الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 239 ] وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن مسائل يكثر وقوعها ويحصل الابتلاء بها والضيق والحرج على رأي إمام بعينه : منها " مسألة الجماعة للصلاة " هل هي واجبة ؟ أم سنة ؟ وإذا قلنا : واجبة هل تصح الصلاة . بدونها مع القدرة عليها ؟ .

                التالي السابق


                فأجاب : وأما الجماعة فقد قيل : إنها سنة وقيل : إنها واجبة على الكفاية وقيل : إنها واجبة على الأعيان . وهذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة فإن الله أمر بها في حال الخوف ففي حال الأمن أولى وآكد .

                وأيضا فقد قال تعالى . { واركعوا مع الراكعين } وهذا أمر بها . وأيضا فقد ثبت في الصحيح { أن ابن أم مكتوم سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يرخص له أن يصلي في بيته فقال : هل تسمع النداء ؟ قال : نعم قال : فأجب وفي رواية ما أجد لك رخصة } وابن أم مكتوم كان رجلا صالحا وفيه نزل قوله تعالى [ ص: 240 ] { عبس وتولى } { أن جاءه الأعمى } وكان من المهاجرين ولم يكن من المهاجرين من يتخلف عنها إلا منافق فعلم أنه لا رخصة لمؤمن في تركها .

                وأيضا فقد ثبت عنه في الصحاح أنه قال : " { لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا يصلي بالناس ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار . } وفي رواية " { لولا ما في البيوت من النساء والذرية } فبين أنه إنما يمنعه من تحريق المتخلفين عن الجماعة من في البيوت من النساء والأطفال فإن تعذيب أولئك لا يجوز ; لأنه لا جماعة عليهم .

                ومن قال : إن هذا كان في الجمعة أو كان لأجل نفاقهم . فقوله ضعيف فإن المنافقين لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يقتلهم لأجل النفاق بل لا يعاقبهم إلا بذنب ظاهر فلولا أن التخلف عن الجماعة ذنب يستحق صاحبه العقاب لما عاقبهم . والحديث قد بين فيه التخلف عن صلاة العشاء والفجر . وقد تقدم حديث ابن أم مكتوم وأنه لم يرخص له في التخلف عن الجماعة .

                وأيضا فإن الجماعة يترك لها أكثر واجبات الصلاة في صلاة الخوف وغيرها فلولا وجوبها لم يؤمر بترك بعض الواجبات لها ; لأنه لا يؤمر بترك الواجبات لما ليس بواجب .



                [ ص: 241 ] فصل وإذا ترك الجماعة من غير عذر : ففيه قولان في مذهب أحمد وغيره : أحدهما : تصح صلاته ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم " { تفضل صلاة الرجل في الجماعة على صلاته وحده بخمس وعشرين درجة } والثاني : لا تصح لما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له } ولقوله : " { لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد } وقد قواه عبد الحق الإشبيلي .

                وأيضا فإذا كانت واجبة فمن ترك واجبا في الصلاة لم تصح صلاته .

                وحديث التفضيل محمول على حال العذر . كما في قوله : " { صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم وصلاة القائم على النصف من صلاة [ ص: 242 ] القاعد } . وهذا عام في الفرض والنفل .

                والإنسان ليس له أن يصلي الفرض قاعدا أو نائما إلا في حال العذر وليس له أن يتطوع نائما عند جماهير السلف والخلف ; إلا وجها في مذهب الشافعي وأحمد .

                ومعلوم أن التطوع بالصلاة مضطجعا بدعة لم يفعلها أحد من السلف وقوله صلى الله عليه وسلم " { إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم } يدل على أنه يكتب له لأجل نيته وإن كان لا يعمل عادته قبل المرض والسفر فهذا يقتضي أن من ترك الجماعة لمرض أو سفر وكان يعتادها كتب له أجر الجماعة وإن لم يكن يعتادها لم يكن يكتب له وإن كان في الحالين أن ما له بنفس الفعل صلاة منفرد . وكذلك المريض إذا صلى قاعدا أو مضطجعا . وعلى هذا القول فإذا صلى الرجل وحده . وأمكنه أن يصلي بعد ذلك في جماعة فعل ذلك وإن لم يمكنه فعل الجماعة استغفر الله كمن فاتته الجمعة وصلى ظهرا وإن قصد الرجل الجماعة ووجدهم قد صلوا كان له أجر من صلى في الجماعة كما وردت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                وإذا أدرك مع الإمام ركعة فقد أدرك الجماعة وإن أدرك أقل [ ص: 243 ] من ركعة فله بنيته أجر الجماعة ولكن هل يكون مدركا للجماعة أو يكون بمنزلة من صلى وحده . فيه قولان للعلماء في مذهب الشافعي وأحمد .

                أحدهما : أنه يكون كمن صلى في جماعة كقول أبي حنيفة .

                والثاني : يكون كمن صلى منفردا كقول مالك وهذا أصح لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة } ولهذا قال الشافعي وأحمد ومالك وجمهور العلماء : إنه لا يكون مدركا للجمعة إلا بإدراك ركعة من الصلاة ولكن أبو حنيفة ومن وافقه يقولون : إنه يكون مدركا لها إذا أدركهم في التشهد .

                ومن فوائد النزاع في ذلك : أن المسافر إذا صلى خلف المقيم أتم الصلاة إذا أدرك ركعة فإن أدرك أقل من ركعة فعلى القولين المتقدمين .

                والصحيح أنه لا يكون مدركا للجمعة ولا للجماعة إلا بإدراك ركعة وما دون ذلك لا يعتد له به وإنما يفعله متابعة للإمام . ولو بعد السلام كالمنفرد باتفاق الأئمة .



                [ ص: 244 ] وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه فصل فأما صلاة الجماعة : فاتبع ما دل عليه الكتاب والسنة وأقوال الصحابة من وجوبها مع عدم العذر وسقوطها بالعذر .

                وتقديم الأئمة بما قدم به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : " { يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة } فيفرق بين العلم بالكتاب أو العلم بالسنة كما دل عليه الحديث . وإنما يكون ترجيح بعض الأئمة على بعض إذ استووا في المعرفة بإقام الصلاة على الوجه المشروع وفعلها على السنة وفي دين الإمام الذي يخرج به المأموم عن نقص الصلاة خلفه . فإذا استويا في كمال الصلاة منهما وخلفهما قدم الأقرأ ثم الأعلم بالسنة وإلا ففضل الصلاة في نفسها مقدم على صفة إمامها وما يحتاج إليه من العلم والدين فيها مقدم على ما يستحب من ذلك .

                [ ص: 245 ] وغيره . قد يقول هي سنة مؤكدة . وقد يقول هي فرض على الكفاية .

                ولهم في تقديم الأئمة خلاف ويأمرهم بإقامة الصفوف فيها كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من سننها الخمس : وهي تقويم الصفوف ورصها وتقاربها وسد الأول فالأول وتوسيط الإمام حتى ينهى عما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من صلاة المنفرد خلف الصف وبأمره بالإعادة كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في حديثين ثابتين عنه فإنه أمر المنفرد خلف الصف بالإعادة كما أمر المسيء في صلاته بالإعادة وكما أمر المسيء في وضوئه الذي ترك موضع ظفر من قدمه لم يمسه الماء بالإعادة فهذه . المواضع دلت على اشتراط الطهارة والاصطفاف في الصلاة والإتيان بأركانها .

                والذين خالفوا حديث المنفرد خلف الصف كأبي حنيفة ومالك والشافعي منهم من لم يبلغه أو لم يثبت عنده والشافعي رآه معارضا بكون الإمام يصلي وحده وبكون مليكة جدة أنس صلت خلفهم وبحديث أبي بكرة لما ركع دون الصف .

                وأما أحمد فأصله في الأحاديث إذا تعارضت في قضيتين متشابهتين غير متماثلتين فإنه يستعمل كل حديث على وجهه ولا يرد أحدهما [ ص: 246 ] بالآخر . فيقول في مثل هذه : المرأة إذا كانت مع النساء . صلت بينهن وأما إذا كانت مع الرجال لم تصل إلا خلفهم وإن كانت وحدها ; لأنها منهية عن مصافة الرجال فانفرادها عن الرجال أولى بها من مصافتهم كما أنها إذا صلت بالنساء صلت بينهن ; لأنه أستر لها كما يصلي إمام العراة بينهم وإن كانت سنة الرجل الكاسي إذا أم أن يتقدم بين يدي الصف .

                ونقول : إن الإمام لا يشبه المأموم فإن سنته التقدم لا المصافة وسنة المؤتمين الاصطفاف . نعم يدل انفراد الإمام والمرأة على جواز انفراد الرجل المأموم لحاجة وهو ما إذا لم يحصل له مكان يصلي فيه إلا منفردا فهذا قياس قول أحمد وغيره ولأن واجبات الصلاة وغيرها تسقط بالأعذار فليس الاصطفاف إلا بعض واجباتها فسقط بالعجز في الجماعة كما يسقط غيره فيها وفي متن الصلاة .

                ولهذا كان تحصيل الجماعة في صلاة الخوف والمرض ونحوهما مع استدبار القبلة والعمل الكثير ومفارقة الإمام ومع ترك المريض القيام : أولى من أن يصلوا وحدانا ولهذا ذهب بعض أصحاب أحمد إلى أنه يجوز تقديم المؤتم على الإمام عند الحاجة كحال الزحام ونحوه وإن كان لا يجوز لغير حاجة وقد روي في بعض صفات صلاة الخوف .

                ولهذا سقط عنده . وعند غيره . من أئمة السنة ما يعتبر للجماعة : من [ ص: 247 ] عدل الإمام وحل البيعة ونحو ذلك للحاجة فجوزوا بل أوجبوا فعل صلوات الجمعة والعيدين والخوف والمناسك ونحو ذلك خلف الأئمة الفاجرين وفي الأمكنة المغصوبة إذا أفضى ترك ذلك إلى ترك الجمعة والجماعة أو إلى فتنة في الأمة ونحو ذلك . كما جاء في حديث جابر " { لا يؤمن فاجر مؤمنا إلا أن يقهره سلطان يخاف سيفه أو سوطه } لأن غاية ذلك أن يكون عدل الإمام واجبا فيسقط بالعذر كما سقط كثير من الواجبات في جماعة الخوف بالعذر .

                ومن اهتدى لهذا الأصل ، وهو أن نفس واجبات الصلاة تسقط بالعذر فكذلك الواجبات في الجماعات ونحوها فقد هدي لما جاءت به السنة من التوسط بين إهمال بعض واجبات الشريعة رأسا كما قد يبتلى به بعضهم وبين الإسراف في ذلك الواجب حتى يفضي إلى ترك غيره من الواجبات التي هي أوكد منه عند العجز عنه وإن كان ذلك الأوكد مقدورا عليه كما قد يبتلى به آخرون . فإن فعل المقدور عليه من ذلك دون المعجوز عنه هو الوسط بين الأمرين .

                وعلى هذا الأصل تنبني مسائل الهجرة والعزم التي هي أصل " مسألة الإمامة " بحيث لا يفعل ولا تسع القدرة ولهذا كان أحمد في المنصوص عنه وطائفة من أصحابه يقول : يجوز اقتداء المفترض بالمتنفل للحاجة كما في صلاة الخوف . وكما لو كان المفترض غير قارئ كما في [ ص: 248 ] حديث عمرو بن سلمة ومعاذ ونحو ذلك . وإن كان لا يجوزه لغير حاجة على إحدى الروايتين عنه فأما إذا جوزه مطلقا فلا كلام وإن كان من أصحابه من لا يجوزه بحال فصارت الأقوال في مذهبه وغير مذهبه ثلاثة . والمنع مطلقا هو المشهور عن أبي حنيفة ومالك كما أن الجواز مطلقا هو قول الشافعي .

                ويشبه هذا مفارقة المأموم إمامه قبل السلام فعنه ثلاث روايات : أوسطها جواز ذلك للحاجة كما تفعل الطائفة الأولى في صلاة الخوف وكما فعل الذي طول عليه معاذ صلاة العشاء الآخرة لما شق عليه طول الصلاة .

                والثانية المنع مطلقا كقول أبي حنيفة .

                والثالثة : الجواز مطلقا كقول الشافعي ولهذا جوز أحمد على المشهور عنه أن تؤم المرأة الرجال لحاجة مثل أن تكون قارئة وهم غير قارئين فتصلي بهم التراويح كما أذن النبي صلى الله عليه وسلم لأم ورقة أن تؤم أهل دارها وجعل لها مؤذنا وتتأخر خلفهم وإن كانوا مأمومين بها للحاجة وهو حجة لمن يجوز تقدم المأموم لحاجة هذا مع ما روي عنه صلى الله عليه وسلم من قوله : " { لا تؤمن امرأة [ ص: 249 ] رجلا } وإن المنع من إمامة المرأة بالرجال قول عامة العلماء .

                ولهذا الأصل استعمل أحمد ما استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله في الإمام : " { إذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون } وأنه علل ذلك بأنه يشبه قيام الأعاجم بعضهم لبعض فسقط عن المأمومين القيام لما في القيام من المفسدة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم من مخالفة الإمام والتشبه بالأعاجم في القيام له . وكذلك عمل أئمة الصحابة بعده لما اعتلوا فصلوا قعودا والناس خلفهم قعود كأسيد بن الحضير ولكن كره هذا لغير الإمام الراتب إذ لا حاجة إلى نقص الصلاة في الائتمام به ، ولهذا كرهه أيضا إذا مرض الإمام الراتب مرضا مزمنا ; لأنه يتعين حينئذ انصرافه عن الإمامة ولم ير هذا منسوخا بكونه في مرضه صلى في أثناء الصلاة قاعدا وهم قيام لعدم المنافاة بين ما أمر به وبين ما فعله ولأن الصحابة فعلوا ما أمر به بعد موته مع شهودهم لفعله .

                فيفرق بين القعود من أول الصلاة والقعود في أثنائها إذ يجوز الأمران جميعا إذ ليس في الفعل تحريم للمأمور به بحال مع ما في هذه المسائل من الكلام الدقيق الذي ليس هذا موضعه .

                وإنما الغرض التنبيه على قواعد الشريعة التي تعرفها القلوب الصحيحة [ ص: 250 ] التي دل عليها قوله تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } وقوله صلى الله عليه وسلم " { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } وأنه إذا تعذر جمع الواجبين قدم أرجحهما وسقط الآخر بالوجه الشرعي والتنبيه على ضوابط من مآخذ العلماء رضي الله عنهم .




                الخدمات العلمية