الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وسئل عن الحديثين المتفق عليهما في الصحيحين : أحدهما عن عائشة - رضي الله عنها - { أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة ؟ فقال : إن ذلك عرق ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي } - وفي رواية - { وليست بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي } . والحديث الثاني عن عائشة أيضا - رضي الله عنها - : { أن أم حبيبة استحيضت سبع سنين فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأمرها أن تغتسل لكل صلاة } . فهل كانت تغتسل الغسل الكامل المشروع ؟ أم كانت تغسل الدم وتتوضأ ؟ ومع هذا [ ص: 628 ] فهل كانت ناسية لأيام الحيض ؟ أم كانت مبتدأة ؟ وهل نسخ أحد الحديثين الآخر ؟ وأيهما كان الناسخ ؟ وهل إذا ابتليت المرأة بما ابتليت به أم حبيبة أن تغتسل الغسل الكامل ؟ وإذا أمرت بالغسل فيكون هذا من الحرج العظيم ؟ وقد قال الله تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وهل في ذلك نزاع بين الأئمة ؟ ؟ .

                التالي السابق


                فأجاب : ليس أحد الحديثين ناسخا للآخر ولا منافاة بينهما . فإن الحديث الأول : فيمن كانت لها عادة تعلم قدرها فإذا استحيضت قعدت قدر العادة ولهذا قال : { فدعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها } وقال : { إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي } وبهذا الحديث أخذ جمهور العلماء في المستحاضة المعتادة . أنها ترجع إلى عادتها وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي والإمام أحمد .

                لكنهم متنازعون لو كانت مميزة تميز الدم الأسود من الأحمر : فهل تقدم التمييز على العادة ؟ أم العادة على التمييز ؟ فمنهم من يقدم التمييز على العادة . وهو مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين .

                والثاني : في أنها تقدم العادة وهو ظاهر الحديث وهو مذهب [ ص: 629 ] أبي حنيفة وأحمد في أظهر الروايتين عنه ; بل أبو حنيفة لم يعتبر التمييز كما أن مالكا لم يعتبر العادة . لكن الشافعي وأحمد يعتبران هذا وهذا والنزاع في التقديم .

                وأما الحديث الثاني : فليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تغتسل لكل صلاة ولكن أمرها بالغسل مطلقا فكانت هي تغتسل لكل صلاة والغسل لكل صلاة مستحب ; ليس بواجب عند الأئمة الأربعة وغيرهم إذا قعدت أياما معلومة هي أيام الحيض ثم اغتسلت كما تغتسل من انقطع حيضها ثم صلت وصامت في هذه الاستحاضة بل الواجب عليها أن تتوضأ عند كل صلاة من الصلوات الخمس عند الجمهور كأبي حنيفة والشافعي وأحمد . وأما مالك فعنده ليس عليها وضوء ولا غسل فإن دم الاستحاضة لا ينقض الوضوء عنده لا هو ولا غيره من النادرات وقد احتج الأكثرون بما في الترمذي وغيره { أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر المستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة } .

                وهذه المستحاضة الثانية لم تكن مبتدأة وإن كان ذلك قد ظنه بعض الناس فإنها كانت عجوزا كبيرة وإنما حملوا أمرها على أنها كانت ناسية لعادتها وفي السنن : { أنها أمرت أن تحيض ستا أو سبعا } كما جاء ذلك في حديث سلمة بنت سهل وبهذا احتج [ ص: 630 ] الإمام أحمد وغيره على أن المستحاضة المتميزة تجلس ستا أو سبعا وهو غالب الحيض .

                وفي المستحاضة عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنن : سنة في العادة لمن تقدم وسنة في المميزة وهو قوله : { دم الحيض أسود يعرف } وسنة في غالب الحيض وهو قوله : { تحيضي ستا أو سبعا ثم اغتسلي وصلي ثلاثا وعشرين أو أربعا وعشرين كما تحيض النساء ويطهرن لميقات حيضهن وطهرهن } .

                والعلماء لهم في الاستحاضة نزاع فإن أمرها مشكل لاشتباه دم الحيض بدم الاستحاضة فلا بد من فاصل يفصل هذا من هذا . والعلامات التي قيل بها ستة : إما العادة فإن العادة أقوى العلامات ; لأن الأصل مقام الحيض دون غيره .

                وإما التمييز ; لأنه الدم الأسود والثخين المنتن أولى أن يكون حيضا من الأحمر .

                وإما اعتبار غالب عادة النساء ; لأن الأصل إلحاق الفرد بالأعم [ ص: 631 ] الأغلب فهذه العلامات الثلاث تدل عليها السنة والاعتبار ومن الفقهاء من يجلسها ليلة وهو أقل الحيض ومنهم من يجلسها الأكثر ; لأنه أصل دم الصحة . ومنهم من يلحقها بعادة نسائها .

                وهل هذا حكم الناسية . أو حكم المبتدأة والناسية جميعا فيه نزاع ؟ وأصوب الأقوال اعتبار العلامات التي جاءت بها السنة وإلغاء ما سوى ذلك .

                وأما المتميزة فتجلس غالب الحيض كما جاءت به السنة ومن لم يجعل لها دما محكوما بأنه حيض بل أمرها بالاحتياط مطلقا فقد كلفها أمرا عظيما لا تأتي الشريعة بمثله وفيه تبغيض عبادة الله إلى أهل دين الله وقد رفع الله الحرج عن المسلمين وهو من أضعف الأقوال جدا .

