليس هذا موضع استيفائها .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية