الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وأما الجاهل فلو صلى غير عالم بوجوب الوضوء من لحم الإبل أو صلى في مباركها غير عالم بالنهي ثم بلغه : ففي الإعادة روايتان لكن الأظهر في الحجة أنه لا يعيد كما قد بسطناه في غير هذا الموضع .

                [ ص: 162 ] ومما يقرر هذا في كلام الجاهل في الصلاة أحاديث : منها : حديث ابن مسعود حديث التشهد المستفيض : { أنه قال كنا نقول في الصلاة : السلام على الله من عباده السلام على جبريل وميكائيل السلام على فلان وفلان . فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك . وقال : إن الله هو السلام } ولم يأمرهم بإعادة الصلوات التي قالوا ذلك فيها مع أن هذا الكلام حرام في نفسه فإنه لا يجوز أن يدعى لله بالسلام بل هو المدعو ولما كانوا جهالا بتحريم ذلك لم يأمرهم بالإعادة . ومن ذلك الأعرابي الذي قال : اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا وقال : " لقد تحجرت واسعا " يريد رحمة الله . وهذا الدعاء حرام فإنه سؤال الله أن لا يرحم من خلقه غيرهما . ومن ذلك قول القائل - لما صلى بهم أبو موسى - أقرنت الصلاة بالبر والزكاة ؟ فقال أبو موسى : يا حطان لعلك قلتها ؟ فقلت : ما قلتها ولقد خشيت أن تنكعني بها ولم يأمرني أبو موسى بالإعادة .

                وعلى هذا فكلام العامد في مصلحتها فيه روايتان عن أحمد : إحداهما : يجوز . وهو قول مالك .

                والثانية : لا يجوز . وهو قول الشافعي .

                [ ص: 163 ] وفيه رواية ثالثة : أن الكلام يبطل إلا إذا كان لمصلحتها سواء كان عمدا أو سهوا .

                وفيه رواية رابعة : إلا لمصلحتها سهوا وهو اختيار جدي .

                وفيه رواية خامسة : تبطل إلا صلاة إمام تكلم لمصلحتها ; سواء كان عمدا أو سهوا .

                ومنشأ التردد أنه يكلم ذا اليدين ابتداء ; وتكلم جوابا للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله : بلى قد نسيت : بعد قول النبي صلى الله عليه وسلم { لم أنس ولم تقصر } وتكلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وبقوله : { أحق ما يقول ذو اليدين ؟ } وتكلم المخاطبون بتصديق ذي اليدين فقيل : إنما جاز ذلك لكونه لم يعتقد أنه في الصلاة وكذلك ذو اليدين سؤاله له هو بمنزلة سلامه والمؤمنين معه اتباعا له ; فإنهم لم يكونوا يعلمون أنه نسي بل جوز أن تكون الصلاة قصرت وكذلك سائر الصحابة لو علموا أنه نسي وأن متابعة الناسي في السلام لا تجوز : لسبحوا به ; لكن لم يعلموا بجميع الأمرين قطعا بل جوزوا أحدهما أو كلاهما بل كانوا يعتقدون وجوب المتابعة له في الصلاة مطلقا حتى يتبين لهم .

                فقيل لهؤلاء : فالمصلون أجابوه بتصديق ذي اليدين مع علمهم بأنها [ ص: 164 ] لم تقصر وأنه نسي فظن بعضهم ذلك ; لأن جوابه واجب لا يبطل الصلاة لحديث سعد بن المعلى وظن آخرون أن ذلك لمصلحة الصلاة فجوزوا الكلام لمصلحة الصلاة عمدا وظن آخرون أن ذلك إنما كان سهوا ; لأنهم لم يكونوا يعلمون أنه قد بقي عليهم بقية من الصلاة ; وأن من بقي عليه بقية لا يتكلم .

                ثم قال آخرون : هذا الكلام وكلام النبي صلى الله عليه وسلم وذي اليدين مع كون ذلك سهوا : فإنما كان لمصلحة الصلاة والمقصود هنا أن من تكلم في صلب الصلاة عالما أنه في صلاته بنحو هذا سهوا وعمدا لمصلحة الصلاة : هل يكون بمنزلة هذا ؟ هذا فيه قولان في مذهب أحمد وغيره . فمن لم يسو بينهما قال : هذه الحال لم يكونوا في صلاة لخروجهم منها سهوا ; وإن كانوا في حكمها كما ذكرنا ; فلهذا شاع هذا . ومن يسوي بينهما قال : سائر محظورات الصلاة هي في مثل هذه الحال كما هي في الصلاة نفسها ; فإن التفريق هنا إنما جاز لعذر السهو فلا يفيد فعل شيء مما ينافي الصلاة ; ولهذا اتفقوا على أنه إذا تعمد في مثل هذه الحال ما يبطل الصلاة لغير مصلحة : بطلت صلاته وإن كانت لا تبطل إذا فعل ذلك بعد سلام الإمام ; وذلك أن المصلي صلى الصلاة وترك منافيها ; فإذا عفي عنه في أحدهما لعذر لم يجز أن يعفى عنه في الآخر لغير عذر كما لو زاد الفعل عمدا فإنه بعد [ ص: 165 ] الذكر لو أطال الفصل عمدا : لم يكن له البناء بل يبتدئ الصلاة ; ولهذا لو فعل منافيها سهوا - من كلام أو عمل كثير ونحو ذلك - لم يكن له مع ذلك أن يفرقها عمدا .