                وأصل هذا أن الدم باعتبار حكمه لا يخرج عن خمسة أقسام : دم مقطوع بأنه حيض كالدم المعتاد الذي لا استحاضة معه .

                ودم مقطوع بأنه استحاضة كدم الصغيرة .

                ودم يحتمل الأمرين لكن الأظهر أنه حيض . وهو دم المعتادة [ ص: 632 ] والمميزة ونحوهما من المستحاضات الذي يحكم بأنه حيض .

                ودم يحتمل الأمرين والأظهر أنه دم فساد . وهو الدم الذي يحكم بأنه استحاضة من دماء هؤلاء .

                ودم مشكوك فيه لا يترجح فيه أحد الأمرين فهذا يقول به طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما فيوجبون على من أصابها أن تصوم وتصلي ثم تقضي الصوم والصواب أن هذا القول باطل لوجوه : أحدها : أن الله تعالى يقول : { وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } فالله تعالى قد بين للمسلمين في المستحاضة وغيرها ما تتقيه من الصلاة والصيام في زمن الحيض فكيف يقال : إن الشريعة فيها شك مستمر يحكم به الرسول وأمته نعم : قد يكون شك خاص ببعض الناس . كالذي يشك هل أحدث أم لا ؟ كالشبهات التي لا يعلمها كثير من الناس فأما شك وشبهة تكون في نفس الشريعة فهذا باطل والذين يجعلون هذا دم شك يجعلون ذلك حكم الشرع ; لا يقولون : نحن شككنا ; فإن الشاك لا علم عنده فلا يجزم وهؤلاء يجزمون بوجوب الصيام وإعادته لشكهم .

                الوجه الثاني : أن الشريعة ليس فيها إيجاب الصلاة مرتين ولا [ ص: 633 ] الصيام مرتين إلا بتفريط من العبد . فأما مع عدم تفريطه فلم يوجب الله صوم شهرين في السنة ولا صلاة ظهرين في يوم وهذا مما يعرف به ضعف قول من يوجب الصلاة ويوجب إعادتها . فإن هذا أصل ضعيف . كما بسط القول عليه في غير هذا الموضع .

                ويدخل في هذا من يأمر بالصلاة خلف الفاسق وإعادتها وبالصلاة مع الأعذار النادرة التي لا تتصل وإعادتها ومن يأمر المستحاضة بالصيام مرتين ونحو ذلك مما يوجد في مذهب الشافعي وأحمد في أحد القولين .

                فإن الصواب ما عليه جمهور المسلمين أن من فعل العبادة كما أمر بحسب وسعه فلا إعادة عليه كما قال تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } ولم يعرف قط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر العبد أن يصلي الصلاة مرتين لكن يأمر بالإعادة من لم يفعل ما أمر به مع القدرة على ذلك كما قال للمسيء في صلاته : { ارجع فصل فإنك لم تصل } وكما أمر من صلى خلف الصف وحده أن يعيد الصلاة " فأما المعذور كالذي يتيمم لعدم الماء أو خوف الضرر باستعماله لمرض أو لبرد وكالاستحاضة وأمثال هؤلاء ; فإن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هؤلاء أن يفعلوا ما يقدرون عليه بحسب استطاعتهم ويسقط عنهم ما يعجزون عنه بل سنته فيمن كان لم يعلم الوجوب أنه لا قضاء [ ص: 634 ] عليه ; لأن التكليف مشروط بالتمكن من العلم والقدرة على الفعل .

                ولهذا لم يأمر عمر وعمارا بإعادة الصلاة لما كانا جنبين . فعمر لم يصل وعمار تمرغ كما تتمرغ الدابة ظنا أن التراب يصل إلى حيث يصل الماء وكذلك الذين أكلوا من الصحابة حتى تبين لهم الحبال السود من البيض لم يأمرهم بالإعادة . وكذلك الذين صلوا إلى غير الكعبة قبل أن يبلغهم الخبر الناسخ لم يأمرهم بالإعادة وكان بعضهم بالحبشة وبعضهم بمكة وبعضهم بغيرها بل بعض من كان بالمدينة صلوا بعض الصلاة إلى الكعبة وبعضها إلى الصخرة ولم يأمرهم بالإعادة ونظائرها متعددة .

                فمن استقرأ ما جاء به الكتاب والسنة تبين له أن التكليف مشروط بالقدرة على العلم والعمل فمن كان عاجزا عن أحدهما سقط عنه ما يعجزه ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها .

                ولهذا عذر المجتهد المخطئ لعجزه عن معرفة الحق في تلك المسألة وهذا بخلاف المفرط المتمكن من فعل ما أمر به فهذا هو الذي يستحق العقاب ; ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين : { صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب } وهذه قاعدة كبيرة تحتاج إلى بسط ليس هذا موضعه .

                [ ص: 635 ] ومقصود السائل ما يتعلق بالمستحاضة وقد بينا أن الصواب أنه ليس عليها في صورة من الصور أن تصوم وتقضي الصوم . كما يقوله في بعض الصور من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما وأنه ليس عليها أن تغتسل لكل صلاة باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم والله أعلم .




                الخدمات العلمية