                فتبين بهذا كله وجوب الموالاة في الصلاة إلا في حال العذر المسوغ لذلك فالوضوء أولى بذلك .

                فإن قيل : فما تقولون في الغسل ؟ قيل : المشهور عند أصحاب أحمد : الفرق بينهما . وعمدة ذلك ما روي : { أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على يده لمعة لم يصبها الماء فعصر عليها شعره } . وعن ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل من جنابة فرأى لمعة لم يصبها الماء فقال : بجمته فبلها عليها } رواه أحمد وابن ماجه من حديث أبي علي السروجي . وقد ضعف أحمد وغيره حديثه . وروى ابن ماجه عن علي قال { : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني اغتسلت من الجنابة فصليت الفجر ثم أصبحت فرأيت موضعا قدر الظفر لم يصبه ماء ; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كنت مسحت عليه بيدك أجزأك } . وعن ابن مسعود { أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يغتسل من الجنابة فيخطئ بعض جسده ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 166 ] يغسل ذلك المكان ثم يصلي } رواه البيهقي من رواية عاصم بن عبد العزيز الأشجعي قال البخاري : فيه نظر وقال ابن حبان : يخطئ كثيرا . وقال الدارقطني : ليس بالقوي .

                والفرق المعنوي : أن أعضاء الوضوء متعددة يجب فيها الترتيب عندهم : فوجبت فيها الموالاة والبدن في الغسل كالعضو الواحد : لا يجب فيه ترتيب فلا يجب فيه موالاة أيضا ; فإن حكم الوضوء يتعدى محله ; فإنه يغسل أربعة أعضاء فيطهر جميع البدن وأما الجنابة فتشبه إزالة النجاسة : لا يتعدى حكمه محله فكلما غسل شيئا ارتفع عنه الجنابة كما ترتفع النجاسة عن محل الغسل فإذا غسل بعض أعضاء الوضوء لم يرتفع شيء من الحدث لا عنه ولا عن غيره بدليل أنه لا يباح له مس المصحف به .

                وقد يقال : هذا لا يؤثر في الموالاة ; فإن وجوب الموالاة في الشيء الواحد أقوى من وجوبها في الاثنين ; بخلاف الترتيب ; فإنه لا يكون إلا بين شيئين ولا بد أن يكونا مختلفين ; إذ المتماثلات - كالطوافات والسعيات - لا يكون بينهما ترتيب ; ولهذا لم يجب الترتيب عند أحمد ومالك في الركعات بل من نسي ركنا من ركعة فلم يذكر حتى قرأ في الثانية : قامت مقامها وغسل الجنابة عبادة واحدة : الاتصال فيها أظهر منه في الوضوء وهي عبادة في نفسها [ ص: 167 ] تعتبر لها النية ; بخلاف إزالة النجاسة فإنها لا تتعين لها النية إلا في وجه ضعيف : التزموه في الخلاف الجدلي كما ذكره أبو الخطاب ومن تبعه وليس بشيء فيمكن أن يقال : الموالاة فيهما واحدة .

                وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عصر على اللمعة بعد جفافها في الزمن المعتدل وأن الوضوء لا يجوز فيه ذلك : فالفرق أن تارك اللمعة في الرجل مفرط بخلاف المغتسل من الجنابة فإنه لا يرى بدنه كما يرى رجليه فاللمعة إذا كانت في ظهره أو حيث لا يراه ولا يمكنه مسه كان معذورا في تركها فلهذا لم تجب فيه الموالاة بخلاف ما لا يعذر فيه والله أعلم .

                وعلى هذا فلو قيل بسقوط الترتيب بالعذر لتوجه . وقد يخرج حديث تأخير المضمضة والاستنشاق عن غسل الوجه - وهو إحدى الروايتين المنصوصتين - على هذا وأن تاركهما لم يعلم وجوبهما فكان معذورا بالترك فلم يجب الترتيب في ذلك بخلاف من لم يعذر كمنكس الأعضاء الظاهرة ولكن نظيره حديث العهد بالإسلام : إذا اعتقد أن الوضوء غسل اليدين والرجلين فغسلهما فقط أو من ترك غسل وجهه أو يديه لجرح أو مرض وغسل سائر أعضاء الوضوء ثم زال العذر قبل انتقاض الوضوء : فهنا إذا قيل : يغسل ما ترك أولا ولا يضره ترك الترتيب : كان متوجها على هذا الأصل . والله أعلم .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية